مدارات

من تأريخ الكفاح المسلح لأنصار الحزب الشيوعي العراقي (1978- 1989 ) "2" / فيصل الفؤادي

المقدمة
بعد إصداري كتابين عن حركة الأنصار تلقيت رسائل من الأنصار والكتاب تشيد بجهودي وتحثني على مواصلة الكتابة، وقد أثارت انتباهي تلك الملاحظات التي وردت في عدد من الرسائل تدعوني إلى الكتابة عن عموم الحركة الانصارية الشيوعية في كردستان، وهذا ما أستجبت إليه في كتابي هذا شاكراً كل الذين أولوا عناية في التوقف بشكل جدي على طبيعة هذه الحركة وأهميتها التاريخية وكونها إرث وطني للنضال ضد أشرس دكتاتورية شهدها التاريخ الحديث عامة والعراق خاصةً، وكذلك جدوى هذه الحركة التي سيكون لارثها أهميته للأجيال القادمة التي ستتلمس الاستبداد الذي عانى منه الشعب العراقي وحجم الدمار والخراب الذي تعرض له وطننا على أيدي الدكتاتورية المقبورة، خاصة وإن حركة الأنصار التي قدمت ألف ومئة وخمسين شهيدا وحدت كل أطياف وفئات المجتمع العراقي على هدف سامي نبيل وبرنامج موحد مصيري ألا وهو إسقاط الدكتاتورية وإقامة المجتمع الديمقراطي العادل المساواتي والتحرر من البطش والاضطهاد الذي تواصل النضال عقود بعد عقود ، فتلك النخبة من طلائع الشعب العراقي من شغيلة الفكر واليد هي التي أسهمت في ديمومة تلك الحركة رغم الظروف الصعبة القاسية والنواقص التي اعترتها، فدماء الشهيد العربي والكردي والكلدو ـ آشوري والتركماني والأرمني والايزيدي والمندائي سالت في أرض كردستان في سبيل التخلص من همجية الدكتاتورية ، فهذه المسيرة التاريخية الطويلة رسمت بالدماء ضمن وحدة كل أطياف المجتمع العراقي، ففي جبال السليمانية سالت دماء كوكبة نيرة من أبناء العراق لتعانق روحها عطر الزهور وحفيف أوراق الشجر و الوديان, مثلها أربيل التي ضمت بربوعها دفء تلك الكوكبة التي أنارت الطريق للآخرين، وكذلك مثلها بهدينان وسهل الموصل الذي احتضن ترابه وصخوره ملمس تلك الأكف الطاهرة وعيونها تتعلق بسحب السماء البيضاء، وابتسامتها تفرش على الوجوه لهديل طائر كردستان الجميل، وهي تودع الحياة من أجل أسمى قضية آمنت بها .
" تلك الأرواح الطاهرة
جناحا طائر يطير ...
ودر الندى يقطر من أوراق الشجر
عندما يفيض النسيم
مسك ينوح على بساتين
نور في الدجى الظلماء ينوح
يجود عليها السحاب الوحيد
روض معشوق أنيق
أرواح تلبس إكليل زهور
حسنا ونورا بسنا البروق
عندما تورق الغصون
وتزهر الزهور على القبور
للسرور أرواحها طيب
درية الحصباء
وردية الحصباء
تلمع لمع البروق
فكأن أنوارها زخارف
ونجوم في السماء لوامع
أرواح تكلل بالزهور "

خاض الأنصار مختلف أشكال النضال من توعية ثقافية ودعاية جماهيرية التي كان الكفاح المسلح شكلها الرئيسي, ليس حباً في العنف بل لأن كل الوسائل النضالية المتاحة قد تكاملت مع الكفاح المسلح حيث لا يوجد بديل آخر, كما نعتقد ينفع مع تلك الشراسة والوحشية التي كانت تمارسها أجهزة الدكتاتورية ضد الشعب، وقد تجسدت تلك المواجهة القاسية سنوات طويلة صعبة بين حركة الأنصار وجيش الدكتاتور القمعي المتفوق بسلاحه وعتاده . لقد كانت الحركة, في شكلها المسلح, هي الواجهة العلنية في ممارستها النضالية التي كانت تسيطر على أجزاء واسعة من أرض كردستان لزعزعة الماكنة العسكرية للنظام . وقد رافق ذلك نشاط آخر سري بتسلل الأنصار إلى المدن سواء من أجل تحشيد الجماهير أو تنفيذ مهمات عسكرية ، وكان للحركة مقرات ثابتة في أرجاء كردستان ينطلق منها الأنصار لتأدية مهامهم في قاطع السليمانية أو أربيل أو بهدنان ، وكان هذا التقسيم الإداري يسهل تنظيم وقيادة القواطع التي كان يقودها مركز قيادي واحد ينسق مع القواطع الثلاث . وقد تغيرت أمكنة المركز القيادي بين الفترة والأخرى حسب متطلبات الظروف العسكرية والسياسية التي كانت تفرض نفسها على الحالة النضالية في حينها، وقد تعرض هذا المركز إلى هجوم غادر عام 1983من قبل مقاتلي أؤك خلال نزاع (الاخوة الاعداء) مما سبب في إرباك الحركة، وكان لكل قاطع نسق تنظيمي واحد كما في الجيوش الحديثة تبدأ من فصيل وسرية وبتاليون ولها مستشار سياسي ومسؤول عسكري ولجنة توحد ما بين المهمات السياسية الجماهيرية والعمل العسكري وتنظم حياة الأنصار اليومية ومتطلباتهم ، وتربط بين القيادة المركزية والروح الجماعية في اتخاذ القرار . وغالبا ما كانت تعقد اجتماعات دورية للمفرزة التي يطلق على (التشكيلة القتالية المتحركة) والتي ليس لها مقر ثابت، وإنما كانت تعتمد الحركة المستمرة بين القرى، وفي أحيان كثيرة كانت المفرزة تختفي في النهار، وتمارس نشاطها في الليل حسب واقع المهمة المكلفة بها أو المنطقة التي تعمل فيها ، فلكل مفرزة قتالية منطقة محددة لتحركها ، وهذا لا يعني عدم التنسيق بين المفارز ، بل تم تنفيذ العشرات من العمليات العسكرية الناجحة بفعل هذا التنسيق خاصة وإن تلك العمليات إحتاجت إلى عدد أكبر من الأنصار ، فاغلب السرايا كان يبدأ عددها من ثلاثين نصيرا ويقل العدد او يزيد حسب ظروف الالتحاقات اوالدعم من قيادة القاطع.
لقد أسهم هذا التنظيم العسكري لعموم حركة الأنصار على تسهيل الحياة الأنصارية وقيادتها التي امتازت بالضبط الواعي والالتزام بالتوجهات الأساسية التي توحد النضال اليومي ، والشعور العالي بالمسؤولية الفردية والجماعية، وكان التحلي بالروح الثورية التضحوية من أبرز سمات النصير، فهو دائما على استعداد أن يخوض أصعب المهمات بما فيها الاقتحامية، بل كان الأنصار يتسابقون على تنفيذها ليكونوا في مقدمة العمل الثوري ، لذلك كانت الشجاعة واحدة من الصفات الأساسية التي جبل عليها الأنصار ، وبالشجاعة كان يحظى النصير باحترام وتقدير رفاقه. لقد تركز تكتيك الأنصار العسكري على الأمور الآتية :
أولاً : عمليات الكر والفر
وهي تلك العمليات التي كانت تتعرض إلى الأهداف المتحركة للعدو كآلياته سواء كانت أرتال كبيرة أو صغيرة ، وكان هدفها عرقلة حركته وبث الرعب في صفوفه وكسر معنوياته ، وقد كانت أغلب هذه العمليات تجري في النهار لأن العدو يتجنب الحركة في الليل خاصة وذلك لصعوبة دعمه جواً اثناء الظلام ، وقد حدث أن استولى الأنصار على أرتال متحركة عند الغروب ، وتم تدميرها وحرق مؤنها .

ثانيا : عمليات الاقتحام
وغالبا ما كانت تتم على المواقع الثابتة للعدو كأجهزته القمعية ومنظماته الحزبية ودوائر الأمن، ومواقعه العسكرية (الربايا والأفواج) . ويستفيد الأنصار من الغنائم التي يستولون عليها من السلاح والعتاد وأجهزة الاتصال ، ومثل هذه العمليات كانت تحتاج إلى التأني والدراسة المستفيضة لئلا تقدم فيها خسائر بالأرواح ، ونجحت الكثير من هذه العمليات سواء بالتسلل الخفي ومباغتة العدو في مكانه أو مباغتته أثناء الضربة الأولى بسلاح (أر بي جي) ،ولقد قدم الانصار العديد من الشهداء في عمليات الاقتحام.

ثالثا : الدفاع والتصدي
كان العدو في الغالب, يقوم بهجوم على مناطق تواجد الأنصار ، ويحاول أن يفرض معركة على الأرض التي يحددها والتي تخدم تحركه ، وكان الأنصار يتصدون لقواته الزاحفة ببسالة لا مثيل لها ، وتشهد معارك طاحنة دامت عدة أيام أو أسابيع، وكان الأنصار يتحدون زحفه وآلته العسكرية الضخمة المدعومة بقصف مدفعي مسبق ، وقصف صاروخي من الطائرات .

رابعا : الكمائن
احيانا ينصب العدو الكمائن الليلية على معابر الأنصار والطرق الرئيسية ومداخل القصبات والمدن ، ويحدث الاشتباك مع الكمين المهيأ والمحصن ، وتدور معركة قصيرة ، ولقد سقط العديد من الشهداء في هذه الكمائن .

خامسا : معاقبة المجرمين
كان الأنصار يتسللون إلى القصبات والمدن لمعاقبة المجرمين, سواء كانوا من الجحوش أو رجال الأمن أو أفراد المنظمة الحزبية الذين ضاق الأهالي الأمرين من ممارساتهم ومضايقاتهم ، وينزلون العقاب الذي يستحقوه أو القبض عليهم والإتيان بهم إلى القواطع بغية التحقيق معهم .
وفي ختام هذه المقدمة الموجزة لابد الإشارة إلى قضيتين :
أولاً : حرصت في هذا الكتاب عدم التفصيل للاحداث وهي كثيره جدا لانها تحتاج الى كتابة عدة اجزاء , اما تناول تقيم الحركة فهو يتطلب جهد خاص في مراجعة ظروف الحركة ونشأتها وتطورها وطبيعة التشكيل التنظيمي سواء في كادرها أو قيادتها ، ثم التوقف على طبيعة النهج السياسي آنذاك وقد مررت بشكل سريع عليه في نهاية الكتاب.
ثانيا : سبق وان تطرقت بشكل مكثف في كتابي الحزب الشيوعي العراقي والكفاح المسلح الى تقيم التجربة وامل من المتتبعين الاطلاع عليه.

لايسعنى الا ان اشكر الرفاق والاصدقاء الاعزاء الذين قدموا لي المساعدة في ابداء ملاحظاتهم والتصحيح او توفير المصادر : الدكتور صالح ياسر والدكتور عقيل الناصري والدكتور لطفي حاتم (ابو هندرين) والكاتب حمودي عبد محسن والشاعر جاسم ولائي وجاسم هداد و مالك حسن ونظام شاكر (ابو دنيا) وعبد الرزاق محسن (ساطع) و خالد شيرو (خالد سردشتي ) وابو حسن قامشلي وكريم فيلي (ابو حسين)ومؤيد عبد الحسين (ابو شكرية ) وخليل عبد كاطع (جلال), والاصدقاء الذين لم يبخلوا بالمعلومة وأبداء الرأي. جميعا لهم المودة والامتنان.

فيصل الفؤادي
7 تشرين الثاني 2014