مدارات

صبيحة قيام الثورة / جواد وادي

كنت يومها قد أكملت سنتي الثامنة وثلاثة عشر يوما حسب ما دوّن موظفو الإحصاء أعمارنا، نحن من توحدت مواليدهم في الأول من تموز، ولعل عددنا كجيل واحد فاق ثلثي نفوس العراقيين آنذاك وبات تاريخا رسميا وكأن أمهاتنا قد وضعن مواليدهن معا في ذلك التاريخ رغم أنوفنا جميعا، مواليدا وأمهات وأفراد مجتمع شبه أمي.
صبيحة الرابع عشر من تموز يوم الثورة، وكعهد أسرتي بتكليفي، باعتباري الطفل الصغير والأضعف في الأسرة صبيحة كل يوم، وبينما أخوتي ينعمون بنومهم، كنت أكلّف بالذهاب لجارنا السيد اللويس، حيث تبقى زوجته في المنزل لبيع كبة البرغل لسكنة الحي، في حين يخرج هو كعادته يوميا إلى الضفة الأخرى من السدة حيث مدينة بغداد بشوارعها ونظافتها خلافا لأوضاعنا البائسة، نحن ساكني البيوت الطينية في صرائف خلف السدة، وفجأة دخل الرجل داره، وجسده يرتعش فوضع قدر الكبة ولوازمه الأخرى، وهو يصرخ بصوت متهدج، لا تبيعي أي شيء اليوم يا امرأة وأغلقي باب المنزل، وكأنه لم يرني من شدة رعبه، وحين سألته عن السبب، أجاب، وهو لم يزل في حالة من الهلع، أنهم قتلوا الملك. إن الثورة قد قامت ضد العائلة المالكة، فأطلقت زوجته صرخة مدوية، وطلبت مني الخروج في الحين بعد أن زودتني بطلبي، لكنني لم أفهم أي شيء سوى مقتل الملك الذي كنت قد رأيته يوم فيضان بغداد، وهو يحمل كيس التراب أسوة بالناس لمنع الطوفان الذي كان يهدد بإغراق بغداد.
أسرعت لدارنا بخوف طفل صغير وأخبرتهم بما سمعت، فهاجت العائلة وماجت وأسرع أبي لفتح الراديو، نوع فيليبس، الذي كان قد اشتراه ليجتمع هو وأصدقاؤه لسماع الأخبار والأغاني وبرامج صوت العرب، كانت تصاحب الراديو بطارية بنصف حجم الجهاز تسمى "بيريك" وفي الحين لعلع صوت المذيع ببيان إعلان الثورة الذي كان يتكرر لعدة مرات، حيث علمت فيما بعد أنه كان صوت عبد السلام عارف، تعقبه الموسيقى الحماسية.
بدأ الجيران، ما إن سمعوا بالخبر يتوافدون على دارنا لسماع الأخبار المزلزلة، حيث لم يحتكم أي منزل على جهاز مذياع، والحقيقة أنها لم تكن منازل بل بيوت طينية تغطيها البواري المصنوعة من خوص سعف النخل تسمى صرائف خلف السدة، فهلل أخي الأكبر فرحا وشرع بالهتافات بحياة العراقيين ويوم النصر، وما عرفنا من أين له هذا الخزين، وبهمة الثوري الفطري، ارتدى ملابسه على عجل دون أن يتناول الكبة التي أحضرتها وطلب مني اصطحابه لأنه كان يحبني جدا، خرجنا نحث الخطى، مرتديا دشداشتي وخفا قديما حتى عبرنا السدة ووصلنا القصر الأبيض وإذا بطوفان البشر قد اجتمعوا، وهم في هرج ومرج، يهتفون بحياة الحزب الشيوعي وبقادته الميامين ممن قضوا على مذبح الحرية، ويطلقون شعارات ثورية لتمجيد قادة الثورة وضد حلف بغداد وأمريكا والامبريالية العالمية وسواها من الهتافات التي لم أفقه معانيها إلا لاحقا.
استمرت المظاهرات في ذلك اليوم القائظ دون أن يشعر الناس بلفحة الشمس الحارقة فأخذت أبكي من شدة الحر والعطش وأجساد البشر الملتصقة بعضها ببعض دونما إحساس بقسوة الحرارة فأسرع أخي لجلب الماء ليطفئ لهيب العطش، تمالكت نفسي وهدأت سورتي وشرعت مع الهائجين أردد ما يقولون دون أن أفهم المعنى.
مرت الأيام سريعا، وأخذت الأحداث تتوالى وإذا بي أفهم من خلال الاجتماعات الحزبية التي تكثفت في دارنا مع بعض أقران أخي من الرفاق الشيوعيين أن احتقانات هائلة راحت تتفجر بدواخلهم بعد أن أخفوها عن اقرب الناس إليهم بسبب السلطة القمعية وظروف العمل السري عهدذاك.
تلك كانت أبجديات الوعي السياسي بعفويته وحماسه وصدق أحاسيسه التي شكلت البذرة الأولى للتعلق بفكر الطبقة العاملة وكل المحرومين وما زالت تلك المشاعر النبيلة تعتمل بوجداننا رغم بلوغ درجات من النضج السياسي الذي عمق القناعات بذلك الفكر العلمي الرصين والنقي نقاء الذات البشرية بصدق انتمائها وعمق تعلقها وأبلغ الصيغ في التضحية من أجل الحفاظ على الثبات على خطى المبادئ النبيلة وشهداء الحزب الأبرار.
بعد قيام الثورة بشهرين وبعد أن أخذنا نتعرف على مفردات جديدة من القيم الثورية، شرعت في دراستي الابتدائية في سن متأخرة نسبيا شأن غالبية أبناء المسحوقين وخصوصا من قاطني صرائف العاصمة، وكانت مدرستي تسمى مدرسة الطليعة، بعد أن تم تغيير اسمها بعيد الثورة، إذ كانت تسمى قبل الثورة، مدرسة اليعربية، وكانت تقع خلف القصر الأبيض، قرب وزارة البلديات، كانت سنة دخولي المدرسة تسمى سنة الزحف، حيث سمحت الثورة بانتقال الراسبين من السنة السابقة إلى الصفوف الأعلى كهدية من الثورة لأبناء العراقيين رغم تحفظنا على هذا الإجراء الذي أضر بسمعة التعليم في العراق نسبيا واتخذه أعداء الثورة ذريعة للنيل من الثورة الشعبية المظفرة.
كان الشارع العراقي أيامها يغلي بالشعارات الجديدة والفعل النضالي والمسيرات التي ما انفكت تجوب شوارع بغداد وكل مدن العراق، وبما أن مدرستي كانت على بعد خطوات من القصر الأبيض، الأمر الذي جعل إدارة المدرسة تخرجنا للاصطفاف على جانبي الطريق كلما قدم زائر مهم للعراق، وهكذا كانت مشاهداتي لزعيم الثورة الشهيد عبد الكريم قاسم، حين كان يحل ضيوف أعزة عليه وعلى العراق، أمثال الملك محمد الخامس، ملك المغرب، واحمد سيكوتوري رئيس اندونيسيا، وجوزيف بروز تيتو رئيس يوغسلافيا، وعباس فرحات رئيس وزراء الجزائر وغيرهم.
تلك كانت بداية تعلقي وحبي للزعيم الخالد عبد الكريم قاسم وتنامي حبي للحزب الشيوعي العراقي العتيد.
هذا باختصار شديد بعض ما رسخ في ذاكرتي عن الثورة ويوم تفجرها وعن زعيمها الراحل وبعض المحطات وهو غيض من فيض مما يسمح به هذا الحيز المتاح.
أصدق الأماني واحلى التبريكات بحلول هذه المناسبة الغالية للثورة المباركة وزعيمها ورفاقه، شهداء العراق والحرية، والمجد لشهداء الحزب الشيوعي الميامين، وكل تموز والعراق والعراقيون بخير وسلام وتقدم وأمن
مضطرد.