مدارات

ملاحظات اولية حول استراتيجية التنمية الصناعية حتى عام 2030 ( 5-7) / د.صالح ياسر

"الاستراتيجية" منحازة ايديولوجيا !
   إذا تمت قراءة "الاستراتيجية" قراءة في العمق فانه يمكننا القول ان هناك افكار مترابطة (وان كانت متناثرة) تعني في جوهرها الرهان على القطاع الخاص واقصاء الدولة وتحويلها الى مجرد خفير. وللتدليل على ذلك نلتقط هنا جملة من تلك الافكار المتناثرة في ثنايا "الاستراتيجية":
- لم تعد التوجهات الاستراتيجية التقليدية للتصنيع موائمة مع الاشتراطات الجديدة للمنافسة فى ظل الملامح الأساسية للاقتصاد العالمى حالياً، الأمرالذى يتطلب فكرا وتوجها مختلفين عن التوجه القائم حالياً في العراق وكذلك التعاون ما بين عدد أكبرمن الأطراف المعنية.
- يكون للقطاع الخاص دورا رئيسيا.
- تغييرهيكل القطاع الصناعى لصالح القطاع الخاص.
- تنمية القطاع الخاص بتاسيس شركات صغيرة ومتوسطة (2000 شركة في عام 2017، 5000 في عام 2022، 15000 شركة في عام 2030 مع هدف الوصول إلى نسبة 75%من ملكية الموجودات الصناعية تعود الى القطاع الخاص).
- خارطة الطريق لإعادةهيكلة الشركات المملوكة للدولة بتحويلها " إلى شركات مساهمة فعالة فى سوق الأوراق االمالية".
- التقليل التدريجى من الدورالمركزي فى التخطيط وادارة المنظومة الصناعية.
   ان قراءة القضايا اعلاه تبين ان المعنى واضح هنا: الرهان على القطاع الخاص واليات السوق الطليقة مقابل إقصاء الدولة وحصر نشاطها في إطار تنظيمي صرف باعتبارها هنا بمثابة " شرطي " يقوم بحماية هذا النمط الجديد من التطور الذي تراهن عليه "الاستراتيجية".
   نحن إذن أمام مقاربة إيديولوجية. ولابد من الاشارة هنا الى ان ثمة فرق واضح بين تقديس السوق واقتصاده وآلياته، والدعوة الى اقتصاد مفتوح والاندماج في الاقتصاد العالمي.
   فاعتماد القطاع الخاص كمنطلق للتنمية وقاعدة لها يعني رهان الاستراتيجية على الاستقطاب، استقطاب الثروة من جهة يقابله استقطاب الفقر من جهة أخرى. العلاقات التي تسود هنا هي علاقات تقوم على أساس الرابطة أو الصلة التي تحكم العمل برأس المال وهي علاقة استغلالية سواء على مستوى الإنتاج أم على مستوى التوزيع. ثم ان افتراض "الاستراتيجية" بان القطاع الخاص هو المحرك لعملية التنمية الصناعية هو افتراض يدل على معرفة غير دقيقة بواقع تطور هذا القطاع (اقصد هنا المحلي) رغم ان "الاستراتيجية" اشرت الى ضعفة. فهذا القطاع نتيجة السياسات الاقتصادية التي سادت في زمن النظام الدكتاتوري وبعد 9/4/2003 وخصوصا ما انتهجته سلطة الاحتلال من ممارسات ملموسة، اضافة الى سياسات الحومات المتعاقبة، كلها أفضت الى تدمير القطاع الخاص المحلي .... لذا فان هذا القطاع يحتاج الى فترة طويلة ليستعيد عافيته ويصبح قطبا من أقطاب النمو الاقتصادي عموما والصناعي خصوصا.
   وفي لحظة التطور الملموسة التي تمر بها بلادنا فإن تفعيل النمو وتعظيمه ورفع معدلاته إلى مستويات عالية (كما ورد في "الاستراتيجية" وايضا في استراتيجيات التنمية الاقتصادية - الاجتماعية) واستقراره عند تلك المستويات، لا بد أن يحكم خيارات التغيير وأهدافه ومجمل الإصلاح والتحديث الاقتصادي ولاسيما التكنولوجي والصناعي والزراعي بالتلازم مع الإصلاح والتحديث التعليمي التي تؤكد عليه الاستراتيجية الصناعية وبقية الاستراتيجيات. لكن هذا النمو الفعال المستدام، في مثل الظروف التي يمر بها العراق، لا يمكن تحقيقه بتقزيم دور الدولة الاقتصادي والاستثماري خصوصا وإنما يتحقق هذا النمو بتعظيم هذا الدور نوعيا وكميا، يؤكد ذلك الانعكاس السلبي لتراجع الاستثمار العام الصناعي لا على أداء القطاع العام الصناعي فحسب، وإنما على الاستثمار الوطني الإجمالي والنمو الاقتصادي العام.
   وهنا لابد من التاكيد على أن الحكم على القطاع العام ليس مقتصراً على ما هو ظاهري، ولا يجوز ان يكون مقتصراً على البعد المالي والنقدي وعلى الأداء الاقتصادي. بل هناك ضعف بنيوي في القطاع العام، لا يجوز اهماله، وهو أنه قطاع يتصف بالجزئية من حيث البنية الصناعية. قطاع مجتزأ، فروعه مجتزأة وليست متكاملة. وأنه يحمل ضعفاً تكنولوجياً بصفة عامة. واذا ما اريد لهذا القطاع ان يكون قادراً على الأداء الاقتصادي وعلى مجاراة السوق، فلا يكفي تغييره إدارياً ومالياً وتنظيمياً، بل لا بد من ادخال عناصر جديدة تتيح له مزيداً من التكامل الصناعي الرأسي. ولهذا فإن إصلاح هذا القطاع مرتبط بتحديثه وتجديده إنتاجياً وتكنولوجياً. طبعاً هناك من يعتقد أن القطاع العام قد كلف كثيرا وآن الأوان للتوقف عن هدر الأموال فيه !!. وإذا كان القطاع العام قد حقق ربحاً في بعض المصانع، ومني بخسارة في مصانع اخرى، فإن هذا لا يعني أنه محكوم عليه بأن يبقى خاسراً. وليس صحيحا القول ان القطاع العام يعني الخسارة، وأن القطاع الخاص يعني الربح، فالتجربة بينت ان القطاعين عانى (ولا يزالان) من أمراض اقتصادية.
   ومن المهم الإشارة هنا فى هذا الصدد إلى أنه وعلى عكس ما يروج له انصار الليبرالية الجديدة الذين انهارت عمارتهم النظرية عند اندلاع الازمة المالية العالمية في عام 2008، فان إصلاح القطاع العام ليس مستحيلا . فالخبرة الصينية مثلا (والتي اعتبرتها "الاستراتيجية" من التجارب المرجعية الناجحة) تشير إلى إمكانية النجاح فى تحويل الكثير من شركات القطاع العام إلى شركات قادرة على المنافسة الدولية، وذلك من خلال التجديد التكنولوجى لهذه الشركات الذي مرّ عبر الاجراءات التالية (1):
أ. إدخال بعض التحسينات (غيرالجذرية) فى التكنولوجيات القائمة بما يرفع من كفاءتها.

ب. إنشاء أقسام للبحث والتطوير فى الشركاتا لكبيرةل زيادة قدراتها التنافسية.

ج. الشراء المباشر لتكنولوجيات جديدة واستيعابها فى بعض الشركات العامة

   نحتاج إذن في اللحظة الراهنة من تطور الاقتصاد العراقي عموما والقطاع الصناعي خصوصا (باعتباره قاطرة التنمية الفعالة) الى مقاربة عقلانية، واقعية تنطلق من معالجة المشكلات الفعلية. الفكرة المحورية البديلة إذن هي الجمع بين دور السوق ودور الدولة في مواجهة العديد من المقاربات الإيديولوجية الأحادية الجانب التي أما تقدس دور السوق بالمطلق أو دور الدولة بالمطلق. فقد بيت التجارب التنموية العالمية انه لا يمكن لآليات السوق لوحدها ان تحقق كفاءة الإنتاج والعدالة الاجتماعية وخصوصا في بلدان تعيش في مراحل النمو وإعادة البناء، مثلما هو الرهان على دور وحيد للدولة في هذه العملية.
   في اللحظة الراهنة تواجهنا جملة مشاكل واختلالات، ووجود بطالة مرتفعة، وكذلك الجانب الأمني وتعقيداته المعروفة. ولذا فإنه لا يمكن تحقيق إعادة الاعمار ولا إطلاق تنمية مستدامة ولا بناء ديمقراطية من دون دور نشيط للدولة وتحفيز القطاعات الأخرى: العام والمختلط والتعاوني.... الخ، فالتعددية الاقتصادية وفي هذه المرحلة بالذات ليست خيارا تكتيكيا بل استراتيجيا.
   أما بشأن الإصلاح التي تراهن عليه "الاستراتيجية" فهو مشروط بمناخه، لذا ليس صحيحا الحديث بالعموميات. فمن المعروف أنه ومنذ سقوط النظام الدكتاتوري و " الإصلاح " جرى حسب وصفة صندوق النقد الدولي " التكييف الهيكلي والخصخصة دون قيد أو شرط " ومشيئة خبرائه حيث جرى التركيز على جملة مهام كبرى يمكن حصرها في:
1.     إزالة الاختلالات في ميزانية الدولة والميزان التجاري.
2.     المطالبة بتحرير التجارة.
3.     إجراء تغييرات هيكلية (خصخصة وإصلاح المؤسسات العمومية).
   هذه الوصفة لم تنظر، وللأسف، الى ظروف العراق الخاصة بحيث لا يجوز ان يكون الإصلاح هدفا بحد ذاته بل جزء من إستراتيجية تنمية شاملة تعرف ما تريد.
   وكما هو معروف، ترتكز السياسات الاقتصادية للتكييف على إعادة تشكيل الوظيفة الاقتصادية والاجتماعية للدولة: فلم تعد " دالة الهدف " المعلنة لديها: التنمية وعدالة التوزيع، ولكنه (الإصلاح الاقتصادي.....؟) أما وسائل العمل فإنها تنطلق من التخفيف من المسؤوليات أو عبر السياسات المالية من خلال الإنفاق العام بما فيه مخصصات الدعم السلعي.
   التجربة التي راهنت عليها وصفة الصندوق تتيح الاستنتاج بأنها قادت الى النتائج التالية:
أ‌.   تهميش دور القطاع الخاص المحلي فليس لديه ما يقوم به في ظل إطلاق العنان للمنافسة دون تحضير الممهدات الضرورية لها مما أدى الى تدمير الصناعة والزراعية الوطنية. ومن حق المرء ان يتساءل: كيف تطرح "الاستراتيجية" مطلب ان "يكونللقطاعالخاصدورا رئيسيا" في مثل هذه الظروف؟ ربما ثمة استنتاج واحد ووحيد هو رهان "الاستراتيجية" على القطاع الخاص الأجنبي أو على دور ما للبرجوازية متمثلة في حلفها الثلاث المتين: البيروقراطي-الطفيلي-الكومبرادوري، وهذا الحلف غير معني ببناء استراتيجية صناعية وقاعدة انتاجية فهو مشغول بتطوير القطاعات التي تدر اقصى الارباح والتي تتركز اليوم في قطاع المضاربات والمتخمة حتى اخمس اقدامها في "عسل" الفساد الذي اصبح مؤسسة "نباهي" بها الامم!!. وهنا لا يستقيم الحديث مع ما طرحته الاستراتيجية من مسعى لـ "وضعالاقتصادالعراقيعلىمسارواعدللتنميةلغايةعام 2030" (ص 1).
ب‌.اتساع شقة التباين بين القوى الاجتماعية المختلفة في النصيب النسبي من الثروة والدخل، عند مستوى منخفض من معدلات نمو الناتج الإجمالي (باستثناء القطاع النفطي ووتائر نموه والتي لا علاقة لها بآليات النمو المحلية بل بالطلب العالمي ومستويات اسعار النفط في الاسواق العالمية). وهذا يؤدي الى بروز الظاهرة التي يمكن ان نطلق عليها (الاستقطاب الاجتماعي) بمعنى التحديد الجامد والصارم نسبيا للمواقع الاجتماعية على سلم الثروة والدخل لمختلف الفئات الاجتماعية، وبالتالي تصادم أقدارها ومصائرها بفعل السعي المتضارب الى اكتساب طريقة محددة لممارسة الحياة.
   ولهذا فانه عند تدشين النقاش حول " الإصلاحات الاقتصادية المنشودة " التي تسعى "الاستراتيجية" لتكون جزءا منها يتوجب التأكيد هنا على القضايا التالية:
-         الإصلاح المنشود يجب ان يكون جزء من إستراتيجية التنمية المنشودة.
-         الدولة ينبغي ان تلعب دورا متوازنا ومتكاملا مع السوق.
-         القطاع الخاص المحلي في العراق وبسبب أوضاعه المعروفة يحتاج ولوقت طويل الى الدولة ودعمها.
-    الانتقال من الطابع الريعي والأحادي الجانب للاقتصاد العراقي بتنويع الاقتصاد وتحريره من الاعتماد المفرط على عوائد النفط. وهذا يتطلب التطبيق الفعال لسياسة نفطية متسقة موجهة بإستراتيجية اقتصادية ورؤية مستقبلية بعيدة المدى وواضحة الأهداف ومتناسقة داخليا
   واضافة لذلك وعند الحديث عن الاصلاحات المطلوبة فان واحدة من المهام الاساسية التي يجب حسم النقاش بصددها عند بلورة الاستراتيجية الصناعية هي تحديد الإصلاح المطلوب في القطاع العام الصناعي منهجا وغاية، والمقصود بذلك إصلاح هذا القطاع ضمن إصلاح البنية الصناعية والتخصص الصناعي وسياساتهما. وهنا تتدفق اسئلة عديدة من بينها على سبيل المثال لا الحصر ما يلي:
- هل سيكون الخيار خصخصة كاملة أم جزئية عاجلة أم آجلة؟، أو يكون خصخصة محلية أو عربية أو أجنبية أو مختلطة؟ .
- ما هي دوافع الخصخصة كمنهج مباشر لـ "الإصلاح" فيما يخص القطاع العام الصناعي؟
- هل يمكن اعتبار خسارة الشركات العامة الصناعية ماليا خسارة مستقلة عن عيوب الاختيار الصناعي لتخصصها الإنتاجي والسلعي الذي أخذت به الجهات الصناعية صاحبة القرار؟
   ومعنى هذا أن مشاكل القطاع العام الصناعي لا يمكن أن يختزل إلى مشاكل متعلقة بالإدارة الاقتصادية نمطا أو ممارسة أو كليهما، وإنما ينبغي التمييز بين عيوب البنية والتخصص وعيوب الإدارة القاصرة في الشركة العامة الصناعية الواحدة وعلى مستوى القطاع العام الصناعي برمته، لا بل وضمن القطاع الصناعي العام والخاص معا.

الهوامش:

(1) K. Bezanson A Science, technology and industry strategy for Vietnam, prepared as part of the UNDP/UNIDO project DP/VIE/99/002: Vietnam-contribution to the preparation of the socio economic development strategy to the year 2010" , March 2000 (www.unido.org), op.cit., pp. 52-53