مدارات

ملاحظات اولية حول استراتيجية التنمية الصناعية حتى عام 2030 (3 - 7) / د.صالح ياسر

أهداف "الاستراتيجة": طموحة ...عمومية ... متناقضة !!
   وبشأن الاهداف الاستراتيجية الاساسية المستهدف تحقيقها بحلول عام 2030 (ص 9-10) فقد تحددت في ما يلي:
·         زيادة النسبة السنوية لنمو القيمة المضافة الصناعية الى 10%
·         زيادة نسبة مساهمة الصناعة التحويلية في تكوين الناتج المحلي الاجمالي الى18  %.
·         زيادة نسبة تشغيل العمالة في المنظومة الصناعية.
·         زيادة نسبة الاستثمار في المنظومة الصناعية مقارنةً مع إجمالي الاستثمارات.
·         زيادة نسبة الصادرات الصناعية من إجمالي الانتاج الصناعي.
·         زيادة نسبة المحتوى المحلي في المنتجات الصناعية.
·         زيادة نسبة مساهمة القطاع الخاص الصناعي في الصناعة التحويلية .
ان قراءة هذه الاهداف تتيح بلورة الملاحظات التالية.
1. انها اهداف طموحة لا تتناسب والامكانيات الفعلية الموجودة في القطاع الصناعي، ولا في الهياكل الارتكازية المتوفرة، ولا في البنية الاقتصادية المتخلفة والاحادية الجانب. فقد شخصت "الاستراتيجية" وهي تتحدث عن البنية الداعمة للصناعة ان العراق يعاني من ضعف شديد فى هذه البنية وذلك على النحو التالي (ص 7):
·       عدم وجود مدن ومناطق صناعية تتوفر فيها ابنية تحتية وشروط ومستلزمات إنشاء الصناعات المختلفة ساهم فى صعوبة بدء الأعمال.
·         تدهورشديد فى جميع وسائل النقل والمواصلات ) برى، بحرى ونهرى، وجوى).
         نقص كبير في انتاج وتوفيرالطاقة الكيربائية والغاز الطبيعي للاغراض الصناعية والانقطاعات الفجائية التى تصل إلى حدالانقطاع الكامل.    
    
ضعف البنية التحتية المعرفية شاملة شبكات الاتصالات وتكنلوجيا المعلومات ، وكذلك البنية التحتية الخاصة بالمعايير والمقاييس والجودة.
2. ومن جانب اخرى انها اهداف عمومية ولا تتضمن ملموسيات في أكثر من قضية. ويدلل على ذلك انه وباستثناء الهدفين الاولين، حيث يلاحظ تحديد اهداف لزيادة نمو القيمة المضافة الصناعية ولمساهمة الصناعة التحويلية في تكوين الناتج المحلي الاجمالي، فان بقية الاهداف اكتفت بالتحديدات التالية ومن دون ذكر معدلات ملموسة:
- زيادة نسبة تشغيل العمالة فيالمنظومةالصناعية.
- زيادة نسبة الاستثمارفي المنظومة الصناعية مقارنةً مع اجمالي الاستثمارات.
- زيادة نسبة الصادرات الصناعية من إجمالي الانتاج الصناعي.
- زيادة نسبة المحتوى المحلي في المنتجات الصناعية.
- زيادة نسبة مساهمة القطاع الخاص الصناعي في الصناعة التحويلية .
3. بعض الاهداف متناقضة مع الوجهة العامة للاستراتيجية الصناعية. لنأخذ مثلا الهدف الثالث والمتمثل بـ " زيادة نسبة تشغيل العمالة في المنظومة الصناعية" والذي يتعارض مع تأكيد الاستراتيجية في مكان اخر على ضرورة بلورة " خارطة طريق لاعادة هيكلة الشركات المملوكة للدولة" وهو تعبير مخفف عن المسعى لخصخصتها. ومن المعروف ان "تحديث" هذه المؤسسات يستلزم عدة اجراءات من بينها استخدام "تقنيات معاصرة" وهذه تؤدي بالضرورة الى تقليص العاملين ودفع نسب كبيرة منهم الى "جيش العمال الاحتياطي الصناعي". والحديث هنا ليس نظريا بل اشارت الى ذلك فقرة محاور الاستراتيجية (ص 10 ولاحقا)، حيث اكد احد تلك الاهداف على (تشجيع الشراكات الاستراتيجية مع المستثمرين الأجانب والمحليين الأكفاء). وبحسب "الاستراتيجية" فان هذا يتطلب في عام 2017 (تحقيق قفزة نوعية فى الأداء والحصول على التكنولوجيا كجزء من عملية إعادة الهيكلة القائمة  لشركات القطاع العام).
   ان تأكيدنا على تناقض الاهداف يتجسد في ان منطق السوق كما معروف غير معني بفكرة العدالة الاجتماعية فعندما يتقاطع منطق " الكفاءة الاقتصادية" الذي يرتكن إليه السوق مع هدف " زيادة نسبة تشغيل العمالة في المنظومة الصناعية" يجنح السوق الى إخضاع كل شيء لمنطقه الداخلي. علما ان اقتصاد السوق هو منتوج رأسمالي روحا ودما وهذا الأخير يحكمه منطق الاستقطاب.
   ومن الضروري الاشارة هنا الى ان تفعيل النمو في بلادنا وتعظيمه ورفع معدلاته إلى مستويات عالية واستقراره عند تلك المستويات لا بد أن يحكم خيارات التغيير وأهدافه ومجمل الإصلاح والتحديث الاقتصادي ولاسيما التكنولوجي والصناعي والزراعي بالتلازم مع الإصلاح والتحديث التعليمي. لكن هذا النمو الفعال الرفيع المستدام لا يمكن تحقيقه بتقزيم دور الدولة الاقتصادي ودورها الخاص الاستثماري وإنما يتحقق هذا النمو بتعظيم دورها الاقتصادي نوعيا وكميا وليس نوعيا فقط، يؤكد ذلك الانعكاس السلبي لتراجع الاستثمار العام الصناعي لا على أداء القطاع العام الصناعي فحسب، وإنما على الاستثمار الوطني الإجمالي والنمو الاقتصادي العام.
الاطار العام للسياسات والمبادرات
   في الفصل الثالث من "الاستراتيجية" والموسوم: الاطار العام للسياسات (ص 16 ولاحقا)، يجري التوقف امام قضايا عديدة ومن بينها الشروط المسبقة والتحديات امام وضع سياسات صناعية ناجحة. وهذه – بحسب الاستراتيجية- تتطلب مهمة رسم السياسات على مستويين:
الاول: مناخ استثماري يشجع الاستثمارالخاص الانتاجي وتغيرات هيكلية مبنية على حاجة السوق.
والسؤال المطروح هنا هو عن أي سوق يجري الحديث؟ هل عن السوق المحلية ام السوق الدولية؟ وكيف يمكن تحقيق ذلك في ظل المنافسة الطليقة؟
الثاني: تدخلات موجهة تهدف الى تسريع النمو الصناعي والانتاجية بصورة شاملة ومستدامة، ضمن جملة من الشروط أشارت اليها "الاستراتيجية" ومن بينها "الموازنة بين الاهداف الاقتصادية والاجتماعية والبيئية، فعلى سبيل المثال فان سياسة تشجيع الاستثمارالاجنبي يجب ان لا تكون على حساب الصناعة العراقية والمنتج المحلي وسياسة الانفتاح التكنولوجي تكون دافعاً للصناعيين العراقيين لاكتساب المعرفة الفنية وليس لمغادرة ساحة الاعمال" .
والسؤال الذي يطرح نفسه هنا بحدة هو انه وفي ظل اقتصاد السوق الذي تطبق فيه الاستراتيجية الصناعية كيف يمكن "ان لا تكون سياسة
تشجيع الاستثمارالاجنبي...على حساب الصناعي والصناعة العراقية والمنتج المحلي"؟ وهنا لا تتحدث الاستراتيجية عن الآليات الكفيلة بتحقيق ذلك.
   وبشأن المبادرات السياسية الرائدة (ص 17 ولاحقا)، تشير الاستراتيجية الى ان هذه المبادرات تسترشد بسياسات مجربة ولاخلاف حولها في تجارب تنمية صناعية ناجحة عالميا في كل من سنغافورة والصين وتركيا مثلا (علما ان هذه التجارب هي موضع سجالات وخلافات).
   يبدو ان ثمة التباس لا بد من توضيحه. فالاستراتيجية الصناعية تؤكد على ان يكون للقطاع الخاص دور رئيسي فيها وان يرتبط ذلك ايضا باعتماد خارطة طريق لاعادة هيكلة الشركات المملوكة للدولة، أي بعبارة اكثر تبسيطا خصخصتها او نقل نشاطها من حقل الانتاج الى حقل التداول لتصبح شركات للاوراق المالية! بمعنى ان الوجهة العامة للاستراتيجية هي الخصخصة "دون قيد او شرط" ! والتي روج لها صقور الليبرالية الجديدة في اواخر السبعينات وبداية الثمانينات وعلى رأسهم الرئيس الامريكي الاسبق رونالد ريغان ورئيسة وزراء بريطانيا مارغريت تانشر لدرجة اطلق على تجاربهما تسميتا الريغانية والتانشرية. وبعد ثلاثة عقود انهارت عمارة "الليبراليين الجدد" عندما اندلعت الازمة المالية العالمية مجددا في شهر ايلول من عام 2008 وما تلاها من تداعيات خطيرة لتتحول تلك الازمة الى ازمة اقتصادية عالمية البعد وعميقة.
   بداية، ومن أجل فك الاشتباك بين الحقيقة والاوهام الايديولوجية يتعين التأكيد على أن التحول نحو مذهب الليبرالية الجديدة ليس " بدعة " نظرية داخل الإقتصاد السياسي المسيطر في البلدان الرأسمالية المتطورة بل يجب دراسته إنطلاقاً من فرضية بسيطة قوامها أن هذا " التحول الفكري " هو نتاج الأزمة الإقتصادية العميقة التي يعاني منها الإقتصاد الرأسمالي منذ بداية السبعينات من القرن العشرين، بالرغم من كل مظاهر الفرح السياسي الغامر بإنهيار القطب الأخر. يتعين، إذن، النظر الى الليبرالية الجديدة بإعتبارها إنعكاساً لعمق الأزمة في النسق الرأسمالي العالمي وتمثل إيديولوجية كاملة لإدارة تلك الأزمة البنيوية.
   إن أحد المخارج النظرية هو هذا المذهب الذي أرتبط بهيمنة العناصر المحافظة أو تكتلات القوى التي لعب فيها المحافظون الجدد دوراً مقرراً، فمع استمرار هذه الأزمة وتفاقم الأوضاع الاقتصادية بدأ يترسخ وعي محدد في أوساط القوى المسيطرة في هذه البلدان بحقيقة الفشل الذي منيت به فلسفة إدارة رأسمالية الدولة الإحتكارية التي وضع أصولها الإقتصادي الإنكليزي المعروف كينز (1). لقد كانت الوصفة الكينزية عاجزة عن مواجهة الأحداث المعقدة التي جرت في بداية السبعينات بسبب عجز جهازها المفاهيمي عن تقديم تفسيرات منطقية مقبولة للقضايا والصعوبات التي إرتبطت بالأزمة المذكورة، وبالتالي عدم قدرتها في صياغة حلول تتجاوز الأزمة المذكورة. يتعين التأكيد على أن السياسات الكينزية، التي إستندت الى تدخل نشيط للدولة في الحياة الإقتصادية، قد حققت في حينه نجاحات ملموسة على الصعيدين الإقتصادي والإجتماعي. غير أن الأدوات التي إستخدمتها تلك السياسة لم تستطع كبح جماح التضخم أو على وجه الدقة لم تستطع مواجهة أزمة الكساد التضخمي وما رافقها من مظاهر، وما إقترن بذلك من تفشي للبيروقراطية والعسكرة، مما وضع هذه السياسات موضع النقد والمساءلة، وبالتالي بدأت تفقد بريقها لصالح السياسات الليبرالية الجديدة.
   وفي مواجهة هذه الحقائق، راح الجناح اليميني في الفكر الإقتصادي المسيطر في البلدان الرأسمالية المتطورة يشن هجوماً قوياً على الكينزية بوصفها قد أصبحت وصفة " بائرة "، داعياً لنبذها والتخلي عنها، وداعياً في الوقت ذاته الى تبني سياسة جديدة، وضعت أسسها النظرية في " مدرسة شيكاغو " بقيادة ميلتون فريدمان، وهي السياسة التي عرفت بمصطلح " النقدوية " أو " مدرسة شيكاغو " وهو تيار ينتمي الى المدرسة الكلاسيكية الجديدة. إن هذا التيار حاول جاهداً العودة بالرأسمالية الى جذورها الأولى رافعاً شعاراته الشهيرة : الحرية الإقتصادية وأليات السوق الطليقة، داعياً في الوقت نفسه الى تقليص دور الدولة في النشاط الإقتصادي وإلغاء الدور الذي تلعبه كمضخة للطلب الفعال، أو من حيث التركيز على مايسمى بـ " إقتصادات العرض " لتنشيط اليات النظام.
   وقد اقترن ذلك كله بالهجمة العاصفة للديمقراطية على صعيد عالمي، قادتها القوى المسيطرة في هذه البلدان، حتى بدا لمتابع المشهد المتحرك على الأرض تشكل مجموعة من المعادلات التي يتعين التوقف عندها. فعلى سبيل المثال جرى الإلحاح على مساواة الديمقراطية ( كبنية سياسية) بالإقتصاد الليبرالي وبالتالي يمكن كتابة المعادلة الشهيرة : السوق = الديمقراطية. ونظراً لأن هذا " السوق " الذي يجري التأكيد عليه، هو ليس مقولة معلقة في الهواء، بل أن السوق المطلوب هو سوق رأسمالي في إطار الرأسمالية، فإنه يمكن كتابة معادلة أخرى هي : السوق = الرأسمالية. وإذا كشفنا " الرابطة " الوثيقة بين هاتين المعادلتين، نستطيع أن نستنتج أن "جوهر" تلك المعادلات بحسب أطروحات الفكر الإقتصادي المسيطر هو التالي : رأسمالية = ديمقراطية. وهذه المعادلة تثير الشكوك منذ بدايتها. ذلك لأن التشديد على الديمقراطية في مثل هذه الظروف، يخلط الحق بالباطل، على حد تعبير سمير أمين. فمن ناحية التطور التاريخي كانت الرأسمالية كأحد موديلات التطور تحمل الديمقراطية والقمع في ان، حيث أن سيادة مبادئ الليبرالية قد اقترنت بالتدخل الإستعماري، ولا حاجة للدخول في التفاصيل فتاريخ التراكم البدائي لرأس المال شاهد لا يخطئ على هذه الفكرة (2). حقاً لقد حققت الرأسمالية عبر تطورها التاريخي المديد شكلاً أو صيغة للديمقراطية، ارقى بالمقارنة مع التجارب التي سبقتها أو رافقتها. غير أن ديمقراطية المستوى السياسي ظلت، وستظل كذلك لأسباب تكمن في طبيعة النظام ذاته، تسير متناقضة مع المستوى الإقتصادي، الذي لا يمكن أن يكون ديمقراطيا، لأنه يرتكن الى منطق الملكية الخاصة والمنافسة، التي لا يمكن أن تكون ديمقراطية أصلاً، لأن القانون الإقتصادي المحرك للنظام لا يجري تحقيقه بين أطراف العملية الإقتصادية بإتفاق سادة " جنتلمان "، بل عبر عمليات صراع ومنافسة ضاربة وإبتلاعات متواصلة، محليا ودوليا في أن. هذا هو المنطق الموضوعي لعمل القوانين الناظمة للتشكيل المذكور وليس من إختراع خصومه الفكريين. إن النمط الرأسمالي لا يفرض الديمقراطية فرضاً، بل لقد تم التوصل إليها عبر مساومات تاريخية بين القوى المتصارعة، وكانت هذه الصيغة معمدة بالدم والتضحيات الجسيمة. غير أن التشكيل الرأسمالي فد خلق مجموعة من الميكانيزمات الإقتصادية وغيرها تجعل أفراد المجتمع لا يشعرون بالإضطهاد المرافق للتناقض الناشئ بين المستوى السياسي ( الديمقراطية ) والمستوى الإقتصادي ( الملكية الخاصة والمنافسة بصيغتها التقليدية أم المعاصرة) وذلك بفضل ظاهرة الإغتراب التي تحكم جميع أوجه الحياة الإجتماعية والوعي (3).
   ومع ذلك يراهن مهندسو الاستراتيجية على العودة الى هذا الخيار/الخصخصة، علما ان التجارب التي تسترشد بها الاستراتيجية هي تجارب كان للدولة فيها دور رائد ومقرر.
   فعلى العكس من الاعتقاد الرائج الذى كان للبنك الدولى دوركبيرفى إشاعته، فإن النجاح الذى حققته دول شرق آسيوية ومن بينها سنغافورة (التي تعتبرها "الاستراتيجية" احد النماذج التي لاخلاف عليه) لم يكن بفضل اعتمادها المفرط على آليات السوق.بل كان مفتاحا لنجاح هوتفعيل حكومات هذه الدول لعدد من السياسات الصناعية والتجارية والاجتماعية الداعمة للتنمية، وتدخلها بإقامةا لمشروعات التى تعمل على تحقيق تغيرات هيكلية ذات شأن فى  اقتصاداتها، وذلك فضلا عن السعى بشتى السُبل لترويض قوى السوق والتحكم فى مساراتها وتسخيرها لخدمة التنمية. فلم تتحقق التنمية فى تلكا لدول بفضل آليات السوق، بل بفضل توجيها لدولة للأسواق وسيطرتها على تحركاتها (4).
   خلاصة القول ان قراءة تجارب هذه البلدان وبلدان أخرى مماثلة قراءة خاطئة من طرف البعض، حيث يتم إعلاء (قوى السوق) إلى مرتبة القوة الدافعة الوحيدة للنمو الاقتصادي. بيد أن قراءة أخرى أكثر دقة للتجارب تقود إلى نتيجة مغايرة تماماً وهى أن تدخل الدولة هناك شكل القوة الدافعة الرئيسية للنمو الاقتصادي.
   وأهم معالم هذه القراءة ما يلي:
أولا:ً تدخل الدولة الفعال: إنه ليس تدخل الدولة في حد ذاته ما يفسر "القصة" في ميدان التصنيع والتنمية ولكنه تدخل الدولة "الفعال"، والذي سمح – كما يقول "ريس جنكينز"- في احدى دراساته بتبنى سياسة صناعية ناجعة تتميز بأربع سمات رئيسية هي المرونة، والانتقائية، والتناسق والتركيز على دفع عملية التطوير والارتقاء بدلاً من مجرد الضبط أو التوجيه (5).
ثانياً: "المتطلب الأولى" الرئيسي لحدوث التدخل الفعال هو "قوة الدولة" بإزاء الجماعات الاجتماعية المختلفة، أو بالتعبير المتداول في الكتابة السياسية الراديكالية: الاستقلالية النسبية للدولة.
ثالثاً: متطلبات أولية مترتبة على ما سبق، وأهما إعادة بناء جهاز الدولة، ليتوافق مع المهمة التنموية في ميدان التصنيع بصفة خاصة. وتتمثل إعادة البناء المذكورة في إقامة الأسس الآتية:
أ- بناء جهاز بيروقراطي قادر على تنفيذ سياسة الحكومة.
ب- توفير حد أدنى معين من التجانس والتناسق بين أجهزة الدولة المختلفة.
ج- توفير حد أدنى من استقلالية جهاز الدولة في مواجهة المجتمع السياسي، بدءًا من نزع "التسييس" عن الجهاز الحكومي، وبعبارة أخرى: عدم ربط هذا الجهاز باعتبارات التشكيلة الحزبية أو السياسية القائمة، سواء في تكوينه العضوي أو في توجهات النشاط.
د- توفير الأدوات اللازمة لقيام الدولة بدورها. وتمثل ذلك، كما أشرنا، في السيطرة على النظام المصرفي كمدخل حاكم لتمويل التنمية والتصنيع، وخاصة من قناة الاقتراض الأجنبي.
رابعاً: "الالتزام السياسي" بقضية التنمية: على حد تعبير "جنكينز" فإن الاستقلالية النسبية العالية للدولة، والتشكيل الداخلي المناسب لجهاز الدولة، وتدخل الدولة الفعال في الحياة الاقتصادية – إن هذه جميعاً تمثل ما يمكن أن نعتبره "الشرط الضروري" للنمو الصناعي السريع، ولكنه ليس شرطاً كافياً، إذ يضاف إليه: التزام قوي من جانب الدولة بالإنماء الاقتصادي باعتباره "رسالة مقدسة" يتعين الوفاء بها.
   لهذا فان الفكرة التي تراهن عليها " الرؤية الاستراتيجية " والمتمثلة بتحويل الدولة العراقية " من دولة مالكة الى دولة حارسة " غير واقعي وتفنده تجارب العديد من البلدان التي بنت تجاربها على " الطريقة الرأسمالية ".
   وهنا لابد من التساءل عن مدى قدرة الخصخصة في ظروف الاوضاع الاقتصادية الحالية، أي إحلال القطاع الخاص في العراق محل القطاع الحكومي، و" طرد " الدولة من الحقل الإقتصادي، وتقليص دورها في الهياكل الإرتكازية، التي تسهل نشاط المؤسسات الخاصة وتطور المنافسة، كوسيلة للتغلب على الازمة الاقتصادية – الاجتماعية البنيوية ومواجهة مشكلات التنمية في ظروف بلادنا الراهنة.
   ومن المفيد الاشارة هنا الى أن هذا المفهوم للسوق الحرة ( بصيغته المتطرفة) يمثل بنية نظرية خالصة وليس بنية تشتغل في الواقع الملموس. إنه موديل نظري صافي، وهو بهذه الصورة لم يتحقق حتى في البلدان التي تدعي تطبيق المذهب الليبرالي الجديد، مثل الولايات المتحدة الأمريكية وبريطانيا. بغض النظر عن الهرطقة الايديولوجية السائدة خلال السنوات الاخيرة فإن آيا من البلدان الرأسمالية المتطورة لا يسود فيه إقتصاد السوق الحرة بصيغته الخالصة، إذ يلاحظ اشتغال لآليات السوق المقترنة بضبط متعدد الجوانب لتلك الآليات من طرف الدولة. وبالرغم منا النزوع المتصاعد لتقليص هذا الضبط الدولاني ( نسبة الى دولة)، ورغم الجنوح المتصاعد نحو الخوصصة privatization ، فإن الضبط هذا مازال يعمل، وفي بعض الحقول يشتغل بقوة. إن الواقع يقدم لنا، إذن، ليس اقتصادا سوقياً بحسب الوصفة الليبرالية الجديدة المتطرفة، بل اقتصادا مختلطاً، حيث إقتصاد السوق مقروناً بتدخل حكومي ملحوظ في قطاعات متعددة. ويعني ذلك أن الأمر لا يتعلق، في الممارسة بتدخل أو عدم تدخل الدولة، فمثل هذا الأمر حسمته التجربة التاريخية، بل أن القضية تتعلق بالفرو قات في حجم وأشكال التدخل الحكومي هذا.
الهوامش
(1) لمزيد من التفاصيل قارن: د.صالح ياسر حسن، الاقتصاد السياسي للازمات الاقتصادية في النسق الرأسمالي العالمي، محاولة في فهم الجذور (بغداد: دار الرواد المزدهرة، 2011).
(2) لمزيد من التفاصيل راجع العمل الهام : اريك هوبسباوم، عصر رأس المال. ترجمة د.مصطفى كريم. دار الفارابي، بيروت 1986.
(3) لمزيد من التفاصيل : قارن : سمير أمين، الرأسمالية والمنظومة-العالم. "جدل "كناب العلوم الاجتماعية، العدد 3/1993، ص 287 –315، كذلك : أريك هوبسباوم : عصر رأس المال...، مصدر سابق).
(4) لمزيد من التفاصيل حول هذه التجارب قارن: ابراهيم العيسوي، نماذج النمور الاسيوية والبحث عن طريق للتنمية في مصر، دار الثقافة الجديدة، القاهرة، 1994.
(5)Rhys Jenkins, “ The Political Economy of Industrialization: A Comparision of Latin American and East Asian Newly Indusrializing Countries”, Development and Change, vol. 24, vol. 24 (1991), pp 197-233.