مدارات

في ذكرى ثورة العشرين الوطنية / صادق البلادي

بعد سقوط بغداد على ايدي المغول، وسقوط الخلافة العباسية، وبعد أن آل الحكم الى الخلافة العثمانية لم يكن هناك عراق بالمعنى الذي نعرفه اليوم، فالعراق اليوم، والذي يشهد سيناريوات التمزيق والتشرذم، بعد ان مرت أكثر من 11 سنة على إسقاط اعتى سلطة بربرية شهدتها المنطقة والعالم بعد الحرب العالمية الثانية، هو نتاج الحرب العالمية الأولى، التي تمر هذه الأيام الذكرى المئوية على نشوبها، كما هي نتاج ثورة العشرين، التي اندلعت في الثلاثين من حزيران ذاك العام.
فخلال الحرب العالمية الأولى، التي جرت بين الدول الإمبريالية من أجل إعادة اقتسام العالم بينها، وكان القانون الدولي يومها يعترف للدول الكبرى بحق احتلال الدول الأخرى وجعلها مستعمرات لها، تم للقوات البريطانية احتلال بغداد في 11 آذار عام 1917.
وكانت كلمات اللورد كورسون، وزير الخارجية البريطانية يومذاك، شعارا للأهداف البريطانية الاستعمارية القادمة: "إن الفرات يشكل الحدود الغربية للهند"، الهند كانت درة التاج البريطاني، ويومها كانت الهند وباكستان وبنغلادش دولة واحدة، وأهمية الشرق الأوسط لم تكن آنذاك بسبب النفط، بل فقط لموقعها الستراتيجي، فقد كانت على طريق الهند.
وقبل أن تنشب ثورة العشرين شهدت منطقة كردستان العراق تقدما كبيرا لحركة تحررها في عامي 18 - 19 إذ أعلن الكرد في السليمانية استقلال كردستان تحت زعامة الشيخ محمود البرزنجي، وابدى المحتلون البريطانيون موافقتهم ليكون حاكما لذاك الإقليم، فقد كان الاستعمار البريطاني بحاجة الى الشيخ محمود.
لبثت المخاوف في تركيا التي كانت ما تزال تشرف على الموصل، وكذلك في نفوس زعماء العرب في العراق في حالة خروجهم عن طاعة بريطانيا، غير أن الشيخ محمود كان يهمه استقلال كردستان، فساءت علاقته بالإنكليز، ونشأ قتال عنيف ضد الجيش البريطاني المحتل، ووقعت معركة حاسمة في التاسع من حزيران عام 1919 في موقعة دربندي قرب السليمانية، اصيب الشيخ محمود فيها بجروح ووقع في الأسر، وحكمت عليه محكمة بريطانية بالإعدام، وأبدل الحكم الى السجن المؤبد، وتم نفي الشيخ الى الهند.
لكن المقاومة استمرت في بلاد الرافدين ضد المحتل البريطاني، وبلغت ذروتها في ثورة العشرين، كانت بريطانيا العظمى يومها عظمى بالفعل لا اسما فقط، كانت امبراطورية لا تغيب عنها الشمس، وهي القطب الأعظم في العالم يومئذ، واحتلت العراق قبل أن تنتصر ثورة اكتوبر الاشتراكية في نوفمبر عام 1917، وتفضح اتفاقيات سايكس - بيكو، كاشفة كذب الجنرال مود، الذي أعلن "أننا جئنا محررين لا فاتحين".
وإثر توقيف شعلان أبو الجون، شيخ عشيرة الظوالم، التي كانت تظهر مواقف المقاومة للإحتلال، ولأن الشيخ متهم بعدم دفع الضرائب، فألقي القبض عليه في مكتب الحاكم السياسي البريطاني في الرميثة، يوم الثلاثين من حزيران عام 1920، غير أن رجال العشيرة المتأهبين هاجموا المكتب وحرروا شعلان من الإعتقال، هذا النصر للعشائر العراقية على قوات الإمبراطورية شكل بداية اشتعال فتيل الثورة، فانتقالها لتشمل العراق جزءا، جزءا، واظهرت مقاومة الثوار ضعف القوات البريطانية، فقد احتاجت، وهي المدججة بأحدث الأسلحة، اسلحة ما كان العراقيون قد سمعوا بها، او شاهدوا مثلها من قبل، وانعكست دهشتهم في بعض الهوسات، التي أطلقوها مثل: متعجب خالقله بعيرة، احتاجت قوات الإمبراطورية العظمى، مستخدمة الطائرات، والدبابات والبوارج الحربية بضعة اشهر لتقضي على ثورة فلاحين، يحاربون بالمكَوار وبأسلحة متخلفة، فلم يسقط آخر معقل للثوار في سوق الشيوخ إلا في آذار 1921.
لقد اضطرت الإمبراطورية البريطانية، المنتصرة في الحرب العالمية الأولى الى زج جيش قوامه يقرب من 100 ألف من النظاميين، الى جانب نفس العدد من القوات المساعدة، وأنفقت من الأموال 120 مليون جنيه استرليني، كي تستطيع قمع الثورة، التي بلغ عدد ضحاياها 8450 شخصا، وإعدام العديد من قادتها، كما تم تدمير القرى التي شاركت في الثورة، وصدرت اوامر بنهب اموال المساهمين في الثورة، بدعوى أنهم متمردون، وبعد قمع الثورة فُرضت غرامات هائلة، فجبوا اكثر من 54000 باون استرليني، وجمعت الأسلحة من العشائر.
كانت عوامل الثورة قد نضجت، وخاصة بعد فتوى المجتهد الأكبر محمد تقي الشيرازي بعدم جواز اختيار حاكم من غير المسلمين، بعد أن تبين كذب المحتلين، وبانت أطماعهم في ضم العراق الى إمبراطوريتهم، عندما اعلنوا عن نواياهم في أن يكون نهر الفرات الحدود الغربية للهند، أو أن تصبح البصرة جزءا من الهند ليتم للإمبراطورية السيطرة على الخليج، كانت هذه الفتوى ردا على الكثير من الوجهاء والأعيان والشخصيات ورؤساء العشائر، الذين أيدوا الدعوة المنادية بحكم بريطاني مباشر لا يرأسه حاكم عربي، مسلم، وكان المجتهد الأكبر الملا كاظم اليزدي يؤيد هذه الدعوة، ويكشف هذا كم يمكن ان تكون المرجعية متباينة في موقفها، رغم اتباعها نفس الأصول الفقهية.
شكلت فتوى الشيرازي بداية المقاومة للبريطانيين، كما شكلت قيدا ثقيلا على الذين كانوا يميلون للتعاون مع المحتلن، وعندما عمت المظاهرات أنحاء البلاد، وبدأ الإستعداد للثورة لإجبار الإنكليز على الاستجابة لمطالب العراقيين بالاستقلال عن طريق مؤتمر وطني عراقي منتخب يقرر هو مستقبل البلاد، ويضمن حرية الصحافة، وحق عقد الإجتماعات وتأليف الجمعيات، في أثناء تلك التحضيرات طلب آية الله الشيرازي، منطلقا من تقديراته في عدم قدرة العشائر على الوقوف أمام قوات الإحتلال، طلب بضرورة الحفاظ على الأمن و النظام، معتبرا ذلك أهم حتى من الثورة، قد يكون ذلك من إدراكه لما يمكن أن تسببه الثورة من هلاك أبرياء، وخراب للبلاد، وهو الفقيه، الذي يعلم "أن من قتل نفسا بغير نفس أو فساد في الأرض فكأنما قتل الناس جميعا"، فلم يعط موافقته على خطط الثوار إلا بعد أن أكدوا له أنهم سيحافظون على القانون والنظام. ولكن ومع اصرار المحتلين على تعنتهم أخذ الشيرازي يميل لاستعمال العنف فأصدر الفتوى بأن المطالبة بالحقوق واجب على الشعب، وعليه المحافظة على الأمن والنظام، وأن يكون استعمال العنف مشروعا إن رفض الإنكليز ذلك.
حاول الإنكليز عرقلة الثورة، فسعوا الى شق الصفوف بإثارة فتنة طائفية، بإِشاعة النعرات المذهبية، وإلهاء الشعب بالصدام بين الطوائف الدينية، لكن علماء الدين المتنورين، والشخصيات الوطنية من مختلف الطوائف أفشلوا هذه المحاولة بإقامة مختلف مظاهر التآخي بين الطوائف والمذاهب، تلك الفعاليات التي تعكس نضج القيادات السياسية، وعدم انجرارها لردود الفعل، او التفكير بتحقيق مصالح ضيقة لهذه الشخصية او تلك، من هذه الطائفة أو تلك، بل جعل مصالح الوطن فوق اية مصلحة شخصية أو طائفية. وكم نحن بحاجة اليوم الى مثل تلك الشخصيات الوطنية التي نفتقدها الآن.
لم تحقق ثورة العشرين كل أهدافها لكنها اجبرت المستعمرين على التخلي عن امكانية استعمار العراق، ولو تحت اسم الإنتداب، فأقامت مملكة اختارت فيصل الأول ليكون عاهلها، ومعاداته للبلشفية كانت من بين ما جعلت الإنكليز يختارونه عام 1921، مدركين مسبقا ما أنشده الرصافي بعدئذ من أن مطامع الإنكليز في العراق لا تنتهي إلا بالتبلشف. فباتت معاداة الشيوعية النهج البارز لحكومات العهد الملكي، حتى قبل تأسيس الحزب الشيوعي. وصار شعار تحقيق الاستقلال الوطني بالتخلص من معاهدة 1930، التي عقدها الإنكليز وتم توقيعها. في يوم العشرين من حزيران، إذلالا لذكرى يوم ثورة العشرين، صار هو الشعار الرئيسي للشيوعيين العراقيين، حتى قبل تأسيس الحزب، كما جاء في البيان الذي علقه مؤسس الحزب الرفيق الخالد فهد بتوقيع عامل شيوعي ليلة 25/24 كانون أول عام 1932، والذي جاءت نهايته :" فهل فيكم من يرضى أن يسفك دمه من أجل مصالح الإنكليز، إذن فودعوا أهلكم وأطفالكم واتركوهم هنا تحت رحمة أعدائكم الموجودين في داخل البلاد واذهبوا وقاتلوا أعداءكم. لقد حذرتكم في نشرتي السابقة وأنا أحذركم الآن، والوقت عصيب جدا، فمن العار علينا أن نطأطئ رؤوسنا للظلم أيها الرفاق، فإلى الأمام الى الأمام"، عامل شيوعي.
لقد بقي شعار إلغاء المعاهدة هو الرئيسي في شعارات الحزب، ولم تخدعه تحقيق الإنكليز لوعدهم بإنهاء الإنتداب ومنح العراق استقلاله، الشكلي، فقد قبل العراق في تشرين أول 1932، عضوا في عصبة الأمم، وكان اول دولة عربية تنال العضوية، واستمرت المملكة العراقية تسير وفق السيناريو الذي رسمه المستعمرون، عراقية المظهر، بريطانية الجوهر، ولكن القوى الوطنية استطاعت في نضالاتها المتواصلة، مستلهمة دروس ثورة العشرين، ومستفيدة من النتائج البائسة لما اسمته الطغمة الحاكمة من "سياسة خذ وطالب" أن تكوّن رأيا عاما يهدف لتحقيق الإستقلال الحقيقي، ولا يرضى بالإستقلال الشكلي، وينتهج سبيل النضالات الجماهيرية السلمية، غير أن التغير الذي حصل بعد حل البرلمان عام 1954، الذي فاز فيه عدد من نواب الجبهة الوطنية، رغم تزوير الانتخابات، وبعد توقيع حلف بغداد مع الانكليز والأمريكان، وبمشاركة تركيا وإيران والباكستان، قطع طريق التطور السلمي، فاندفعت القوى الوطنية نحو الجيش، غير منتبهة لدرس ثورة العشرين عن الترابط بين شكل الوصول الى الحكم والنهج الذي يسلكه النظام المنبثق عنه في ما بعد، والذي أثبته ما تبع إسقاط النظام البعثي الفاشي بيد الأمريكان.
ولم يكن مفهوما، رغم تجربة الحركة الوطنية مع الاستعمار، إضافة الى تشخيص النظرية الماركسية – اللينينية ستراتيجية محاربة الإمبريالية أن يوافق الحزب الشيوعي على ما سمي باتفاقية خروج القوات الاجنبية.
أعتقد أن المهمة الرئيسية الآن، وبعد الخلاص من داعش هي إلغاء الاتفاقية الستراتيجية طويلة الأمد مع الأمريكان، وتقليص حجم التمثيل الدبلوماسي وجعل السفارة الأمريكية كباقي سفارات الدول الكبرى، وهي مساهمتنا في النضال العالمي ضد العولمة الرأسمالية المتوحشة، ويبدو أن الظروف التي وصلها وضع بلادنا بعد اكثر من عقد بعد انهيار البعث الفاشي، ونهوض الشباب في العديد من بلدان العالم العربي في ما سُمِّي بالربيع العربي، والتحرك الجماهيري في شباط يتيح امكانية جيدة لتحقيق هذا الهدف، قد يكون وقوف القوى الكردستانية الماسكة بالحكم الى جانب الاتفاقية والحليف الأمريكي بقوة عاملا يحد من الوقوف بوضوح ضدها، إلا أن مصلحة الشعب العراقي، ومستقبل المنطقة يتطلبان طرح مهمة إلغاء معاهدة التحالف الستراتيجي.
ملاحظة: بالضبط في الذكرى الثلاثين لثورة العشرين، ذكرى عشرين عاما على معاهدة 1930 الإسترقاقية، وكنت في الصف الثاني المتوسط، نشرت لي جريدة الثبات أو باسم آخر للصحفي لطفي بكر صدقي، نشرت مقالة لي مطالبة بإلغاء المعاهدة، وكانت تلك المقالة أول محاولة لي في النشر الصحافي.

الدور:

يحدد (بيركنز) دوره مثل اقرانه من صفوة الخبراء في الشركات الاستشارية الامريكية الكبرى في استخدام المنظمات المالية الدولية لخلق ظروف تؤدي الى خضوع الدول النامية لهيمنة النخبة الامريكية التي تدير الحكومة والشركات والبنوك. فالخبير يقوم بإعداد الدراسات التي بناء عليها توافق المنظمات المالية على تقديم قروض للدول النامية المستهدفة بغرض تطوير البنية التحتية مثل محطات توليد الكهرباء والطرق والموانئ والمطارات والمدن الصناعية، بشرط قيام المكاتب الهندسية وشركات المقاولات الامريكية بتنفيذ هذه المشروعات.
وفي حقيقة الامر فإن هذه الاموال (قروض صندوق النقد الدولي مثلا) بهذه الطريقة لا تغادر الولايات المتحدة بل تتحول، ببساطة، من حسابات بنوك واشنطن الى حساب شركات في نيويورك او هيوستن او سان فرانسيسكو. ورغم ان هذه الاموال تعود بشكل فوري الى اعضاء في الكوربوقراطية فأنه يبقى على الدولة المتلقية سداد اصل القرض والفوائد.
اما المثير في اعترافات (بيركنز) فهو تأكيده على أن مقياس نجاح الخبير يتناسب طرديا مع حجم القرض بحيث يجبر المدين على التعثر بعد بضع سنوات! وعندئذ تفرض شروط الدائن التي تتنوع من قبيل الموافقة على تصويت ما في الامم المتحدة، أو السيطرة على موارد معينة في البلد المدين، أو قبول تواجد عسكري به، وتبقى الدول النامية بعد ذلك كله مدينة بالأموال.

الوسيلة:

يحدد (بيركنز) نماذج التنبؤ التي يستعين بها الخبير لدراسة تأثير استثمار مليارات الدولارات في بلد ما على النمو الاقتصادي المتوقع لسنوات قادمة ولتقويم المشروعات المقترحة، ويكشف الطابع المخادع للأرقام الجافة، فنمو الناتج القومي الاجمالي - على سبيل المثال - قد يكون نتيجة استفادة اقلية من المواطنين "النخبة" على حساب الاغلبية بحيث يزداد الثري ثراء ويزداد الفقير فقرا، ورغم ذلك فإنه من الناحية الاحصائية البحتة يعتبر ذلك تقدما اقتصاديا!
وفي هذا المقام يكشف (بيركنز) عن الجانب غير المرئي من خطة القروض والمشروعات، وهو تكوين مجموعة من العائلات الثرية ذات نفوذ اقتصادي وسياسي داخل الدولة المدينة تشكل امتداد للنخبة الامريكية ليس بصفة التآمر، ولكن من خلال اعتناق نفس افكار ومبادئ وأهداف النخبة الامريكية وبحيث ترتبط سعادة ورفاهية الاثرياء الجدد بالتبعية طويلة المدى للولايات المتحدة، رغم ان عبئ القروض سيحرم الفقراء من الخدمات الاجتماعية لعقود قادمة. ويدلل (بيركنز)على ذلك بان مديونية العالم الثالث وصلت الى اثنين ونصف تريليون (2500 مليار) دولار وان خدمة هذه الديون بلغت 375 مليار دولار سنويا في عام 2004، وهو رقم يفوق ما تنفقه كل دول العالم الثالث على الصحة والتعليم ويمثل عشرين ضعفا لما تقدمه سنويا الدول المتقدمة من مساعدات خارجية.

نموذج حي: الاكوادور

يعترف (بيركنز) بأنه وزملاءه توصلوا الى دفع الاكوادور نحو الافلاس. فخلال ثلاثة عقود ارتفع مستوى الفقر من 50 في المئة الى 70 في المئة من السكان، وازدادت نسبة البطالة من 15 في المئة الى 70 في المئة وارتفع الدين العام من 240 مليون دولار الى 16 مليار دولار، وتخصص الاكوادور اليوم قرابة 50 في المئة من ميزانيتها لسداد الديون! وأصبح الحل الوحيد امام هذه الدولة لشراء ديونها هو بيع غاباتها الى شركات البترول الامريكية حيث يكشف (بيركنز) ان هذا الهدف كان السبب الرئيسي في التركيز على الاكوادور وإغراقها بالديون نظرا لكون مخزون غابات الامازون من النفط يحتوي على احتياطي، يعتقد انه منافس للشرق الاوسط، واليوم فأن لكل مائة دولار من خام النفط يستخرج من غابات الاكوادور تحصل الشركة الامريكية على 75 دولارا منها مقابل 25 دولارا للاكوادور، تذهب 75 في المئة منها لسداد الديون الخارجية والمصروفات الحكومية والدفاع ويتبقى 2.5 دولار فقط للصحة والتعليم والبرامج الاخرى التي تستهدف دعم الفقراء.

غزو واغتيال غواتيمالا وبنما

انشئت شركة الفواكه المتحدة "يونايتد فروت" الامريكية في اواخر القرن التاسع عشر، ونمت لتصبح من القوى المسيطرة على امريكا الوسطى بما لها من مزارع كبرى في كولمبيا ونيكارجوا وكوستاريكا وجاميكا وسانت دومينغو وغواتيمالا وبنما، وفي الخمسينات من القرن العشرين انتخب (اربنز) رئيسا لغواتيمالا من خلال انتخابات حرة وديمقراطية تمت لأول مرة في هذا البلد، وأعلن عن برنامج الاصلاح الزراعي، الذي يهدد مصالح شركة "يونايتد فروت" ويخلق سابقة خطيرة لها في المنطقة، وعليه قامت الشركة بحملة دعائية واسعة داخل الولايات المتحدة تركز على ان (اربنز) يعمل في اطار مؤامرة سوفيتية على امريكا، وهكذا قامت وكالة المخابرات المركزية الامريكية (C.I.A) في عام 1954 بتدبير انقلاب على النظام المنتخب ديمقراطيا وضرب الطيارون الامريكيون العاصمة واستبدل (اربنز) بدكتاتور يميني متطرف هو الكولونيل (كارلوس ارماس) والذي قام على الفور بإلغاء الاصلاح الزراعي والضرائب على الاستثمار الأجنبي، وأودع في السجون الالاف من المواطنين.
اما في بنما التي حكمت لأكثر من نصف قرن بواسطة بعض العائلات الثرية ذات الصلات القوية بواشنطن، فإنها نالت نصيبها أيضا من الغزو والاغتيال عندما تجرأ رئيسها (عمر توريخوس) على رفض الهيمنة الامريكية والسير على درب (رولدوس) (الاستاذ الجامعي ورئيس الاكوادور الذي اراد فرض سيادة بلاده على مصادر النفط وطاله الاغتيال في حادث طائرة مدبر في 24 مايو 1981) فنال نفس المصير في حادث طائرة ايضا في 31 يوليو 1981 اي بعد شهرين فقط من موت (رولدوس). وهكذا ينضم هؤلاء الى قائمة طويلة من زعماء العالم الثالث مثل (مصدق) في ايران و (سيلفادور أليندي) في تشيلي وغيرهم.

الكوربوقراطية: مزيد من التوضيح

يطلق مجازا تعبير "الشركة الامريكية Corporate America" على المنظمة المشتركة للشركات الامريكية الكبرى والتي تشكل عصب اقتصاد الولايات المتحدة وقاعدتها الرئيسية لبناء مجتمع الرفاهية حسب المفاهيم التي اصلتها النخبة في وجدان الشعب الامريكي على امتداد قرون من الزمان، ويصعب الفصل بين اهداف هذه المنظومة ومجريات الامور في الولايات المتحدة حيث بسطت المؤسسة الاقتصادية الامريكية نفوذها على باقي المؤسسات الاخرى السياسية والعسكرية والمخابراتية والإعلامية، والتاريخ شاهد على مدى تعبير سياسات الولايات المتحدة عن مصالح اولئك الذين يتحكمون في الدولة، فأحداث ايران في الخمسينات عند تولي (محمد مصدق) رئاسة الوزارة، والانقلاب ضد سلفادور أليندي في السبعينات في تشيلي، وأخيرا محاولة قلب نظام حكم (هوغو شافيز) في فنزويلا، هي دلالات قوية تمر بسرعة بذاكرة كل متابع عادي للأحداث العالمية. فالمصالح الخاصة لهذه الشركات هي بمثابة المصلحة العامة لأمريكا مما جعل العمل السياسي ينحسر في التفاعل المستمر مع مجموعات المصالح الاقتصادية التي تنافس للسيطرة على الدولة، وتحول النظام السياسي الامريكي الى نظام للحزب الواحد ينقسم الى جناحين "الجمهوري" و"الديمقراطي" يسيطر على كل منها مجموعات متغيرة من قطاع الاعمال ويشتركان في التوجهات الرئيسية للايدولوجيا الأمريكي وأهمها شرط اسعاد وإرضاء من يملكون البلد (المستثمرين).
ان الخطر كل الخطر يكمن - بالنسبة للنظام الامريكي القائم - في التهديد المتمثل في بروز بدائل اخرى من النماذج الاجتماعية التي لا تتماشى مع اسس هذا الفكر، بالتالي رأت الحكومات الامريكية المتتالية في ظهور هذه البدائل ذريعة تبرر استخدام سياسات الردع للدفاع عن النفس بما في ذلك التدخل العسكري. فمن خلال الاطار المفهومي الذي ترسخ (والمحترم من الجميع!)، فأن اي اعتداء يبرر بسهولة للشعب الامريكي على انه دفاع عن النفس، واختلاف العالم مع سياسات الولايات المتحدة يعني ببساطة ان العالم هو المخطئ!.
لقد سمح تركيز سلطة اتخاذ القرار في ايدي القطاع الخاص – بالنسبة للدوائر المحورية للحياة الأمريكية من تغيير مسار اي تحد رئيسي للامتيازات القائمة والقضاء عليه قبل ان يأخذ شكلا اكثر قوة، واستخدمت اليات السوق لتوجيه وضبط الافكار والمشاعر العامة بحيث اقتصر دور رجل الشارع على كونه مستهلكا ومتفرجا وليس مشاركا، وحيث ان صوت الشعب يجب ان يسمع في المجتمعات الديمقراطية فلقد تمكن اصحاب المصالح الامريكية من تجاوز هذه الاشكالية من خلال غسيل مخ مستمر يصبح فيه حديث المواطن العادي متمشيا تماما مع مفاهيم النخبة السياسية والاقتصادية، فعمليات السيطرة على العقل العام الامريكي تتم بشكل مستمر ومتكرر وتصل الى ذروتها في فترات الازمة بحيث يساق الشعب بشكل دائم الى الادراك بأن الحرب لم تنته وبأن بلاده تحارب من اجل قضية نبيلة. ولا غرابة اذن ان يستخدم الرئيس الاسبق (رونالد ريجان) تعبير "امبراطورية الشر" والرئيس (بوش) تعبير "محور الشر" للتأثير على المواطن العادي بألفاظ ذات مسحة دينية، وكما يساهم شركاء النخبة من المثقفين وقادة الرأي والفكر في تعبئة الرأي العام بجرعات منتظمة من البلاغة تتسم بالمغالاة دائما للحيلولة دون تحول اي فكر مستقل الى فعل سياسي يهدد مبادئ ومصالح النخبة المسيطرة، ويتطلب ذلك بالضرورة تركيزا عاليا للملكية في مجال الاعلام "الميديا"، كما ان الذين يتولون ادارة المؤسسات الاعلامية او يكتسبون مكانتهم بصفتهم معلقين او صحفيين ينتمون بحكم الوضع الاجتماعي والمالي لنفس النخبة المحظوظة ويشاركونها الامتيازات والتطلعات، ويعبرون بالتالي عن مصالح الطبقة التي ينتمون اليها (او سينتمون اليها) دون حاجة الى توجيه او وصاية فيما يقولون او يكتبون. وهكذا يخدم نموذج الدعاية في "الميديا" اغراض الشركة الامريكية والدولة، ويتحدد في تقرير وتحليل الامور بشكل يساند المزايا القائمة ويحد من الحوار والمناقشة حول المفاهيم الاساسية للنخبة.
اما السياسة الامريكية على المستوى الدولي فتندرج تحت مبدأ "الاحتواء containment"، وبهذا الخصوص يرى (نعوم شومسكي) ان هذه السياسة الخارجية هي الوجه المقابل للسياسة الداخلية في صناعة الموافقة، وان السياستين متكاملتان ومتشابكتان حيث يلزم تعبئة المواطنين بالداخل لدفع فاتورة سياسة الاحتواء الخارجية. كما ان كل الادلة تشير منذ الحرب العالمية الثانية الى ان الهدف الرئيسي لسياسة الاحتواء هو اعطاء الطابع الدفاعي (اذا كان اعداء الديمقراطية ليسوا من الشيوعيين فهم من الإرهابيين) والغطاء الشرعي لمشروع امريكا في ادارة العالم وبناء نظام عالمي تسيطر عليه الولايات المتحدة ويتم من خلاله نمو وازدهار الاعمال الامريكية وتشكيل منظومة عالمية تتشكل من النخبة الحاكمة في جميع بلدان العالم تؤدي مكوناتها المختلفة مهاما محددة لصالح "الشركة الأمريكية" سواء كمراكز تصنيع او كأسواق استهلاك او كمصادر للطاقة والمواد الخام.
وتسعى الادارة الامريكية الى تقسيم العالم الى مناطق اقتصادية نوعية تخدم كل منها على حدة اغراض الشركات الامريكية (فنزويلا والمكسيك والخليج للنفط، امريكا الوسطى والكاريبي للعمالية الرخيصة وتجميع المنتجات، الصين للاستهلاك.. الخ)، وكما سعت من خلال الدول الثمانية الصناعية الكبرى وصندوق النقد والبنك الدولي ومنظمة التجارة العالمية الى انشاء منظومة لحكم العالم بشكل غير مباشر اعطيت فيها للنخب السياسية ورجال الاعمال وقادة الرأي في العالم النامي حق المشاركة فيها والاستفادة منها بشرط الدفاع عن الليبرالية بالمفهوم الأمريكي، وطلب من اكثر من مائة دولة الابتعاد عن السياسات المساندة للقطاع الاقتصادي الوطني تحت شعار "حرية التجارة" والذي كانت له اثار مدمرة على اقتصاديات دول امريكا اللاتينية وهروب الاموال من روسيا والتي قدرت ما بين 14 الى 19 مليار دولار في عام 1991 وحده، وعلى ازدياد حالات الفقر والاضطراب الاجتماعي في كل الدول التي اخذت بمبادئ اليمين المتطرف في فتح اسواق المال دون قيود وبمبادئ الاصولية الاقتصادية التي تستند على شعار ادم سميث "دعه يعمل...دعه يمر"، والملفت للانتباه ان الادارة الامريكية التي تطالب بسياسات التجارة الحرة لم تطبق هي نفسها اي من هذه السياسات في جميع مراحل التطور الاقتصادية الأمريكية كما ان حلفائها من الغرب والشرق لم يتبعوا اي من هذه التوجهات في تحقيق تقدمهم ونمو اقتصاداتهم. والغريب ان تقرير الامم المتحدة الأخير والذي يتناول تجربة 80 دولة انتقلت الى الديمقراطية - اثار العديد من التساؤلات والتعليقات حول عدم رضا الشعوب عن هذا التحول وكأن العيب هو في التطبيق الديمقراطي! بينما لم يذكر السبب الرئيسي للفشل ألا وهو السياسات الاقتصادية الليبرالية التي صاحبت التحول الديمقراطي في هذه الدول.
ان ما يريده النظام الامريكي في حقيقة الامر ليس هو التجارة الحرة، بل هو احتكار المستقبل لصالح منظمة "الشركة الأمريكية" في حرية دخول الاسواق واستغلال الموارد واحتكار التكنولوجيا والاستثمار والإنتاج العالمي.
ولا يقتصر ارتباط الدولة في امريكا مع الشركات الكبرى على الجانب الاقتصادي فقط، بل هناك الجانب السياسي المرئي وغير المرئي، مثل تبادل افراد النخبة المراكز العليا في الدولة والشركات، أو مساندة الديكتاتوريات التي ارتبطت مصالحها بالشركات الامريكية الكبرى، هذا علاوة على التصدي المستمر لكل الانظمة الوطنية التي يتعارض توجهها مع مبادئ الليبرالية للنخبة الامريكية سالفة الذكر.
هذا وكانت (قناة روسيا اليوم) قد اجرت مع (جون بيركنز)، ولأهمية القضايا المطروحة فيه ادناه خلاصة مكثفة لهذا اللقاء.
يقوم عملاء وكالة المخابرات المركزية الامريكية (C.I.A) بواسطة الرشوة والابتزاز بإرغام زعماء الدول النامية على اخذ قروض من الولايات المتحدة ودفعها الى مستنقع الديون والتبعية الاقتصادية للولايات المتحدة، وإذا ما رفض احد الزعماء من التعاون، تقوم الاجهزة الخاصة الامريكية بإرسال عناصر لتصفيته مثلما حدث في بنما والاكوادور، وفي حال فشل هذه العناصر تقوم هذه الاجهزة بتدبير انقلاب من الداخل مثلما حصل مع (محمد مصدق) في ايران.

وظيفة "القاتل الاقتصادي"

ان وظيفة "القاتل الاقتصادي" هي سلب ترليونات الدولارات من شتى دول العالم، فالأموال التي تحصل عليها تلك الدول من البنك الدولي والوكالة الامريكية للتنمية الدولية وغيرها من المؤسسات الاجنبية، يحولها القتلة الاقتصاديون الى خزائن الشركات الكبرى والى جيوب اغنى العائلات، التي تتحكم في مصادر الثروات.

متى ولماذا ظهر القتلة الاقتصاديون ولماذا كانت امريكا بحاجة الى هؤلاء الاشخاص؟

اعتقد ان اول بلد بدأ هؤلاء الاشخاص العمل فيه كان ايران في بداية الخمسينات من القرن الماضي، وكان رئيس الوزراء الذي انتخب حينذاك هو (محمد مصدق) الذي بدأ في تنفيذ سياسة تأميم النفط لكي تنفق عائداته على احتياجات الشعب، شرع مصدق في اجراء محادثات شديدة اللهجة مع اكبر شركات النفط البريطانية الايرانية (بريتش بيتروليوم)، حيث المح مصدق انه على الشركة ان تدفع حصة اكبر من عائدات النفط للشعب الايراني وإلا سوف يكون عليها ان تنسحب من السوق الايرانية، عمليا كانت تلك بداية تأميم النفط، لم يكن البريطانيون حينذاك يلعبون دورا سياسيا كبيرا في إيران، وكان الرئيس الامريكي (دوايت ايزنهاور) يخشى كثيرا ان تقرب هذه العملية بين الحكومة الايرانية والاتحاد السوفيتي، وكان ايزنهاور يدرك ان التدخل العسكري في شؤون ايران الداخلية سيثير مشكلة خطيرة بين الاتحاد السوفيتي وأمريكا وربما تؤدي الى نشوب حرب نووية، عندها اقنع مدير وكالة المخابرات المركزية الرئيس الامريكي بإرسال عميل لوكالة المخابرات المركزية الى ايران للمساعدة في الاطاحة بمصدق، سافر العميل الى ايران حاملا عدة ملايين من الدولارات، وسرعان ما استطاع ان ينظم مظاهرات بدت وكأنها شعبية معادية لـ (محمد مصدق)، اما في واقع الامر فقد نظمت هذه المظاهرات مجموعة صغيرة من الاشخاص الذين تسلموا مبالغ كبيرة من المال الامريكي، وتم الاطاحة بـ(محمد مصدق) وتم وضعه تحت الاقامة الجبرية حتى اخر أيامه، كما تم اعادة الشاه المخلوع الى ايران.
بعد الاطاحة بمصدق ادرك الامريكيون كيف ينبغي العمل على مستوى دول العالم، كان ذلك طريق شبه خالٍ من المخاطر ولم يكن يكلف كثيرا.

وأما بخصوص نشأته كخبير اقتصادي فيقول (جون بيركنز):

كانت كليات الاقتصاد في ذلك الزمن بل وحتى في هذه الايام توحي الينا بأن الاشياء التي نفعلها ونواصل فعلها هي اشياء سليمة لا ضرر فيها، فقد كانوا يعلموننا اننا اذ نستثمر مليارات الدولارات في تطوير البنية التحتية للدول المتخلفة كالإكوادور او اندنوسيا حيث نشيد محطات الكهرباء وخطوط نقل الكهرباء وشبكة المواصلات وما الى ذلك انما نعمل على تطوير اقتصاد هذه البلدان، وبالفعل كانت الدراسات التي نقوم بأعدادها تؤكد ذلك.
ولكن ما لم تعكسه تلك الدراسات هو انه مع تطور اقتصاد البلاد الوهمي يلاحظ في الحقيقة ان العائلات الحاكمة في تلك الدول تزداد ثراء وبمعدل اسرع بكثير، اما الشعب فيزداد فقرا لأنه هو الذي تقع عليه اعباء تسديد الديون التي انفقت على هذا التطوير.
في البداية كنا نعرض على زعماء دول العالم الثالث وحاشيتهم ان يصبحوا اغنياء اذا ما وافقوا على قواعد لعبتنا، فإذا لم يوافقوا كنا ننحيهم بكل بساطة عن مناصبهم كما فعلنا مع (مصدق)، الاكثر من ذلك كنا نلجأ حتى للقتل، كما فعلنا مع قادة كثيرين وقمنا بتصفيتهم او الاطاحة بهم مثل (سلفادور الليندي) في تشيلي، و(اكو اربنز) في غواتيمالا، و(باتريس لومومبو) في الكونغو، و(كواديندين) في فيتنام الجنوبية، اما من وافق على شروطنا فقد وفر لنفسه ولأسرته حياة رغيدة!

وماذا بخصوص مصر؟

- وقع السادات عقدا كبيرا للحصول على قروض لغرض تطوير شبكة المجاري والصرف الصحي في الاسكندرية التي شيدتها الشركات الامريكية نفسها، في واقع الامر لم تصب الاموال المخصصة لهذا المشروع في الاقتصاد المصري ابدا حيث ان جميع الاموال التي انفقناها (القروض والمساعدات) خصمت من ديون مصر وذهبت الى جيوب الشركات الامريكية.
كانت شبكة المجاري داعمة لمرافق الإسكندرية، كما ان تشييدها مكّن انور السادات من ان يقول لشعبه انه يسعى الى تطوير مياه الشرب وشبكة المجاري وبذلك يحسن الاحوال الصحية لسكان المدينة، وكان ذلك حقيقة الى حدا ما، ولكن اذا تحدثنا بصراحة لقلنا ان الاحياء الفقيرة لم تستفد من هذا المشروع لان الشبكة خصصت اساسا لخدمة الاحياء الثرية والتجارية في الاسكندرية.
اصبحت مصر اكبر زبون للمساعدات الامريكية التي اقترنت بمجموعة كاملة من الشروط من بينها ما جعل الولايات المتحدة المصدر الرئيسي للأسلحة الى مصر كما فازت بحصة الاسد في مشروعات البنية التحتية وهكذا اعتقد المصريون انهم يتلقون منا مبالغ كبيرة (لكن القسم الاعظم من هذه الاموال كان يخصم من الديون المصرية لحساب الشركات الامريكية) وهذا ما ادى بدوره الى زيادة الديون المصرية بصورة مضطردة.

وماذا بخصوص السعودية؟

- دخل القتلة الاقتصاديون الى السعودية بعد ان استخدم الملك فيصل سلاح النفط في الحرب ضد اسرائيل وكان سلاحا فاعلا للغاية ضد المصالح الامريكية (حظر تصدير النفط الذي فرض انذاك)، فلا تستطيع الشركات النفطية الامريكية السماح للأوبك بابتزازها لهذا يجب ضمان عدم استخدام الحظر النفطي ضد الشركات النفطية الامريكية مرة اخرى فقد عانت الولايات المتحدة معاناة شديدة بسبب الحظر النفطي، كنا ندرك جميعا ان الطريقة الوحيدة التي تمنع حدوث مثل هذا الحظر هو السيطرة على الاوبك سيطرة كاملة وكان ذلك يتطلب منا العمل من خلال اسرة ال سعود (العائلة الحاكمة في السعودية).
ان المسألة المهمة الاخرى هي ان سعر النفط يجب ان يكون مقبولا لشركات النفط الامريكية، كنا نريد فرض شروطنا لذلك اقترحنا التالي: على السعوديين ان لا يسمحوا ابدا بتكرار الحظر النفطي وفي المقابل نتعهد نحن بحماية الاسرة المالكة ونبذل كل ما في وسعنا لتبقى في الحكم اطول فترة ممكنة في حال حافظ ملوك السعودية على التعاهد المتفق عليه.
في حال هددت دول مثل ايران او العراق او اندنوسيا او فنزويلا باستخدام الحظر النفطي فإن السعودية، وحسب الاتفاق، ستسدد بثرواتها النفطية الهائلة اي نقص في الامدادات النفطية للولايات المتحدة. لذلك لم تحاول اي من الدول الاعضاء في الاوبك فرض اي حظر بعد ذلك لعلمها بموقف السعودية وإدراكها انه لا جدوى من الامر اطلاقا.
كانت هنالك صلة بين استخدام الملك فيصل لسلاح النفط وبين مقتل، فملك السعودية الوحيد الذي قتل هو بالذات الذي استخدم النفط كسلاح في الصراع العربي الاسرائيلي، كما ان الشخص الذي قتله جاء من امريكا قبل ايام قليلة من ارتكابه الجريمة.
ان زعماء الدول الغنية بالنفط بصورة عامة كانوا وما يزالوا امام خيارين، اما اللعب حسب القواعد التي تريدها الولايات المتحدة وأما الزوال بطريقة او بأخرى، ان الاسرة الحاكمة السعودية استبدلت المصالح الوطنية ومصالح بلدان المنطقة وخاصة مصالح الدول المنتجة للنفط بشيء واحد فقط وهو دعم الولايات المتحدة للنظام الفردي وتحويل الاراضي الصحراوية الى مدن على الطراز الغربي، وحدث هذا في السعودية وفي ايران وفي مناطق عديدة من العالم.
في كل حالة يتناولها الخبراء الاقتصاديون الامريكيون (القتلة الاقتصاديون) في الدول النامية كانت لديهم في ترسانة وسائلهم العصى والجزرة، في حالة السعودية تحديدا كانت الجزرة هي الوعد بالإبقاء على الاسرة الحاكمة في الحكم مقابل بيع النفط للأميركان بأسعار بخسة، وكانت الجزرة ايضا هي تطوير المدن على الطراز الغربي، وكانت الحاجة الى العصى حتى لا يعدل احد عن موقفه ولا ينسى مصير (مصدق) المؤسف في ايران او التذكير بالملك فيصل عندما ظهر فجأة ابن اخ مجنون! وأطلق عليه النار دون سبب مقنع.
ان مشروع فرض القروض والاتفاقيات الاقتصادية على الدول يتم من خلال ايجاد مجموعة من الشخصيات ذات نفوذ سياسي واقتصادي في الدولة المستهدفة تقبل بالديون الامريكية مقابل ان تصبح امتدادا للشركات الاحتكارية الامريكية وأصحابها او للـ (كوربوقراطية) وبذلك تصبح هذه الشخصيات ضمانا للتبعية طويلة المدى للولايات المتحدة الامريكية داخل هذه الدولة او تلك.

وماذا عن بنما؟

ان لدخول "القتلة الاقتصاديين" لدولة بنما (في زمن الرئيس عمر توريخوس) علاقة بقناة بنما (القناة التي تربط بين المحيط الاطلسي والمحيط الهادئ) وكان الامر ايضا مرتبطا بشخص (توريخوس) لأنه في ذلك الوقت اصبح زعيما عالميا بين الدول النامية، على الاقل في امريكا اللاتينية، لقد اتخذ (عمر توريخوس) موقفا صلبا للغاية من الولايات المتحدة، لم يكن مدعاة غضبه ان الامريكيين يملكون القناة التي تشطر بلده الى نصفين ولكن ايضا لأنهم اقاموا قاعدة عسكرية ضخمة هناك، وفي الاراضي المتاخمة للقناة، كانوا يعيشون حياة مرفهة ولديهم مثلا (18) ملعبا للغولف، اما خارج هذه الاراضي فكان الناس يعيشون في فقر مدقع وتفشت بينهم الدعارة، وهذا الامر ما كان يمقته (توريخوس)، ولكن الامر لم يتوقف الى هذا الحد، فهو كان يريد ان يقول للأمريكيين: "عودوا الى دياركم، فبلدي بنما ليست بحاجة الى الإمبريالية، نحن لا نريد نظامكم في اي مكان من امريكا اللاتينية"، وبات من الواضح انه ينبغي الاطاحة بتوريخوس في اسرع وقت لأنه اصبح خطرا يهدد مصالح الشركات الامريكية.
ومن المثير للاهتمام ان رئيس شركة (BECHTEL) شغل منصب المسؤول التنفيذي للشركة نفسها ما بين عامين 1974 و 1982 التي كانت انذاك تسعى للحصول على عقد لشق قناة جديدة في بنما بمليارات الدولارات، ولكن رئيس بنما انذاك (عمر توريخوس) اراد ان يتولى اليابانيون بالذات هذا المشروع فلقد كانت لديهم شركات متخصصة يمكنها تنفيذ المشروع بصورة افضل وبتكلفة أقل، مما ادى الى اغتياله في منتصف عام 1981، وفي العام التالي اصبح المسؤول التنفيذي لشركة (BECHTEL) وزيرا للخارجية (في زمن حكم رونالد ريغان)، وبعد مقتل (عمر توريخوس) حصلت شركة (BECHTEL) على المشروع المشار اليه.

وماذا بخصوص العراق؟

بعد الاحتلال الامريكي للعراق في 2003 عقد في لندن اجتماع اشبه بالمزاد العلني ضم شركات بريطانية وأمريكية بحثت فرصها في الحصول على نصيب من عقود اعادة اعمار العراق، إلا ان حصة الاسد وزعت كما يجب، حيث اختارت الوكالة الامريكية للتنمية الدولية شركة (BECHTEL) كجهة التعاقد الرئيسية وتم اعطاء الافضلية للشركات الامريكية.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
الثقافة الجديدة
العدد 367 تموز 2014