مدارات

في ذكرى ثورة العشرين الوطنية

صادق البلادي
بعد سقوط بغداد على ايدي المغول، وسقوط الخلافة العباسية، وبعد أن آل الحكم الى الخلافة العثمانية لم يكن هناك عراق بالمعنى الذي نعرفه اليوم، فالعراق اليوم، والذي يشهد سيناريوات التمزيق والتشرذم، بعد ان مرت أكثر من 11 سنة على إسقاط اعتى سلطة بربرية شهدتها المنطقة والعالم بعد الحرب العالمية الثانية، هو نتاج الحرب العالمية الأولى، التي تمر هذه الأيام الذكرى المئوية على نشوبها، كما هي نتاج ثورة العشرين، التي اندلعت في الثلاثين من حزيران ذاك العام.
فخلال الحرب العالمية الأولى، التي جرت بين الدول الإمبريالية من أجل إعادة اقتسام العالم بينها، وكان القانون الدولي يومها يعترف للدول الكبرى بحق احتلال الدول الأخرى وجعلها مستعمرات لها، تم للقوات البريطانية احتلال بغداد في 11 آذار عام 1917.
وكانت كلمات اللورد كورسون، وزير الخارجية البريطانية يومذاك، شعارا للأهداف البريطانية الاستعمارية القادمة: "إن الفرات يشكل الحدود الغربية للهند"، الهند كانت درة التاج البريطاني، ويومها كانت الهند وباكستان وبنغلادش دولة واحدة، وأهمية الشرق الأوسط لم تكن آنذاك بسبب النفط، بل فقط لموقعها الستراتيجي، فقد كانت على طريق الهند.
وقبل أن تنشب ثورة العشرين شهدت منطقة كردستان العراق تقدما كبيرا لحركة تحررها في عامي 18 - 19 إذ أعلن الكرد في السليمانية استقلال كردستان تحت زعامة الشيخ محمود البرزنجي، وابدى المحتلون البريطانيون موافقتهم ليكون حاكما لذاك الإقليم، فقد كان الاستعمار البريطاني بحاجة الى الشيخ محمود.
لبثت المخاوف في تركيا التي كانت ما تزال تشرف على الموصل، وكذلك في نفوس زعماء العرب في العراق في حالة خروجهم عن طاعة بريطانيا، غير أن الشيخ محمود كان يهمه استقلال كردستان، فساءت علاقته بالإنكليز، ونشأ قتال عنيف ضد الجيش البريطاني المحتل، ووقعت معركة حاسمة في التاسع من حزيران عام 1919 في موقعة دربندي قرب السليمانية، اصيب الشيخ محمود فيها بجروح ووقع في الأسر، وحكمت عليه محكمة بريطانية بالإعدام، وأبدل الحكم الى السجن المؤبد، وتم نفي الشيخ الى الهند.
لكن المقاومة استمرت في بلاد الرافدين ضد المحتل البريطاني، وبلغت ذروتها في ثورة العشرين، كانت بريطانيا العظمى يومها عظمى بالفعل لا اسما فقط، كانت امبراطورية لا تغيب عنها الشمس، وهي القطب الأعظم في العالم يومئذ، واحتلت العراق قبل أن تنتصر ثورة اكتوبر الاشتراكية في نوفمبر عام 1917، وتفضح اتفاقيات سايكس - بيكو، كاشفة كذب الجنرال مود، الذي أعلن "أننا جئنا محررين لا فاتحين".
وإثر توقيف شعلان أبو الجون، شيخ عشيرة الظوالم، التي كانت تظهر مواقف المقاومة للإحتلال، ولأن الشيخ متهم بعدم دفع الضرائب، فألقي القبض عليه في مكتب الحاكم السياسي البريطاني في الرميثة، يوم الثلاثين من حزيران عام 1920، غير أن رجال العشيرة المتأهبين هاجموا المكتب وحرروا شعلان من الإعتقال، هذا النصر للعشائر العراقية على قوات الإمبراطورية شكل بداية اشتعال فتيل الثورة، فانتقالها لتشمل العراق جزءا، جزءا، واظهرت مقاومة الثوار ضعف القوات البريطانية، فقد احتاجت، وهي المدججة بأحدث الأسلحة، اسلحة ما كان العراقيون قد سمعوا بها، او شاهدوا مثلها من قبل، وانعكست دهشتهم في بعض الهوسات، التي أطلقوها مثل: متعجب خالقله بعيرة، احتاجت قوات الإمبراطورية العظمى، مستخدمة الطائرات، والدبابات والبوارج الحربية بضعة اشهر لتقضي على ثورة فلاحين، يحاربون بالمكَوار وبأسلحة متخلفة، فلم يسقط آخر معقل للثوار في سوق الشيوخ إلا في آذار 1921.
لقد اضطرت الإمبراطورية البريطانية، المنتصرة في الحرب العالمية الأولى الى زج جيش قوامه يقرب من 100 ألف من النظاميين، الى جانب نفس العدد من القوات المساعدة، وأنفقت من الأموال 120 مليون جنيه استرليني، كي تستطيع قمع الثورة، التي بلغ عدد ضحاياها 8450 شخصا، وإعدام العديد من قادتها، كما تم تدمير القرى التي شاركت في الثورة، وصدرت اوامر بنهب اموال المساهمين في الثورة، بدعوى أنهم متمردون، وبعد قمع الثورة فُرضت غرامات هائلة، فجبوا اكثر من 54000 باون استرليني، وجمعت الأسلحة من العشائر.
كانت عوامل الثورة قد نضجت، وخاصة بعد فتوى المجتهد الأكبر محمد تقي الشيرازي بعدم جواز اختيار حاكم من غير المسلمين، بعد أن تبين كذب المحتلين، وبانت أطماعهم في ضم العراق الى إمبراطوريتهم، عندما اعلنوا عن نواياهم في أن يكون نهر الفرات الحدود الغربية للهند، أو أن تصبح البصرة جزءا من الهند ليتم للإمبراطورية السيطرة على الخليج، كانت هذه الفتوى ردا على الكثير من الوجهاء والأعيان والشخصيات ورؤساء العشائر، الذين أيدوا الدعوة المنادية بحكم بريطاني مباشر لا يرأسه حاكم عربي، مسلم، وكان المجتهد الأكبر الملا كاظم اليزدي يؤيد هذه الدعوة، ويكشف هذا كم يمكن ان تكون المرجعية متباينة في موقفها، رغم اتباعها نفس الأصول الفقهية.
شكلت فتوى الشيرازي بداية المقاومة للبريطانيين، كما شكلت قيدا ثقيلا على الذين كانوا يميلون للتعاون مع المحتلن، وعندما عمت المظاهرات أنحاء البلاد، وبدأ الإستعداد للثورة لإجبار الإنكليز على الاستجابة لمطالب العراقيين بالاستقلال عن طريق مؤتمر وطني عراقي منتخب يقرر هو مستقبل البلاد، ويضمن حرية الصحافة، وحق عقد الإجتماعات وتأليف الجمعيات، في أثناء تلك التحضيرات طلب آية الله الشيرازي، منطلقا من تقديراته في عدم قدرة العشائر على الوقوف أمام قوات الإحتلال، طلب بضرورة الحفاظ على الأمن و النظام، معتبرا ذلك أهم حتى من الثورة، قد يكون ذلك من إدراكه لما يمكن أن تسببه الثورة من هلاك أبرياء، وخراب للبلاد، وهو الفقيه، الذي يعلم "أن من قتل نفسا بغير نفس أو فساد في الأرض فكأنما قتل الناس جميعا"، فلم يعط موافقته على خطط الثوار إلا بعد أن أكدوا له أنهم سيحافظون على القانون والنظام. ولكن ومع اصرار المحتلين على تعنتهم أخذ الشيرازي يميل لاستعمال العنف فأصدر الفتوى بأن المطالبة بالحقوق واجب على الشعب، وعليه المحافظة على الأمن والنظام، وأن يكون استعمال العنف مشروعا إن رفض الإنكليز ذلك.
حاول الإنكليز عرقلة الثورة، فسعوا الى شق الصفوف بإثارة فتنة طائفية، بإِشاعة النعرات المذهبية، وإلهاء الشعب بالصدام بين الطوائف الدينية، لكن علماء الدين المتنورين، والشخصيات الوطنية من مختلف الطوائف أفشلوا هذه المحاولة بإقامة مختلف مظاهر التآخي بين الطوائف والمذاهب، تلك الفعاليات التي تعكس نضج القيادات السياسية، وعدم انجرارها لردود الفعل، او التفكير بتحقيق مصالح ضيقة لهذه الشخصية او تلك، من هذه الطائفة أو تلك، بل جعل مصالح الوطن فوق اية مصلحة شخصية أو طائفية. وكم نحن بحاجة اليوم الى مثل تلك الشخصيات الوطنية التي نفتقدها الآن.
لم تحقق ثورة العشرين كل أهدافها لكنها اجبرت المستعمرين على التخلي عن امكانية استعمار العراق، ولو تحت اسم الإنتداب، فأقامت مملكة اختارت فيصل الأول ليكون عاهلها، ومعاداته للبلشفية كانت من بين ما جعلت الإنكليز يختارونه عام 1921، مدركين مسبقا ما أنشده الرصافي بعدئذ من أن مطامع الإنكليز في العراق لا تنتهي إلا بالتبلشف. فباتت معاداة الشيوعية النهج البارز لحكومات العهد الملكي، حتى قبل تأسيس الحزب الشيوعي. وصار شعار تحقيق الاستقلال الوطني بالتخلص من معاهدة 1930، التي عقدها الإنكليز وتم توقيعها. في يوم العشرين من حزيران، إذلالا لذكرى يوم ثورة العشرين، صار هو الشعار الرئيسي للشيوعيين العراقيين، حتى قبل تأسيس الحزب، كما جاء في البيان الذي علقه مؤسس الحزب الرفيق الخالد فهد بتوقيع عامل شيوعي ليلة 25/24 كانون أول عام 1932، والذي جاءت نهايته :" فهل فيكم من يرضى أن يسفك دمه من أجل مصالح الإنكليز، إذن فودعوا أهلكم وأطفالكم واتركوهم هنا تحت رحمة أعدائكم الموجودين في داخل البلاد واذهبوا وقاتلوا أعداءكم. لقد حذرتكم في نشرتي السابقة وأنا أحذركم الآن، والوقت عصيب جدا، فمن العار علينا أن نطأطئ رؤوسنا للظلم أيها الرفاق، فإلى الأمام الى الأمام"، عامل شيوعي.
لقد بقي شعار إلغاء المعاهدة هو الرئيسي في شعارات الحزب، ولم تخدعه تحقيق الإنكليز لوعدهم بإنهاء الإنتداب ومنح العراق استقلاله، الشكلي، فقد قبل العراق في تشرين أول 1932، عضوا في عصبة الأمم، وكان اول دولة عربية تنال العضوية، واستمرت المملكة العراقية تسير وفق السيناريو الذي رسمه المستعمرون، عراقية المظهر، بريطانية الجوهر، ولكن القوى الوطنية استطاعت في نضالاتها المتواصلة، مستلهمة دروس ثورة العشرين، ومستفيدة من النتائج البائسة لما اسمته الطغمة الحاكمة من "سياسة خذ وطالب" أن تكوّن رأيا عاما يهدف لتحقيق الإستقلال الحقيقي، ولا يرضى بالإستقلال الشكلي، وينتهج سبيل النضالات الجماهيرية السلمية، غير أن التغير الذي حصل بعد حل البرلمان عام 1954، الذي فاز فيه عدد من نواب الجبهة الوطنية، رغم تزوير الانتخابات، وبعد توقيع حلف بغداد مع الانكليز والأمريكان، وبمشاركة تركيا وإيران والباكستان، قطع طريق التطور السلمي، فاندفعت القوى الوطنية نحو الجيش، غير منتبهة لدرس ثورة العشرين عن الترابط بين شكل الوصول الى الحكم والنهج الذي يسلكه النظام المنبثق عنه في ما بعد، والذي أثبته ما تبع إسقاط النظام البعثي الفاشي بيد الأمريكان.
ولم يكن مفهوما، رغم تجربة الحركة الوطنية مع الاستعمار، إضافة الى تشخيص النظرية الماركسية اللينينية ستراتيجية محاربة الإمبريالية أن يوافق الحزب الشيوعي على ما سمي باتفاقية خروج القوات الاجنبية.
أعتقد أن المهمة الرئيسية الآن، وبعد الخلاص من داعش هي إلغاء الاتفاقية الستراتيجية طويلة الأمد مع الأمريكان، وتقليص حجم التمثيل الدبلوماسي وجعل السفارة الأمريكية كباقي سفارات الدول الكبرى، وهي مساهمتنا في النضال العالمي ضد العولمة الرأسمالية المتوحشة، ويبدو أن الظروف التي وصلها وضع بلادنا بعد اكثر من عقد بعد انهيار البعث الفاشي، ونهوض الشباب في العديد من بلدان العالم العربي في ما سُمِّي بالربيع العربي، والتحرك الجماهيري في شباط يتيح امكانية جيدة لتحقيق هذا الهدف، قد يكون وقوف القوى الكردستانية الماسكة بالحكم الى جانب الاتفاقية والحليف الأمريكي بقوة عاملا يحد من الوقوف بوضوح ضدها، إلا أن مصلحة الشعب العراقي، ومستقبل المنطقة يتطلبان طرح مهمة إلغاء معاهدة التحالف الستراتيجي.
ملاحظة: بالضبط في الذكرى الثلاثين لثورة العشرين، ذكرى عشرين عاما على معاهدة 1930 الإسترقاقية، وكنت في الصف الثاني المتوسط، نشرت لي جريدة الثبات أو باسم آخر للصحفي لطفي بكر صدقي، نشرت مقالة لي مطالبة بإلغاء المعاهدة، وكانت تلك المقالة أول محاولة لي في النشر الصحافي.