مدارات

من تأريخ الكفاح المسلح لأنصار الحزب الشيوعي العراقي (1978- 1989 ) "3" / فيصل الفؤادي

الفصل الأول
من الجبهة إلى الجبل
بسبب الهجمة المنظمة من قبل النظام الدكتاتوري على الحزب الشيوعي العراقي والتي بدأت منذ منتصف عام 1978 بشكل علني، هاجر الكثير من أعضائه إلى بلدان الشتات. كما انتقل كثير منهم من محافظاتهم إلى محافظات أخرى وبالذات إلى بغداد العاصمة وتبعثرت التنظيمات, ولم تكن هناك خطّة للحزب في تنظيم الإنسحاب وعدم معرفة توجهات قيادته، كما أن ضبابية الموقف الحزبي من هجوم النظام على الحزب واعتقال رفاقه وأصدقائه وزجّهم في السجون واجبارهم على توقيعهم على البراءة والابتعاد عن السياسة وعن الحزب تطلب ". . . الأمر الذي يعني ضرورة وضع خطة شاملة تمكنه من الإنتقال إلى المعارضة أو المعارضة السريه بأقل الخسائر وضرورة استثمار كلّ فرصة ممكنة للإعداد وفق هذه الخطة لتغير أساليب الكفاح في حالات الضرورة. لقد أهملت قيادة الحزب اراء الكثير من الكوادر والقاعدة الحزبية الداعية إلى الحيطة والحذر أزاء مستقبل العلاقة مع البعث العفلقي الحاكم " .

وجاءت هذه الحملة, بعد الهجمة الهمجية التي مارسها حزب البعث في البدء منذ مطلع السبعينات، وتمّ فيها تصفية الكثير من الكوادر المجربة. واستمرت بإسقاط الرفاق بصورة سرية وغير مكشوفة حتى بعد توقيع ميثاق الجبهة والتي نكّلت بأعضائه وأصدقائه. وقد حاولت قيادة الحزب وقف هذا التدهور حيث أصدرت بيانًا عن اجتماع آذار 1978 تنأول بالنقد سياسة وممارسات سلطة البعث ومنها التبعيث القسري للمجتمع والدولة والهجمة الشرسة على الحزب وتعريب المنطقة الكردية وتشويه مضامين الحكم الذاتي في كردستان. وجاءت هذه التشخيصات على ضوء تقارير منظمات الحزب في عموم العراق التي أشارت إلى الهجمة الشرسة التي كانت تقودها الأجهزة الأمنية ومنظمات الحزب الحاكم. وتُشير أغلب كتابات قيادة الحزب إلى أنها كانت مترددة في اتخإذ موقف واضح ينقذ الرفاق والتنظيم بشكل عام من هذا الإرهاب لأنها كانت مختلفة في آرائها تجاه حزب البعث والجبهة وقد أثار البيان الصادر عن الإجتماع المذكور ردود فعل قوية من الحزب الحاكم. وفي اجتماع لقيادة الجبهة الوطنية, (فقد طلبت قيادة البعث أثناء اجتماع اللجنة العليا للجبهة من ممثل حزبنا أن تجتمع اللجنة المركزية ثانية لإصدار قرار بالتراجع عن ماجاء في تقرير إجتماع 10 آذار 1978، وأعلنت قيادة الحزب رفضها القاطع لذلك الطلب، ورفضت أي حوار مع البعث مادامت حملة القمع مستمرة، وما لم تعتذر قيادة البعث عن الإعدأمات وتعلن إعادة الاعتبار للشهداء رسميًا. "
وحرك النظام بعض الصحافة منها صحيفة (الراصد) في بداية شهر ايار عام 1978 للهجوم على الحزب في حملة غير مسبوقة.
اذ (... واجه الحزب في عامي 1977- 1978 هجومًا عاما على منظماته وتحولت المظاهر والإجراءات الإرهابية التي كانت تبرز هنا وهناك وفي هذه الفترة أو تلك إلى نهج ثابت ضمن مخطط متكامل للقضاء على الحزب ومنظماته، وهو غير مهيأ لمواجهة ذلك ودرئه، وتبين من الوثائق الأمنية التي حصل عليها الحزب بعد انتفاضة آذار 1991 أن الخطط والإجراءات الأمنية والسياسية للقضاء على الحزب وضعت منذ ما قبل منتصف السبعينات) .
ولا بد من الإشارة هنا إلى أنه وتحت تأثير هذه الحملات ساد منظمات الحزب جوّ من اللغط والبلبلة الفكرية والسياسية والارتباك التنظيمي ، وأصبحت المنظمات تعيش حالة من الضياع والتشتت .
وأزاء مجمل الوضع وتطوراته لوحظ أنه لم تكن هناك خطّة واضحة لقيادة الحزب أزاء هذا التدهور. وبحث الكثير من الرفاق القياديين والكوادر الحزبية عن أماكن للاختفاء في كلّ مناطق العراق، وبعضهم أراد الصعود إلى الجبال، لهذا حأول الرفاق من المسؤولين المحليين الاتصال بمركز الحزب لكي يتمّ التوجه إلى مناطق معينة من كردستان. ومن أهم القرارت التي أصدرها المكتب السياسي للحزب رسالة داخلية في حزيران من عام 1978 ومنها – عدم استعمال الأسماء الصريحة في العمل الحزبي وتغير الأسماء الحزبية ، وأن يكون شكل التنظيم الحزبي تنظيمًا خيطيًا، وعدم معرفة أي رفيق لمكان وتواجد الآخرين، وإلغاء الدورات الحزبية وإتلاف الوثائق ومحاضر الإجتماعات والترحيلات وغير ذلك. وتحول التنظيم بشكل عام إلى تنظيم سري، ووضع مسألة سفر أي رفيق كحل إختياري ووفق إمكانياته، ومن ثمّ أغلقت جريدة الحزب طريق الشعب في الخامس من نيسان 1979.
وعلى إثر اجتماع آذار 1978 للجنة المركزية للحزب الشيوعي وأزاء تطور الوضع السياسي وممارسات النظام الدكتاتوري حيث كانت الأجواء مشحونة ومتوترة على اثر ممارسات السلطة مع أعضاء الحزب ساد في الحزب فريقان. الفريق الأول يرى ضرورة الرد على الحملة الصحفية التي قامت بها السلطة عبر جريدة (الراصد)، بينما رأى الفريق الثاني ضرورة الحرص على "العلاقات الجبهوية" مع النظام وتجنب ما يثير السلطة. ويصف بهاء الدين نوري الموقف في تلك الأيام بالتوفيقي وبذل قصارى الجهد لإيقاف عملية التدهور مع البعث، ويضرب مثالا على ذلك بقوله إنه: "وفي تموز 1978 نشر في جريدة الحزب مقال لباقر ابراهيم يشيد بمأثر حزب البعث الحالك ويناشده الحفاظ على الجبهة الوطنية والقومية التقدمية" .
وهكذا أخذت منظمات الحزب ورفاقها على عاتقهم التخلص من بطش الأمن ورجالات البعث في المناطق والأحياء والمعامل والمدارس والجامعات، ومع استمرار الحملة وتصاعدها،(... لم يتركوا أمام الحزب من خيار إلا أحد اثنين: فأما التنازل عن شيوعيتنا بعد أن تنازلنا عن قيادة السلطة السياسية في الدولة وعن النشاط السياسي في القوات المسلحة وعن تنظيم المنظمات الاجتماعية و.. الخ، وأما الخيار الآخر وهو القطيعة التامة مع البعث وحكومته وتحمل كلّ ما يترتب عن ذلك من تبعات. وكان طبيعيًا أن نفضل الخيار الأخير ونحافظ على حزبنا الشيوعي بدافع غريزة البقاء! واضطر شطر من كوادرنا إلى الإنسحاب إلى جبال كردستان وإلى حمل السلاح...)
في حين يشير عضو المكتب السياسي آنذاك كريم أحمد إلى ذات الموضوع بالقول: " أعتقد، إذا لم تخنّي ذاكرتي، أن المكتب السياسي للحزب إجتمع في شهر تشرين الثاني 1978 كآخر إجتماع له في بغداد، وقرر إتخاذ الإجراءات السريعة تجاه الوضع الناشئ إثر إعدام البعث 31 شيوعيًا من القوات المسلحة وحسب مايلي:
1. توجيه الرفاق في الإقليم بإقامة فصائل الأنصار في المناطق التي تتواجد فيها قواعد (الپيشمه مرگة) للأحزاب الكوردستانية التي هي الأخرى أخذت تتسلح وتقيم قواعدها على الحدود الإيرانية العراقية.
2. تحويل الرفاق غير المكشوفين إلى تنظيمات حزبية سرية يقودها (أبو فاروق) عمر علي الشيخ.
3. الإيعاز إلى جميع الرفاق المكشوفين بالخروج إلى خارج العراق بهدوء وبسرية تامة.
4. إستمرار الجريدة بالصدور بصورة إعتيادية مع تقليص كادر التحرير إلى أقصى حد.
5. تصفية المـــقر العام ومقـــر بغداد من الوثائق.
6. خروج أعضاء اللجنة المركزية، وإبقاء عدد منهم، من غير المكشوفين لمواصلة قيادة العمــل والتنظيمات السرية.
7. تنظيم السرية بين الخارج والداخل"
ويبدو أن هناك تناقضًا كبيرًا بين الرفاق في قيادة الحزب سواءً في فهم القرارات أو في تنفيذها، حيث يلاحظ الإختلاف في الآراء وفي عملية صعود الرفاق إلى كردستان، وبقي أكثرهم يبحثون عن ملجأ يختفون فيه. لقد تحمل حزبنا الشيوعي العراقي ورفاقه مشقّة وصعابًا لا توصف، من جراء الهجمة الشرسة من قبل النظام الدكتاتوري والتي أريد منها مسخ هيبة الحزب أمام الشعب العراقي، ولكن الحزب بتصميمه وإرادة رفاقه ورفيقاته وعزيمتهم قرر أن يرفع السلاح بوجهة أسوء وأشرس حكم قمعي في تأريخ العراق المعاصر. لقد كانت هناك عوامل اساسية في صعود عدد من الرفاق القياديين والكوادر وأعضاء الحزب الآخرين إلى المناطق الجبلية في كردستان من أهمها:
أولا – كان وجود الأحزاب القومية الكردية عاملاً مساعدًا ومطمئنًا في خروج الشيوعيين إلى المناطق التي تسيطر عليها هذه الأحزاب وكون المنطقة عصيه وبعيدة عن السلطة وعملائها، إذ كانت ظروف كردستان ملائمة من (1- حيث وعورة الأراضي وكثرة المياه والنباتات البريّة والغابات. 2- وكذلك القومية حيث كان الشعب في كردستان العراق يعاني الاضطهاد القومي وتنامت لدى أوسع أوساطه مشاعر العداء للنظام) .
ثانيًا – تدهور الأوضاع في إيران ورحيل الشاه ومن ثم سقوط نظامه في شباط 1979.
ثالثًا – ضعف سيطرة سلطة دول الجوار(إيران وتركيا) على المناطق الحدودية، إذ كان الحزب الديمقراطي الكردستاني الإيراني يسيطر على مناطق واسعة من المناطق الحدودية مع العراق وهو حليف جيد وسند للقوى القومية والوطنية العراقية. كذلك الحال على الحدود مع تركيا فتكاد تكون شبه فارغة في تلك الفترة، خاصة قبل مجيء الحكم العسكري في عام 1980.
رابعًا- تجربة الحزب في مجال الحركة الأنصارية منذ عام 1963 وهي تجربة رائدة برغم صعوبتها، ووجود كادر قيادي متمرس وله خبرة ميدانية منذ عام 1963 و 1970.
خامسًا – الحاجة إلى صيانة الكادر الحزبي وتصاعد روح التحدي والإصرار لإرجاع مكانة الحزب و الوقوف أمام الهجمة الشرسة التي يقوم بها جلاوزة النظام وحزبه الفاشي.

12/11/2014

----------------------

كريم احمد، المسيرة – صفحات من نضال كريم احمد، الطبعة الاولى، اربيل، 2006، ص 215.
تقيم الحركة الانصارية ص8