مدارات

ملاحظات اولية حول استراتيجية التنمية الصناعية حتى عام 2030 (2- 7) / د.صالح ياسر

صياغةالاستراتيجية وغاياتها
   وبشأن الغايات التي تسعى "الاستراتيجية" الى تحقيقها فهي (ص 9):
·        تنمية المنظومة الصناعية فى العراق وفق استراتيجية تتكامل مع استراتيجيات أخرى.
·        وضع نظام مؤسسي وتنظيمي يضمن تنفيذ وتحقيق الأىداف والغايات.
·        يكون للقطاع الخاص دورا رئيسياً.
·        تدعيم الاقتصاد الوطني ليكون متنوعاً من النواحي الاقتصادية والبيئية.
·        تحقيق قدرة تنافسية وتنمية مستدامة إقليمياً ودوليا.
·        استثمار الموارد المحلية وتكامل حلقات التجهيز والإنتاج والتوزيع مع المحيط الإقليمى والدولى.
·        العمل ضمن بيئة أعمال محفزة تستند إلى الإبداع والتمييز.
·        خلق فرص عمل للمساهمة فى تحسين المستوى المعيشى للفرد.
ان ما يثير الإنتباه عند معاينة هذه الغايات انها تمتاز بجملة من الخصائص ومن بينها ما يلي:
1.  عموميتها "الباذخة". لنأخذ على سبيل المثال لا الحصر الغاية الاولى والتي تشير الى "تنمية المنظومة الصناعية فى العراق وفق استراتيجية تتكامل مع استراتيجيات أخرى". لا توجد هنا أية اشارة الى نوعية الاستراتيجيات الأخرى التي تتكامل معها الاستراتيجية الصناعية، وكيف سيتم التكامل، وما هو نوعه وما هي آليات تحقيقه، وما هي تلك الصناعات التي تتكامل مع الفروع الاخرى من الاقتصاد الوطني؟
   وهناك غاية اخرى تتحدث عن دور القطاع الخاص بالاشارة الى التالي: يكون للقطاع الخاص دورا رئيسيا. ولكن السؤال المطروح هو عن أي قطاع خاص يجري الحديث؟ هل عن قطاع خاص محلي وما هي طبيعته؟ ام عن قطاع خاص اجنبي وما هي طبيعته؟ وكيف سيجري التنسيق بين القطاعين المحلي والاجنبي؟
2.     ليس في الغايات ما يشير الى تغيير البنية الراهنة للاقتصاد الوطني ولا الى الطابع الريعي لهذا الاقتصاد. هناك فقط اشارة الى "تدعيم الاقتصاد الوطني"!!. ان البنية الراهنة هي لب المشكلة وبدون تغيير تلك البنية يصبح الحديث عن استراتيجية للتنمية الصناعية مجرد حديث لا جدوى منه، لان الامر مرتبط بالاساس ببلورة رؤية تنموية محددة تستند عليها استراتيجية واضحة.
3.     تأكيد الغايات على "تحقيق قدرة تنافسية وتنمية مستدامة إقليمياً ودوليا". وهذه الغاية تستحق وقفة جادة واكثر تفصيلا.
السؤال المنطلقي هنا يتعلق بالمعيار (او المعايير) الذي تستند اليها الاستراتيجية من اجل " تحقيق قدرة تنافسية وتنمية مستدامة إقليمياً ودوليا"؟
   ان تأكيد "الاستراتيجية" على "تحقيق قدرة تنافسية وتنمية مستدامة إقليمياً ودوليا وتكامل حلقات التجهيز والإنتاج والتوزيع مع المحيط الإقليمى والدولى" تثير سؤالا محددا: هل هذا تمرين ذهني لتطبيق النظرية الريكاردية أم هروب من واقع الاقتصاد العراقي؟
   من الضروري الاشارة هنا الى ان "تحقيق قدرة تنافسية" لا يمكن انجازه بمعزل عن رهان الاستراتيجية على نمط محدد من التخصص. وهنا يطرح السؤال حول نوعية الصناعات التي تستطيع بلادنا التخصص فيها في اطار التقسيم الدولي الراسمالي المعاصر للعمل وبما يتيح لها " قدرة تنافسية وتنمية مستدامة إقليمياً ودوليا"؟
   ان التجارب التاريخية الملموسة تشير الى أن المنطق الذي يحكم التخصص الدولي المعاصر تعود جذوره الى المقاربة الريكاردية (نسبة الى الاقتصادي الانكليزي دافيد ريكاردو أحد أقطاب الاقتصاد السياسي الكلاسيكي) والتي تنطلق من قيام هذا التخصص استنادا الميزات المقارنة التي يتمتع بها كل بلد من البلدان الداخلة في هذا التخصص. وهنا لا بد من بعض الملاحظات الاضافية.
   ابتداءً، يتعين التأكيد على حقيقة أساسية قوامها أن التنظير الريكاردي يعتبر خطوة الى الأمام في صياغة نموذج نظري منضبط يرتكن إليه في تفسير التخصص والتبادل الدولي، وتطويراً لآراء آدم سميث في هذا المجال، وتجاوزاً لها في نقاط مختلفة. وبالرغم من التقدم الذي أحرزه التنظير الريكاردي بصدد القضايا التي أثارها، إلاّ أن تحليلاته وتجريداته أثارت الكثير من الأسئلة والملاحظات الانتقادية، يمكن الإشارة الى العديد منها، كما برزت في أعمال مختلفة:
·   النظرية ذات طابع ستاتيكي – جامد-، حيث تفترض هيكلاً ثابتاً لتكاليف الإنتاج في مختلف البلدان، وكذلك تفترض عدم تغيير الموارد الإنتاجية وعدم إمكانية نقل تلك الموارد بالإضافة الى عدم إمكانية تأثير التبادل على حجم وهيكل التكاليف. إن مثل هذه الافتراضات غير صحيحة وذلك لأن التخصص الدولي سيؤدي الى نمو حجم الإنتاج وفي نفس الوقت الى هبوط تكاليف الإنتاج. إن هذه النظرية لا تأخذ تأثير التغيرات في التقدم التكنولوجي في الاعتبار الكامل، إذ تتحدد دالة الإنتاج بظروف طبيعية تختلف اختلافاً كبيراً ليس من حيث تنوع المنتجات فحسب بل ومن بلد الى آخر أيضاً. وتأسيسا على ذلك فإن دالات الإنتاج أيضاً، أي الزيادات في الإنتاج الناجمة عن إدخال وحدات إضافية من الأيدي العاملة، تقدم صورة تتباين حسب المنتوج والبلد.
·   إن هذه النظرية تقييّم الظروف الطبيعية بمعزل عن مستوى تطور القوى المنتجة والعلم والتكنولوجيا والعلاقات الاجتماعية، وتتجاهل التقدم التكنولوجي وتطور الهياكل الارتكازية والوفورات " الداخلية " والوفورات " الخارجية " ..... الخ مما يؤثر بالأساس على دالة الإنتاج، وتناسب الكلفة. وبعبارة أخرى يمكن القول أن هذه النظرية تهمل، بصفة عامة، دينامية قوى الإنتاج الاجتماعية بمعناها الواسع وتأثيرها في إزالة الأضرار المقارنة والكشف عن " مزايا مقارنة دينامية " جديدة.
·   تفترض هذه النظرية حالة التشغيل الكامل، وذلك لأن قوى السوق الحرة هي الكفيلة بإصلاح أي خلل في توازن السوق. لقد أثبتت الأحداث العالمية وخاصة الأزمة الاقتصادية الرأسمالية العالمية الكبرى خلال السنوات 1929 – 1933 والتجارب التالية لتطور التشكيلة الرأسمالية العالمية خطأ افتراض التشغيل الكامل وعدم قدرة النظام الرأسمالي على استعادة التوازن بصورة تلقائية. ولعل ما يعيشه العالم هذه الأيام من أزمة بنيوية عميقة وما تقوم به حكومات البلدان الرأسمالية المتطورة من جهود محمومة للسيطرة على مسارات تلك الأزمة تبين بما لا يدع الشك ان احد أعمدة نظرية السوق قد تهدمت وانه لا يمكن استعادة التوازن تلقائيا.
·   لا تسعى نظرية التكاليف النسبية للإجابة على السؤال الجوهري والحاسم وهو: هل التبادل الدولي المستند على هذه النظرية هو تبادل متكافئ أم غير متكافئ ؟. إن هذه النظرية تقوم بإبراز المزايا والمنافع النسبية التي يتحصل عليها كل شريك فور قبوله بالتخصص وتقسيم العمل الدولي، وذلك من منطلق تبادل قيم استعماليه مختلفة من وجهة نظر الدولتين. ولهذا فإن كلا الدولتين ستربح في التبادل وحدات سلعية تتوافر على قيم استعماليه معينة أعلى مما كان عليه الحال قبل التخصص والتجارة الدولية. ويبدو أن هذه النظرية تفترض التخصص والتبادل بين بلدان متماثلة ومتقاربة من حيث التطور. ويعني ذلك أن هذه النظرية لا تجيب على السؤال التالي: هل يحدث التبادل والتخصص، بحسب هذه النظرية، بين بلدان متفاوتة التطور ؟. لنبسط السؤال: هل يمكن اعتماد نظرية التكاليف النسبية كمعيار للتخصص والتبادل الدولي في الظروف المعاصرة، حيث السمة الأساسية تتجلى بالتفاوت في مستويات التطور على الصعيد العالمي ؟. إن مجمل التحليل الريكاردي لا يسمح بالإجابة على هذا السؤال، برغم الأهمية الحاسمة، على الصعيدين النظري والتطبيقي، لتلك الإجابة. ولهذا فان ما تطرحه استراتيجية التنمية الصناعية المقترحة بشأن التخصص بهدف "تحقيق قدرة تنافسية وتنمية مستدامة إقليمياً ودوليا" في ظل التفاوتات الاقتصادية على الصعيد العالمي سيؤدي، في الواقع، الى إبقاء الاقتصاد العراقي على بنيته الراهنة بكونه اقتصادا ريعيا واحادي الجانب لأنه يتمتع بـ " ميزة نسبية " في مجال إنتاج الخامات والوقود (النفط).!
·        لقد كانت الصورة الريكاردية للاقتصاد العالمي وتقسيم العمل الدولي، تتضمن الافتراض القائل بأن القرارات المتعلقة بالتخصص وتوزيع مواد الإنتاج حسب المزايا النسبية، تتخذ وتنفذ على مستوى الاقتصاد الوطني بمراعاة المصالح الوطنية العامة للوضع الاقتصادي الوطني الأمثل. ومن الواضح تماماً أن هذا الافتراض وقع في تناقض حاد مع حقيقة تطور الاقتصاد الرأسمالي العالمي الذي نشأ فيه التخصص وتقسيم العمل ليس وفقاً لاحتساب التكاليف المقارنة للاقتصادات الوطنية، ولا حتى في العلاقات بين البلدان المتطورة، بهدف تحقيق الوضع الاقتصادي الأمثل. فعوضاً عن ذلك تطور التخصص وتقسيم العمل، كقاعدة، وفق الاعتبارات المتعلقة بنشاط رأس المال الخاص، وفيما يتعلق بأول نظام عالمي لتقسيم العمل، تطور التخصص وتقسيم العمل بنتيجة النشاطات الاستثمارية الرأسمالية التي قامت بها رؤوس الأموال المصدرة من بلدان " المركز " المتقدمة والسائدة، في بلدان " الأطراف " التابعة والأقل تطوراً. ومن جانب آخر فان افتراض التنظير الريكاردي حول المنافسة التامة لا يستقيم مع واقع عصرنا الراهن حيث التأثير الكبير للاحتكارات المتعدية الجنسية على التقسيم الدولي الرأسمالي للعمل، فهذه الفرضية تجرد النموذج الريكاردي من قيمته العلمية في تفسير العلاقات الاقتصادية الدولية المعاصرة. ومن هنا فإن التباعد والتناقض بين الواقع الراهن والتاريخي من جهة وبين التنظير الريكاردي حول الاقتصاد العالمي وتقسيم العمل والتجارة الدولية من جهة ثانية، ازدادا حدّةً بفعل " التصحيحات " التي أضيفت الى مفهوم ريكاردو والنظريات النيوكلاسيكية والانتقائية حول الاقتصاد العالمي.
·    وأخيرا، تهمل هذه النظرية دور اختلاف الأذواق في تحديد الطلب على السلع المختلفة التي تؤثر وتدخل في تحديد هيكل الواردات من السلع الأجنبية ودون التطرق الى تكلفتها النسبية. كما أنها – أي النظرية – لم تتطرق أيضاً الى حجم الطلب المحلي والدور الذي يمكن أن يلعبه في التأثير على كمية الصادرات.
   والنتيجة المستخلصة من كل ذلك ان امكانية تحقيق هذه الغاية من غايات الاستراتيجية أي "تحقيق قدرة تنافسية وتنمية مستدامة إقليمياً ودوليا"، لا يمكن وضعها موضع التطبيق العملي بل تبقى بنية نظرية مقطوعة الجذور مع الواقع الفعلي.
4. وهناك أيضا تأكيد احدى غايات الاستراتيجية على "استثمار الموارد المحلية وتكامل حلقات التجهيز والإنتاج والتوزيع مع المحيط الاقليمي والدولى". وهذه ايضا تستحق وقفة تفصيلية.
   إن تفكيك الفقرة أعلاه الى مكوناتها التفصيلية ودفعها الى نهايتها المنطقية تتيح لنا تسجيل الملاحظات التالية:
- ثمة مفهوم يظهر هنا: "تكامل حلقات التجهيز والإنتاج والتوزيع مع المحيط الإقليمى والدولى" يحتاج الى مناقشة أعمق.
   لننطلق من سؤال: ما هي النتيجة التي يترتب عليها "تكامل حلقات التجهيز والإنتاج والتوزيع مع المحيط الاقليمي" ؟ من المعروف أن بلدان المحيط الاقليمي على العموم، مع استثناءات نادرة، هي بلدان ذات اقتصاديات متماثلة: ريعية أو أحادية الجانب وتحكمها نظم سياسية متباينة، فكيف سيجري تكامل الحلقات المشار اليها في الاستراتيجية وما هي الصناعات التي يتخصص بها كل بلد؟ ثمة مئات الأسئلة هنا يمكن طرحها. لذا فان أي حديث عن " تكامل حلقات التجهيز والإنتاج والتوزيع " له معنى افتراضي ولن يتحقق على المدى القصير والمتوسط طالما بقيت تلك الاقتصادات تتمتع بذات السمات. ويعني ذلك انه في ظل هذه الظروف وبحكم الأمر الواقع سيكون من المبرر، بحسب الاستراتيجية، التوجه نحو خيار " التكامل مع المحيط الدولي ". ولكن ونظرا للتفاوت بين مستويات تطور الاقتصاد العراقي وطبيعة هذا الاقتصاد وبين مستويات تطور بلدان "المحيط الدولي" المتطورة فان التكامل هنا لا يعني سوى خضوع الاقتصاد المتخلف الى منطق الاقتصادات المتطورة وسينتج عنه تبادلا لامتكافئا ونتيجته واضحة: تعميق التخلف والتبعية الاقتصادية وفي المقدمة منها التبعية الصناعية. والنتيجة واضحة: الابقاء على البنية الراهنة، وهذا يتعارض مع احدى غايات الاستراتيجية والمتمثلة في " تدعيم الاقتصاد الوطني ليكون متنوعا من النواحي الاقتصادية" (ص 9).
- إذا تعمقنا في هذه الإشكاليات جيدا أمكننا القول انه لا يمكن تحقيق التكامل الاقتصادي بناء على رغبة الدول فقط، بل يجب توفر جملة من الشروط، من أبرزها (1):
  • إن تكون الهياكل الاقتصادية لمختلف البلدان الهادفة الى التكامل متماثلة أو متممة لبعضها البعض. ومن المفيد الإشارة الى أن فقدان التماثل أو حتى أحيانا وجود هياكل اقتصادية متنافسة (إنتاج نفس السلع في بلدين أو أكثر) في لحظة معينة لا يجب أن يعطي الحكم على إمكانية التحول التدريجي الى هياكل متماثلة تكمل بعضها البعض من حيث الإنتاج. غير أن ذلك يعتمد بدرجة كبيرة على حقيقة أن أي فرع من الفروع الاقتصادية يظهر انعدام أو فقدان التماثل أو توجد هياكل متنافسة. فإذا كانت الفروع تلك هي التي يمكن فيها بسهولة القيام بتقسيم العمل والتخصص الإنتاجي (الصناعة التحويلية)، فعندها يمكن، عموما، الانتقال الى الخطوة التالية وهي إقامة هياكل متماثلة ورفع المستوى العام للتماثل الصناعي. أما إذا كانت تلك الفروع من الأنواع التي يصعب فيها القيام بتقسيم العمل والتخصص لأسباب هيكلية (الصناعات الاستخراجية أو الزراعة) عندها فإن عملية توسيع درجة التكامل المتبادل للاقتصاد يجب أن يستمر لفترة أطول، طبعا إذا كان ذلك ممكنا. وفي هذا المجال فإن المستوى العام للتطور الاقتصادي والصناعي يلعب دورا جوهريا. أما إذا كانت اقتصادات مختلف البلدان غير متماثلة، إضافة الى عدم وجود إمكانية لتوسيع درجة تماثلها في المستقبل، عندها وحتى في حالة تأمين بقية الشروط فلن يتوسع أساس المبادلات التجارية ولا يقود ذلك كله الى تبلور سيرورات تكاملية مهمة.
  • ان تمتلك البلدان الراغبة في التكامل الشروط الفنية الضرورية التي تتيح لها تدفق المبادلات التجارية فيما بينها، وخصوصا تدفق السلع. يتوجب، إذن، وجود هياكل ارتكازية Infrastructure مناسبة، وخصوصا شبكة ملائمة من الطرق والمواصلات. إن انعدام مثل هذه الشبكة، أو عدم كفاءتها، يمكن أن يعرقل أو يحد من التكييف المتبادل للهياكل الاقتصادية لمختلف البلدان، وبالتالي يمكن أن يعيد أو حتى يمنع السيرورات التكاملية من التحقيق عملياً.
  • انتهاج سياسة اقتصادية مشتركة من طرف البلدان المنخرطة في المجموعة التكاملية، وأساساً اتخاذ تلك الإجراءات التي تمكن من ضمان تدفق ملحوظ للسلع وتحفز تدفق عوامل الإنتاج.
     وبالمقابل فإن المنافع التي يمكن أن تحصل عليها البلدان النامية بفضل التكامل الاقتصادي لا ينبغي أن تحجب حقيقة مهمة هي أن التكامل هذا هو عملية طويلة الأمد وأصعب بكثير مما هو عليه في البلدان المتقدمة. وهنا تظهر عوائق جدية تعقد أو تعرقل السيرورات التكاملية. وأهم تلك العوائق هي:
1. التبعية الاقتصادية المتزايدة للعالم الخارجي وخصوصا للبلدان المتطورة. ويتجلى ذلك عند مقارنة التوزيع الجغرافي للتجارة الخارجية للبلدان النامية، حيث يشكل التبادل التجاري لهذه البلدان مع البلدان الرأسمالية المتطورة حوالي ثلاثة أرباع تجارتها الخارجية.
2. تماثل الهياكل الاقتصادية لهذه البلدان وتخلفها وتبعيتها. وكما معلوم فإن الهيكل الاقتصادي الراهن للعديد من البلدان المجاورة للعراق قد تشكل بنتيجة السيطرة الطويلة الأمد للبلدان الراسمالية المتطورة عليها. وبنتيجة تلك السيطرة أصبحت هذه البلدان، في إطار النظام الكولونيالي، قاعدة خامية للمتروبول. وتتضمن هذه الحقيقة تأثيرا كبيرا على مضمون واتجاهات التطور الراهن واللاحق للسيرورات التكاملية بين هذه البلدان.
3. تخلف أو ضعف تطور الهياكل الارتكازية الإنتاجية لاقتصادات البلدان المجاورة. وكما هو معروف يتطلب توحيد الأسواق المحلية في سوق إقليمية واحدة تسريع تدفق السلع من بلد الى آخر في إطار هذه السوق. وهذا يتطلب وجود هيكل ارتكازي ملائم للنقل على هيئة خطوط مواصلات، مطارات ..... الخ، يؤمن التدفق السريع للسلع. ويصطدم هذا الشرط، في البلدان المجاورة (وعموم البلدان النامية طبعا)، بوجود عقبات جدية تتمثل في ضعف هذا الهيكل أو تخلفه. وتكمن أسباب هذا الواقع في حقيقة مهمة هي انه خلال الفترة الاستعمارية جرى وبشكل متعمد التوسع في التخصص الأحادي الجانب ونقل السلع من المستعمرات الى أسواق الدول الاستعمارية، التي لم تكن تهتم بتطوير الهياكل الارتكازية وبالأخص طرق المواصلات بين البلدان المستَعمَرة.
4. ضعف التكامل الداخلي لاقتصادات هذه البلدان ، وضعف قاعدتها الإنتاجية. إن غياب التكامل الداخلي هذا يجد تعبيره في ثلاث ظواهر هي:
أ. ازدواجية القطاعين الاقتصاديين، الحديث والتقليدي.
ب. تعايش اقتصاد التصدير مع اقتصاد الكفاف.
ج. تشوه البنية القطاعية وضعف العلاقة بين مختلف الفروع. إن البنية المشوهة هذه تشير الى وجود قطاعين متضادين كليا، وان فروع الاقتصاد لم تتطور معا في آن واحد بحيث ترتبط بعضها بالبعض وتكمل بعضها البعض، بل تطورت بشكل غير مناسب وعلى نحو صارخ بحيث أن بعض الفروع الاقتصادية نمت نموا مفرطاً، كأجسام غريبة معزولة عن تطور الفروع الأخرى بل وعلى حسابها لدرجة أعاقت أو منعت تطور هذه الفروع.
5. التفاوت في مستويات التطور الاقتصادي. وهذا التفاوت يخلق، في البلدان الأضعف من حيث مستويات التطور، مشاعر من الخوف في ولوج طريق التكامل مع البلدان الأخرى الأكثر تطوراً. تطرح هنا مشكلة الاقتسام العادل بين جميع أعضاء التكتل للمنافع والخسائر الناجمة عن التكامل. وتعتبر هذه المسألة ذات أهمية أساسية بالنسبة لأي اتحاد تكاملي بين الدول التي تمتلك هذا النوع من الاقتصاد. ويمكن فرز أربعة أسباب اقتصادية أساسية تؤدي الى تفاقم مشكلة التوزيع المتساوي للمنافع والخسائر وهي:
-    نتيجة تخلف اقتصادات الدول النامية عموما تظهر مشكلات جديدة في كثير من الأحيان أمام المشروعات التي تقام في إطار التكامل حتى بعد حل المشكلات المعقدة، مثل التمويل وإيجاد اسواق التصريف. وتبدو هذه المشروعات أحيانا غير ريعية لأسباب ثانوية غير مأخوذة سابقا بالاعتبار، مثل غياب هذه السلع أو تلك من الأسواق. ويؤدي هذا الى تزويد السوق بالسلع على حساب الاستيراد المرتفع الأثمان من خارج التكتل.
-    الى جانب العوامل القائمة في ميدان الإنتاج يلعب وضع النقل والمواصلات والخدمات في الإقليم دورا هاما في إعاقة العمليات التكاملية، وقد جرت الإشارة الى ذلك في فقرة سابقة.
-    إذا كان هناك انحراف جوهري لأسعار عملات بعض الدول، المشاركة في التكتل الاقتصادي، عن قوتها الشرائية الحقيقية بالنسبة لعملات الشركاء الآخرين، سيكون من المحتم أن تظهر في هذا الاتحاد بعد تطبيق إجراءات تحرير التجارة بصورة متبادلة مشكلات أمام توازن موازين مدفوعات البلدان المتكاملة.
6. ويشكل العامل السياسي، ونعني به الاختلافات الواضحة في طبيعة الأنظمة السياسية السائدة في هذه البلدان عاملا معيقا لتطوير التكامل بينها. إن انخراط بلدان ذات أنظمة اجتماعية اقتصادية مختلفة في العمليات التكاملية بإمكانه أن يؤثر بشكل جدي على مضمون واتجاهات تلك العمليات. إن التجربة التاريخية تشير الى أن التكامل الاقتصادي بين البلدان التي تنتهج سبلا متناقضة أمر مستبعد، ويلعب العامل السياسي هنا دورا حاسماً. من المؤكد أن المهام المستقبلية لسيرورات التكامل الاقتصادي بين العراق والبلدان المجاورة ستكون كثيرة ومتشابكة وعلى حلها يتوقف بشكل جدي تطور هذه العملية الموضوعية، التكامل، وإكسابها مضامين أكثر وضوحا وبروزا. إن أبرز هذه المهام هي:
-    ضرورة الاستغلال الأمثل للظروف الطبيعية والاقتصادية وتحقيق أولوية التخصص في مجال الإنتاج الصناعي والزراعي في إطار إقليمي واسع. إن تعميق التخصص والتحسين اللاحق لقسمة العمل بين هذه البلدان يتيح إجراء توسع ملموس في إنتاج الفروع الصناعية القائمة ويمكنها من الاستغلال الأمثل لقدراتها الإنتاجية والاستفادة من مزايا الإنتاج الكبير.
-    إزالة التركيب المشوه والأحادي الجانب لاقتصادات البلدان موضوع التكامل بوصفها ملحقات زراعية ومصدرة للمواد الأولية والخامات وبعض السلع الصناعية. إن هذا يشكل أحد متطلبات تحقيق تنمية سريعة وفعالة وعاملا مساعدا في تطوير أشكال التنسيق والتكامل الإقليمي. إن قضية الجمع بين التخصص الإنتاجي الدولي وتنمية اقتصادات البلدان المتكامِلة تتخذ أهمية حاسمة في الظروف المعاصرة. إن السبب الكامن وراء ذلك يتمثل في أن ضمان الاستخدام الأكمل والأكثر عقلانية للقوى المنتجة لكل بلد من البلدان النامية ولمجموعها غير ممكن إلاّ بالجمع المنسق بين التخصص الدولي وتطوير الاقتصادية القومية.
-    الانتقال الواعي والمتدرج من الأشكال البسيطة للتعاون والتكامل بين هذه البلدان الى الأشكال الأكثر تعقيدا لهذه العملية ونقصد بها مرحلة التنسيق بين الخطط الاقتصادية القومية على أساس التخصص الدولي والتعاون الإنتاجي. إن عملية التنسيق بين الخطط الاقتصادية تعني، في الحقيقة، الانتقال الى مرحلة نوعية في التكامل وهي إنشاء الروابط المتبادلة في مجال الإنتاج. إن انتقال عملية التكامل بين بلداننا، وفي مجال الإنتاج، يشكل عاملا أساسيا مهما في تقليص، ثم تصفية أسس الاندماج الرأسي التي تشكلت بين اقتصادات البلدان النامية وبين اقتصادات البلدان المتقدمة صناعيا. ومن جهة ثانية فان ذلك سيعني بداية تحقيق عملية التداخل والترابط بين اقتصادات البلدان الداخلة في عملية التكامل ، وهذا أمر هام جدا.
-    لا بد من إعارة اهتمام اكبر للجانب المؤسسي للتكامل من خلال إنشاء هيئات إقليمية متخصصة ومنحها الصلاحيات الضرورية لتطوير التعاون والتكامل الإقليمي مع ضرورة الاهتمام في أن تكون الإجراءات المنظمة لعملية التكامل ذاتها إجراءات مرنة تتناسب وواقع التكامل بين البلدان المنخرطة في عملية التكامل. إن هذه المؤسسات وكذلك الإجراءات التي تنتهجها ينبغي أن تتطور في المستقبل بالارتباط وتطور درجة التشابك المتبادل بين الاقتصادات القومية لهذه البلدان وبما يخدم ضمان قيام التكامل بتحقيق نجاحات ملموسة تبرر المواصلة والاستمرار فيه.
الهوامش
(1) لقد عالجت هذه الاشكاليات بالتفصيل في عمل مستقل. لمزيد من التفاصيل قارن: د.صالح ياسر حسن، العلاقات الاقتصادية الدولية. الابستمولوجيا-الانطولوجيا- الاكسيولوجيا (بغداد: دار الرواد المزدهرة، 2006).