مدارات

فهد والتنظيم الحزبي العلني

د. سيف عدنان ارحيم القيسي
عرف الحزب الشيوعي العراقي منذ جذوره الاولى بأتباع أقصى درجات الدقة في سير العمل التنظيمي الحزبي وهذا اصبح يمثل قوة حصينة للشيوعيين تجسد صعوبة اختراق ذلك التنظيم من قبل القوات الامنية، ولا سيما التحقيقات الجنائية (الامن العامة) الناشطة في العهد الملكي. وبرغم ما تعرض له الحزب الشيوعي العراقي بمراحله التاريخية المتعددة من انتكاسات، إلا انه سرعان ما كان يعاود الظهور وبوتيرة اقوى من السابق. وهذا يعود لكون الحزب الشيوعي وضع في أولوياته التنظيمية البدائل العاجلة لأية انتكاسة تحدث للتنظيم. ومنذ ثلاثينات القرن الماضي والحزب يعمل بذلك النهج، وان تكون الهيئات البديلة جاهزة لأية انتكاسة، وسرعان ما يتم نقل المطبعة واجهزة الحزب الطباعية الى مكان آمن، كونها تعد اساس قيام التنظيم وتمثل الشريان الأساسي لعمل الحزب بين الجماهير.
وبهذا التوجه الذي ينتهجه الشيوعيون حرص قادة الحزب على ان تكون للتنظيم قوة مركزية تتبع من اجل ان يتواصل ذلك النهج بين المنظمات الحزبية. وكان من بين من سلك ذلك النهج سكرتير الحزب يوسف سلمان يوسف (1902-1949) المعروف بنهجه التنظيمي الصارم. وكان من ضمن اولوياته الطاعة الواعية لقادة الحزب، ووأد الانشقاقات وعدم التساهل معها. وهذا ما حدث مع انشقاق كل من عبدالله مسعود القريني وداود الصائغ، وتنظيم فرع الحزب الشيوعي في كردستان. وجاء رد فهد على تلك الانشقاقات في كراسه المعروف (حزب شيوعي لا إشتراكية ديمقراطية ) والذي قال فيه: "وماذا يريدون؟ يريدون حزبا ليس فيه دكتاتورية بروليتارية؟ حسن أيها السادة! أن الدكتاتورية لشئ بغيض ولكن هذه الدكتاتورية التي تبغضونها لم تسندها يوما إجراءات الشرطة و لا حراب البوليس، وها أنكم غادرتم قاعة أحكامها مختارين ، وها أنتم في حل من كل أمر، ترفلون بأثواب حريتكم المهلهلة ، فأي عمل تريدون تنفيذه بمطلق حريتكم ؟ لقد تركتم العمل منذ أجل بعيد ولكنكم لم تنجزوا عملا وأظنكم لا تجرأون على القيام بأي عمل صالح. انكم تريدون قبل كل شئ ، قبل أي عمل ، القضاء.. على الحزب أولا وأخيرا" .
من جانب آخر فان فهد لم يهمل جانب مهم في التنظيم، وهو التنظيم العلني للحزب بالرغم من الاجراءات الحكومية بتحريم الانتماء للحزب الشيوعي العراقي وفق قانون 1938، الذي يجرم كل من يروج الافكار الشيوعية. وبهذا اصبح الحزب الشيوعي العراقي محظور رسمياً، فعمل فهد من جانبه على اتخاذ وسائل بديلة اكثر فاعلية من اجل ان يكون التنظيم الشيوعي اكثر تماساً مع الجماهير. وهذا تم من خلال مجموعة من البرامج لتلك المرحلة، بل كان فهد يختار بدوره حتى مكان المطبعة وهو ما يؤكده احد ابرز كوادر الحزب الشيوعي محمد علي الزرقا بقوله: "في عام 1945 طلب مني الرفيق فهد أن استأجر منزلا بأسمي يظل سريا لا يعرف به أحد، وان لا أتخلى عن مكاني المعروف وهو غرفة في منزل عربي واسع نسبيا، فيه قبو كبير تحت مستوى ارض المنزل وهو في حي الشيخ عمر على مقربة من جامع الولي الشيخ عبد القادر الكيلاني، وكنت قد أقمت فيه طوال عام 1945.
لقد استخدمت هذا المنزل لإقامتي "المزعومة" فالواقع ان الرفيق فهد هو الذي أقام فيه. وكنت معه مجرد رفيق يحضر بعض اجتماعاته ويغيب عن أكثرها. وقد نقل إليه مطبعة القاعدة واتخذ من (القبو) الواسع مقرا لها، وخزن فيه الورق والأعداد وكل لوازمها. وأخذت القاعدة تطبع في هذا المكان وتخزن فيه أعدادها وترزم وتوزع منه على جميع أنحاء العراق. وكان موقع البيت المنزوي بين الأزقة وقدسية الحي المجاور للجامع الكبير، وكثرة الأغراب الذين يؤمون الحي عاملاً مفيدا لصرف الانظار عنه. ان ما ادهشني في سلوك الرفيق فهد أنه كان قائدا منظما فذ? وموجها فكريا عميق النظر وبعيده".
ومهما يكن من امر فان الدقة في العمل التنظيمي يقابلها عمل آخر هو التنظيم الجماهيري العلني كما اشرنا سلفاً. فمن جهة تم الشروع في تشكيل عصبة مكافحة الصهيونية التي نشط الشيوعيون من خلالها، والقيام بتشكيل حزب التحرر الوطني كواجهة للشيوعيين. ولكن طلب الشيوعيين لم يقبل رسمياً لا سيما بعد اجازة الاحزاب في عام 1946، فعمل فهد من جانبه على اعداد كادر من الشيوعيين يكون واجهة للحزب، وهم غير معروفين من قبل السلطات الحكومية. وهذا ما تمت مناقشته بين بعض كوادر الحزب كما اشار الى ذلك مكرم الطالباني حيث طلب منه فهد بعد حصوله على عضوية الانتماء للحزب"ان اعمل في المجال العلني وادخل الهيئة المؤسسة لحزب التحرر الوطني، وطلب مني ان احاول الحصول على اجازة لإصدار صحيفة علنية وهو يقول:لا بأس إذا استفدت من نفوذ أعمامك".
كان فهد يسعي لاقامة واجهات للحزب الشيوعي العراقي وليس بدائل عنه، فهو يردد مقولة فحواها "الحزب الذي يقوم على أساس اجازة من الحكومة سرعان ما ينتهي مع انتهاء تلك الاجازة. فالإجازة يجب ان تعطى من قبل جماهير الشعب، والحزب الذي تزكيه الجماهير لا تستطيع أي قوة القضاء عليه".