مدارات

في عيد الثورة ال 56: ذكريات عامل طباعة / كمال يلدو

مع أن ذكرى الثورة تعود كل عام، بين فرح وحزن، بين حسرة أو ألم، إلا أن جيلا من العراقيين ارتبط وجدانيا بها، بزعيمها وقادتها، بقوانينها وإنجازاتها، بنجاحاتها وإخفاقاتها، بنهايتها المأساوية، ومصير قادتها. إلا أن حوادث أخرى تركت بصماتها عند الكثيرين، تعود معلنة عن نفسها، تارة بصمت وتارة بصرخة مدوية لتقول: هل سنتعلم الدرس؟

هكذا ينظر الصحفي المخضرم فؤاد منـّا الى بعض الصور التي رافقت أيام الثورة الأولى، والتي مازالت شاخصة لليوم، ليس في ذاكرته فحسب، بل في تجربته السياسية التي رافقت مهنته كعامل طباعة، إبان عهد الثورة ويقول:
دخلت عالم الصحافة في العاصمة بغداد كعامل طباعة (مصفف حروف فني) عام 1957 في "جريدة الشعب" التي كان يملكها السيد "يحيى قاسم" إثر دورة في التدريب على ماكنة (انترتايب) ولم يكن هذا الأختيار بدافع حب السياسة، بقدر ما كان مهنيا. فقد كنت في مقتبل الشباب آنذاك، وأبحث عن مهنة توفر لي مصدرا ماليا متوازنا وثابتا، ولهذا عملت فيها، وفعلا كان لي ما كنت أطمح اليه آنذاك. لم تكن للجريدة سياسة منحازة، بل كانت جريدة مستقلة. عملت فيها، وتعرفت على كادرها الصحفي الذي شرفني بخبرته الإعلامية والسياسية والأدبية والثقافية.
يورد الأستاذ فؤاد منا، المشهد كما عاشه وتلمسه، ومن ثم استخلص منه الدرس ويستذكر بعضا من تلك الأيام التي سبقت الثورة:
مع أني كنت أعمل في "جريدة الشعب" إلا أني كنت أحتفظ بعلاقات المهنة والزمالة مع بعض الأخوة الذين يعملون في الصحف الأخرى، ومنها جريدة "الزمان" ذائعة الصيت آنذاك، والتي كان يملكها السيد "توفيق السمعاني" فقد كانت تعتبر "جريدة القصر" والمفضلة لدى العائلة الملكية، وانعكس ذلك على ماليتها التي كانت جيدة جدا، لأنها كانت المميزة في نشر الإعلانات الحكومية. ويورد الأستاذ منـّا بعضا من الحوادث فيقول:
كانت بناية "الزمان" تقع خلف مبنى "إسالة الماء" في منطقة الميدان، وهذا عمليا يعني، ملاصقتها لمبنى وزارة الدفاع، وكان فيها (قبو) يلتقي فيه العديد من القادة والسياسيين مع مسؤلي الجريدة، وقد كان المرحوم المهداوي من بينهم، فقد كان على علاقة طيبة مع السيد "ابراهيم علي" رئيس تحريرها، فيما كانت زيارات "الزعيم" أقل اليها.

في صباح يوم الثورة، أمر "قاسم" اثنين من حرس الانضباط بحراسة بوابة جريدة "الزمان" خشية هجوم المتظاهرين، وخاصة اولئك "المنفلتين" الذين راحوا يعبثون ويدمرون أي شيء كان على صلة بالعهد الملكي، أو يعود اليه، متناسين بأن ساعات الغضب هذه قد دفع الشعب العراقي ثمنها لاحقا. المهم في الأمر، يذكر الأستاذ فؤاد:
بأن هذه الجموع فعلا كانت تنوي تدمير "الزمان" أو حرقها، أو العبث بمكائنها على أقل تقدير، لكن حسن التدبير منع هذا الأمر من الحدوث، خاصة حينما مرت مسيرات تأييد الثورة من أمامها، وهتف بعضهم بأنها "جريدة صفراء" ويجب حرقها، فقد منعهم من ذلك الحرس الموجود أمام البناية، وكانت الرسالة واضحة.
يعود شريط الأيام بالأستاذ فؤاد منّا الى تلك الساعات، فيستذكرها وكأنها مـّرت للتو ويقول:
بعد الثورة، صدر من "جريدة الشعب" عددان خبريان، لم يحملا أيا من المواقف الصاخبة، إن كان ضد الثورة أو معها، وحتى أني أتذكر مانشيت جريدة 16 تموز وهو يقول (مصرع نوري السعيد) ولم يصفه بالمجرم او الخائن! لكن هذا ما جرى في اليوم الثالث، إذ شنت مجموعة من (البعثيين) هجوما عليها وأحتلوها، وكان من بينهم، سعدون حمادي، فؤاد قزانجي، طارق عزيز، صديق شنشل، فنهبوها، وسرقوا حتى السجادات (الزوالي) التي كانت موجودة، وأودع صاحبها السيد "يحيى قاسم" السجن بتهمة تعاطفه مع النظام الملكي، ولابد هنا من التذكير بأن وزير الداخلية آنذاك كان "عبد السلام عارف" وعلاقاته بالبعث والقوميين اتضحت لاحقا.
بقينا نحن العمال ثلاثة أيام ولم نغادر البناية، وكان قد التحق بالمجموعة أخيرا ناظم، وشقيقه حازم جواد وعبد الوهاب الغريري ومعاذ عبد الرحيم. مكثوا هناك 6 شهور، ولم يغادروها إلا بعد أن صدر أمر من الزعيم قاسم، جرى إرجاع المطبعة الى صاحبها (يحيى قاسم). كانت جماعة (البعث) هذه قد حسبت حساباتها بشكل مسبق، وتحسبا منهم لأي طارئ، فقد قاموا بعد (3) أيام من فعلتهم الأولى في احتلال جريدة (الشعب)، باحتلال (جريدة الأخبار) هذه المرة، والتي كانت مملوكة من قبل السيد "جبران ملكون" وهو أرمني عراقي، وكان قد جلب أحدث المكائن، ومنها أول ماكنة (رول)، فيما كانت بناية المطبعة تقع مقابل منطقة (القصر الأبيض)، وصدرت منها (جريدة الثورة). ومن الطريف أن أذكر، بأن أول عدد من "الثورة" صدر، كانت صفحته الأولى ملونة، ولم تكن مهمة ضبط الألوان بالسهلة، فجاءت الخطوط غير متناسقة، وتصدرت صورة الزعيم جمال عبد الناصر الصفحة الأولى، وما زلت أذكر كيف انهالوا بالضرب على الطباع (صباح) لأنه لم يضبط الألوان!
أعيدت المطبعة لصاحبها بعد مدة من الزمن، فعملنا بنصف الراتب لحين تم شراء الجريدة من قبل الشخصية الوطنية "كامل الجادرجي" وصدرت جريدة (الأهالي) الناطقة باسم الحزب الوطني الديمقراطي. قام المالك الجديد بتوظيف محررين جدد، وقد تشجعت لنشر بعض كتاباتي الأدبية في الصفحة الأدبية، وأذكر أن واحدة منها كانت عن الكاتبة اللبنانية (مـّي زيّادة). وبعد تقاعد الأستاذ الجادرجي، استلم الجريدة الأستاذ "مظهر العزاوي" وأصدر جريدة (البيان).

الدرس
كلما حاولت أن أعبر بذاكرتي الى الضفة الآمنة، تعيدني الأحداث وتضعني وجها لوجه أمام "المتجاوزين"، وتذكّرني ب"قطاع الطرق" وعصابات "الكاوبوي" التي أجبرتنا الظروف للتعامل معها، والاستماع لها، لا بل وحتى في الخضوع لأوامرها.
هذه المجموعة التي احتلت "جريدة الشعب" يقول عنها الأستاذ منا، هي ذاتها التي عادت وقفزت للسلطة في العام 1968، وهي ذاتها التي قامت بالإعدامات العلنية وحولتها الى كرنفالات في ساحة التحرير، وشنت الحرب في الشمال، ثم الحرب على الشيوعيين والإسلاميين، ثم الحرب مع ايران، واحتلال الكويت والحصار وحرب الخليج الأولى والثانية والثالثة والعاشرة....وأوصلت البلاد الى ما نحن نراه اليوم. وحينما كانوا على قمة الهرم، لم يعتذروا يوما للشعب العراقي عمّا اقترفته أياديهم في انقلاب 8 شباط الأسود، ولا حتى عن ضحاياهم بعد 1968، وحتى عندما أزيحوا من السلطة عقب 2003، لم يخرج أحد منهم ليعتذر للشعب العراقي ويعترف بأخطاء حزبه أو رئيسه صدام حسين!
أعود وأكرر القول فيما استخلصته من تجربتي البسيطة في الحكم على بعض القادة، ومفاهيمهم عن الحكم، فأستنبطها من الأسلوب الذي تعاملوا فيه مع "ممتلكات" لم تكن لهم، بكل بساطة. هؤلاء القادة، وهذه العقليات هي من أوصلت البلاد لهذا الدمار، ومن المحزن أن يتكرر المشهد اليوم مع الساسة الجدد، الذين استولوا على ممتلكات عامة، وحتى على بيوت وقصور ساسة العهد البائد وحولوها لهم. إن هذا المشهد لا ينبئ بخير، وهو "طالع" ســيئ بنظري، آمل أن يتداركه الشعب العراقي، ونخبه الوطنية. لقد دفعنا الثمن غاليا، ويعزّعليّ أن أرى الثمن مضاعفا في فاتورة العراقيين اليوم.
يقينا، كانت أيام الثورة رائعة، ومنجزاتها عظيمة، ولن أقف عند الأخطاء، لكني أنحني إجلالا لقادتها وشهدائها الأبرار.