مدارات

ثورة 14 تموز1958 .. ثورة حقيقية وليست انقلاباً عسكرياً / صباح جاسم جبر

وضعت ثورة 14 تموز 1958 المجتمع العراقي على سكة الحداثة والتحديث لما شهده البلد من تطورات سريعة وآفاق رحبه في مختلف الميادين الحياتية، المادية والثقافية والعسكرية والتي انعكست كما أشار الدكتور عقيل الناصري "في بقية العلاقات الاقتصادية والاجتماعية والسياسية". ومحاولة خلق نوع من التوازن بين الدولة والمجتمع من خلال تبني عقد اجتماعي بينهما مؤسس على قواعد العيش المشترك ويعكس واقع التركيب الفسيفسائي للمجتمع العراقي.
تعد ثورة 14 تموز تاريخياً انعطافه كبرى وحاسمة في تاريخ الشعب العراقي المعاصر، لاسيما في ضمير ووجدان الطبقات والشرائح الاجتماعية الفقيرة والمهمشة سواء كان على الصعيد الوطني الديمقراطي او على المستوى الاجتماعي والاقتصادي، كما أنها شكلت علامة مشرقة ومضيئة في تاريخ القرن العشرين، لما نجم عنها من تطورات تاريخية هائلة شملت كافة الجوانب السياسية والاجتماعية والاقتصادية والثقافية والتربوية، انعكس ذلك وبقوة على شكل ومضمون العلاقات الاجتماعية والاقتصادية.
لقد انصب اهتمام ثورة 14 تموز ومنذ البدء على تأسيس مجتمع عراقي متماسك والعمل على بناء مشروع حقيقي لدولة حديثة، بعد ان كان المجتمع العراقي، وحسب المؤرخ الكبير حنا بطاطو "لم يكن العراقيون شعباً واحداً او جماعة سياسية واحدة" وكما يشير وفي نفس الموضوع إلى "وجود كثير من الأقليات العرقية والدينية في العراق" فالعرب أنفسهم الذين كانوا يؤلفون الأكثرية من سكان العراق كانوا يتشكلون إلى حد بعيد من المجتمعات المتميزة والمختلفة والمغلقة على الذات بالرغم من تمتعهم بسمات مشتركة.
أن ثورة 14 تموز المجيدة كانت حلاً راديكالياً لمجموعة من المشكلات الاجتماعية والاقتصادية التي كانت تعصف بالدولة والمجتمع وان النظام الملكي ومجموعة السياسيين المرتبطين به كانت لهم علاقات وثيقة مع الدوائر الاستعمارية لاسيما الاستعمار البريطاني، وإنهم عقدوا العزم على تنفيذ السياسات البريطانية بعيداً عن الإرادة الشعبية التي تقف بالضد منها والتي عبرت عنها في عدة انتفاضات جماهيرية كبيرة "انتفاضة 1948، انتفاضة 1952، انتفاضة 1956".
أن السياسات الرجعية للنظام الملكي قد قطعت الطريق أمام أية إمكانية اجتماعية أو سياسية للأخذ بأسباب التطور في البلاد مما أدى إلى خلق شعور اجتماعي عام بأنه ليس هناك أمل إلا في الثورة.
لقد جاءت ثورة 14 تموز 1958 نتيجة عوامل موضوعية ولأسباب ذاتية داخلية محلية وعوامل خارجية عالمية، ويقف في مقدمة تلك الأسباب، السياسات الاستبدادية ضد القوى الوطنية والديمقراطية واليسارية، والفقر المدفع الذي كان دون المستوى البشري، كما ان الموارد والثورات الطبيعية كانت نهباً للاستعمار، اضافة إلى الاستلابات الاجتماعية في المدينة والريف على حد سواء وتخلف الاقتصاد العراقي إضافة إلى تخلف الواقع الثقافي والتربوي، يضاف إلى ذلك كله ظهور عامل حاسم وهام على الساحة السياسية الداخلية تمثل في تشكيل جبهة الاتحاد الوطني عام 1957، والتي شكلت الدعامة السياسية لثورة تموز وكان لها الدور الأكبر في تعبئة الشارع العراقي واسناد الثورة، أما على المستوى الدولي، فقد شهدت المنطقة تحركاً ثورياً عارماً، فنجاح ثورة 23 يوليو 1952 في مصر وقيام الجمهورية العربية المتحدة "تجربة الوحدة بين مصر وسوريا" وقيام الثورة في الجزائر ونجاح الثورة في الصين والتطورات السياسية في إيران وبلدان أخرى، هذه العوامل وغيرها انعكست وبقوة على الواقع السياسي والاجتماعي في العراق.
كان الشغل الشاغل والهدف الرئيس لثورة 14تموز الانسان العراقي وتنمية الوعي الاجتماعي وتحقيق الرفاهية الاقتصادية وتوسيع قاعدة الحريات المدنية وصناعة الانسان من جديد وتحويل المجتمع من رعايا إلى مواطنين حقيقيين شركاء ومساهمين في العمل السياسي والاجتماعي.
ان الانجازات السياسية والاقتصادية والاجتماعية التي تحققت في ظل الثورة وفي اقل من خمس سنوات، يفوق تاريخياً ما أنجزته بعض الثورات المعاصرة لها في المنطقة، فبعد قانون الاحوال الشخصية- ولشهادة المختصين في القانون، بأنه قانون عصري ومتقدم وأنه أرقى من اي قانون للأحوال الشخصية في العراق والمنطقة لتنظيم العلاقات الأسرية، بعد ان كانت تخضع لتقاليد العشيرة والقبيلة والطائفة، والآن ونحن في الالفية الثالثة يخرج علينا من يريد ان يشرع قانوناً لطائفة محددة فهل هذا معقول...؟ كما أصدرت ثورة 14 تموز قانون رقم 80 بنتيجة الصراع مع شركات النفط الاحتكارية، وان هذا القانون كان مقدمة حقيقية لتأميم النفط فيما بعد.
ان برنامج ثورة 14 تموز كان بالاساس يهدف إلى بناء الانسان من خلال فك اسرة من الاستلابات الاقطاعية وشبه الاقطاعية وتحقيق استقلاليته وكرامته فجاء قانون رقم 30 للاصلاح الزراعي الذي أعاد الحقوق إلى الفلاح العراقي وبنفس الاتجاه ثم تغيير اشكال العلاقات الاجتماعية في الريف حيث كان الهدف الاساس للثورة العمل على تغيير التركيبة الاجتماعية والاقتصادية وتطويرها والانتقال بالمجتمع من حالة التشظي والتفكك والعشائرية إلى مجتمع متطور ومدني واكثر تماسكاً واكثر اندماجاً ولأجل ذلك تم الغاء قانون العشائر وأصبحت المدينة والريف تخضعان لقانون مدني واحد للعقوبات وعلى المستوى السياسي فقد تبنت ثورة 14 تموز سياسة عدم الانحياز والغاء جميع المعاهدات الاستعمارية والخروج من حلف بغداد وتحرير الاقتصاد العراقي بعد خروج العراق من دائرة الكتلة الاسترلينية، وفي مجال البناء والاعمار فقد حققت الثورة الشيء الكثير، لاسيما بناء المساكن وتوزيعها على الفئات والشرائح الفقيرة ولتطوير الموارد البشرية فقد تم بناء المستشفيات والتوسع في بناء المدارس وتطوير البنية التحتية للمنظومة التربوية التعليمية.
ان هذه الانجازات المتحققة وغيرها الكثير، ولا زال البعض يطلق على ماحدث في 14 تموز 1958 صفه الانقلاب العسكري، وليس تغييراً ثورياً، ان المعيار الاساسي في الادب السياسي لتوصيف اي تغيير بانه انقلاب سياسي عسكري أو ثورة اجتماعية سياسية، هي القيمة النوعية المتحققة من المنجزات الحقيقية التي تتصل بحياة المواطن والمجتمع والدولة، وان ماحدث في ظل ثورة 14 تموز من تطورات تاريخية على الصعد السياسية والاجتماعية والاقتصاية والتربوية وفي فترة زمنية وجيزة لا تتعدى اربع سنوات وستة اشهر، ومن خلال الاحتكام تاريخياً إلى ماحدث من ثورات وانقلابات في العالم الثالث أنذاك ومعرفياً من خلال دراسة المفاهيم والمصطلحات السياسية حول مفهوم الثورة والانقلاب، ان ذلك كله يعطينا الحق التاريخي والمعرفي والسياسي بأن نطلق على ثورة 14 تموز صفة الثورة الاجتماعية- السياسية الحقيقية.
وبهذا الصدد أشار المؤرخ حنا بطاطو "إلى ان ما تحقق يوم 14 تموز وما تلاه من انجازات اعطت الحدث صفة الثورة وبكل استحقاق"، لأن ما تحقق من انجازات ساهمت في تحويل حركة الضباط الأحرار والانتقال بها من كونها حركة عسكرية إلى ثورة اجتماعية أصيلة لاسيما ان جبهة الاتحاد الوطني المؤلفة من القوى والاحزاب السياسية الوطنية واليسارية والديمقراطية قد ساهمت في العمل الثوري منذ اللحظة الاولى لانطلاق الثورة وتحرك الضباط الأحرار، وهناك دلائل تاريخية كثيرة تشير إلى ان الحزب الشيوعي له علم بالثورة وانه- أي الحزب الشرعي- كانت له علاقة ببعض الضباط الأحرار.
ان اي كلام او توصيف لما حدث في 14 تموز 1958، على انه انقلاب عسكري يصبح خارج الرؤية التاريخية، وبهذا الاتجاه أشار المؤرخ الفرنسي مكسيم رودنسون إلى ان "ثورة 14 تموز 1958 هي الثورة الوحيدة في العالم العربي".