مدارات

على أكتاف جنودنــــــــا البواسل / عبد الجبــار السعودي

فزعُ (أم جبار) على وليدها الصغير البالغ من العمر خمسة أعوام، والذي تركته عند عتبة الدار في زقاق المحلة، أجبر بقيــة النسوة اللاتي تجمّعن أمام بيوتهن وبعض الصبية للانتباه لتلك الصيحات المتعالية والمتكررة : يُمــّــــه وين وليــــدي؟!
كان هناك ما يشبه حظراً للتجوال فرضه الناس على أنفسهم، بعد سماعهم نبأ حدوث ثورة الرابع عشر من تموز، و بدا للبعض أن الأحوال لم تعد كما كانت قبل ليلة هادئة مضت، فخرج بعضهم يستطلع بعيداً عن أزقة (محلة السرّة) في القشلة، أحد أحياء مدينة البصرة المعروفة، حيث لم يكن هنالك من جنود أو أفراد للشرطة ينتشرون في تلك الساعات الأولى من عُمر الثورة الفتية.
هروب (جبـــار) و إفلاته من بين زحام الناس المكتظين في الزقاق، حيث يتجمع البعض وقوفاً والآخر مترقباً وجالساً عند عتبات البيوت، كان قبل غروب الشمس بوقت قصير، و لهذا فقد أجبرت صيحات (أم جبار) البعض لأن يهرع الى أبعد من ذلك الزقاق بحثاً عن مُراد الوالدة. الفزعة التي كانت تتبع هؤلاء الرجال ومن خلفها بعض فتية المحلة و أطفالها يركضون هامسين! الجميع ركضوا بحثاً عن هذا الهارب الصغير الذي اختفــى فجأة في وقت، كانت أمه تدخل البيت لتحضير العشاء لأفراد العائلة، تاركة وليدها يلهو مع بقية الصغار.
توجهوا مسرعين بعد أن تجاوزوا محلة الســرّة الى مطلع الشارع المؤدي الى (سوق الخضارة) ومدرسة المربد الابتدائية. توقفوا هناك و طالعوا الأمكنة القريبة لعلهم يعثرون على ضالتهم التي جاءوا من أجلها. و لاحت فجأة لأنظارهم من مسافة قريبة يدٌ تلوّح عالياً، تصاحبها صيحات بالنداء من رجلٍ قادم صوبهم، يسير الى جانبه جندي بملابسه العسكرية يحملُ طفلاً بيده اليمنى، ضامــاّ إياه الى صدره، و بيده الأخرى بندقيته التي تتدلى فوهتها للأسفل. علا صوت (أم جبار) فرحـــاً بما شاهدته، وامتدت يداها الى وليدها لكي تأخذه من على أكتاف الجندي، حيث اتكأ الصغير، وبدا كأنه مستسلم للنوم. طفحت البشارة وجوه الآخرين وتمتمت الأم بكلمات العرفان و الدُعاء للجندي (حسن) الذي جلب لها وليدها الصغير التائه على غفلة منها! طبع الجندي (حسن) قبلة على وجه الصغير وانحنى ليقبـّـل رأس والدته، طالباً من الجمع القادم أن يعودوا لبيوتهم و يحافظوا على صغارهم من الضياع!
بعد أشهر من عُمر الثورة جاء (حسن) صباح أحد الأيام الى ذات المحلة التي تعيش فيها تلك العائلة، وطرقَ باب البيت، فهرع (جبـار) راكضاً نحو الباب دون أن يستطيع فتح المزلاج الكبير الذي أحكم إغلاق الباب من الداخل. انبهرت الأم وهي تشاهد هذا الشاب الأسمر الذي طبعت وجهه الابتسامة، وهو يحيّيها: ها خالـــة أم جبار .. آنه حسن .. بس بدون خاكي و بدون سلاح ! لم تتمالك الأم نفسها، فنادت زوجها فرحةً بأعلى صوتها لكي يأتي، حيث تقف هي، وحيث يقف صغيرها، متطلعاً الى وجه (حسن) الذي أنقذه من الضياع. رفض (حسن) الدخول الى البيت طلباً لوالد الصغير، مكتفياً بقدحٍ من الماء جاءت به أم جبار، طالبة منه أن يأخذ عدداً من أقراص (خبز البيت) له ولأمه الضريرة التي تعيش معه في أحد الأحياء الشعبية القريبة!
لم تزل حكاية الجندي التي يتذكرها ذلك الصغير، الذي وخط الشيب شعره، بعد أكثر من نصف قرن من عُمر الثورة، تتراود في ذكرياته العابرة، في سنوات الحروب الرعناء المجنونة التي أجبر أن يكون جندياً مقهوراً فيها، لا يقوى على آلة الحروب و قسوتها و قسوة مُشعليها، وفي حاضر البلاد، حيث تلوح في خياله وتعيش في صدره وبين ضلوعه آمال كبيرة بأن أمثال ذلك الجندي الباسل (حسن) لن يتركوا الوطن مهدداً بالضياع..!