مدارات

قصة جريمة / عبد الكريم العبيدي

في ساعة متأخرة من ليلة 3 على 4 تموز عام 1963، كلف «عبد عباس المفرجي» بقيادة قطار حمولة، يحمل مواد حديدية خاصة من بغداد إلى السماوة.
وقتها، كان الرجل قلقا من وقوع أحداث رهيبة في صبيحة ذلك اليوم الذي شهد اندلاع حركة «حسن سريع» في معسكر الرشيد.
وصل المفرجي الى المحطة ولاحظ للمرة الأولى أن العربات كانت منقولة ومربوطة بالقطار، على غير العادة، وأن أبوابها مضروبة «سير وربد»، وتنبه إلى أن حراس القطار لم يزودوا بمفاتيح أقفال العربات، وأن المحطة تبدو خالية من العمال المدنيين، كما لاحظ أن الحضور هم من المسؤولين العسكريين وحرسهم، إضافة إلى بعض المسؤولين الحزبيين، وعدد من أفراد الحرس القومي.
سار القطار بسرعة بطيئة جدا طبقا للتعليمات التي زود بها سائقه للحفاظ على «الحمولة الحديدية»، ولكن اثناء توقف القطار في إحدى المحطات الأقرب إلى بغداد، صعد شخص في الثلاثين من عمره وقال للسائق:» هل تعرف أن حمولتك ليست حديدا، بل بشر، هم من أفضل أبناء شعبنا»!؟.
ارتعد المفرجي من هول الصدمة، وطلب من مساعده «الفايرمان» الذهاب الى العربات ومحاولة التأكد من صحة ادعاء الشاب، وبعد لحظات عاد «الفايرمان» مصعوقا وهو يصرخ بأعلى صوته:» حجي، طلع الحجي صدك».
ولكن، ما لم يكن يعرفه سائق القطار، انه في حوالي الساعة العاشرة من نهار الثالث من تموز، أي بعد ساعتين تقريبا على تغير الموقف لصالح السلطة، انعقد بمقر وزارة الدفاع، اجتماع خاص لما يسمى بـ «المجلس الوطني لقيادة الثورة» لدراسة أحداث «حركة الرشيد العسكرية»، واتخذ القرار بإعدام (520) معتقلا تم انتقاؤهم من قبل المجلس نفسه، شكلوا ما عرف بـ «ركاب قطار الموت»، حيث تقرر نقلهم إلى سجن «نقرة السلمان» بقطار حمولة سيصل «بجثثهم» حتما وليس بهم!.
شحنت «البضاعة السياسية» المؤلفة من خيرة شباب العراق، وتحرك قطار الموت ببطء لتبدأ أشهر رحلة اجرامية في تاريخ العراق الحديث.
وما أن حلت الساعة الثامنة صباحاً حتى شعر الراكبون/ المعتقلون أنهم في تنانير أسطورية، سيقضون فيها حتفهم جميعاً، وبعد ساعة بدأت حالتهم تسوء بسبب نضوح العرق وانخفاض نسبة الماء والأملاح في أجسامهم، فشعروا بالاختناق والغثيان وهبوط ضغط الدم والضيق والإغماء والتقيؤ والتبول وبعدها فقدوا الرغبة بكل شيء!.
عندما شعر ركاب قطار الموت بتزايد سرعة القطار إلى الدرجة التي بدأت معها العربات تهتز وتتأرجح لفرط السرعة، انتعشت آمالهم من جديد.
لم يعرف السجناء ولا غيرهم، حتى الآن كيف علم بعض الأهالي بسر ذلك القطار، فاحتشدوا حاملين أسطل الماء لرش عرباته، أثناء توقف القطار، أو حين يبطئ من سرعته في محطات أخر!.
سار المفرجي بقطاره بسرعة تفوق سرعة «القطار السريع»، بل قال بعض ركابه ان القطار كاد أن يطير بهم إلى السماوة متجاوزا محطات التوقف.
وأخيرا وصل قطار «الجريمة المسيرة» إلى السماوة قبل ثلاث أو أربع ساعات على الموعد المقرر له، وأمام رصيف المحطة القصير، تعالى الصراخ من داخل العربات وخارجها، فهرع السائق صوب ناظر المحطة وطلب منه أن يفتح أبواب العربات بسرعة.
كان الجميع بمن فيهم سائق القطار بانتظار ظهور «المخلوقات الأسطورية» التي ستتهاوى أمام أعينهم في مشهد إعجازي لن يتكرر أبدا.. كانوا هياكل عارية تطلق حشرجات واهنة، وتزحف ببطء من ظلام القبور نحو الماء والهواء والضوء.. كانوا موتى أحياء يحركون أصابعهم ويطلبون العون المتأخر جدا في لحظة هي الأقرب إلى الموت، لحظة نهاية جريمة بعثية شنيعة من طراز دموي خاص.