مدارات

في مناسبة ذكرى 8 شباط الأسود : إنصاف الشهداء

د. أحمد الشيخ أحمد ربيعة
تمر في هذه الايام ذكرى 8 شباط الاسود، التي تبقى على مدى التاريخ موصوفة بهذا الشكل. فقد أُعدم وصفي الى جانب الزعيم عبدالكريم قاسم، كوكبة من خيرة ما انجب الجيش العراقي على مستوى الوطنية او المهنية.
وتركز معظم الكتابات عن انجازات ثورة تموز1958 وتربطها باسم قاسم متجاهلة بوعي او بدونه دور العديد من الضباط اليساريين والمتنورين في تحقيق انجازات ثورة تموز المجيدة، وفي التأثير على بعض اتجاهات عبدالكريم قاسم التقدمية، حيث قلما تتوفر وثائق تمس هذا الامر، اضافة لتصفية حياة هذه المجموعة. كذلك نجد أن بعض الذين كانوا على قرب من ثنايا الامور صمتوا خوفاً او طوعاً. هذه المجموعة من الضباط ذوي الرتب العليا، التي كانت على تماس يومي مع قاسم، لعبت دوراً مهماً في التأثير على اتخاذ قائد ثورة تموز العديد من الاجراءات الوطنيه. وقد تميزت عموما بنضج سياسي أعلى من طموح قاسم وكانت على تواصل وعلاقة اوثق بالقوى السياسية الداعمة لثورة تموز وبالذات الحزب الشيوعي العراقي، اضافة الى انها كانت اقدم في صلاتها بحركة الضباط الاحرار.
تلك القوى كانت اكثر ادراكاً للمخاطر التي احاطت بثورة تموز ، لذلك ظلّت متذمرة من سياسة الزعيم عبد الكريم قاسم ،الوسطية والمتراخية، مع اعداء ثورة تموز وقائدها. لقد عملت القوى المعادية لثورة تموز بإثارة الشكوك حول هذه المجموعة وتخويف قاسم منها وقد نجحت في هذا الامر. وكان ابرز هؤلاء القادة الزعيم الركن طه الشيخ أحمد، الزعيم الركن جلال الأوقاتي، العقيد فاضل عباس المهداوي اضافة الى وصفي طاهر وماجد محمد امين.
في تقييمه لرجال تلك المرحلة يشير الفقيد قاسم الجنابي مرافق الزعيم عبدالكريم قاسم ان العراق خسر في 8 شباط 1963 شخصيتين عسكريتين مهمتين هما طه الشيخ احمد وجلال الاوقاتي، وان قذى احذيتهم أفضل من كل الذين جاءوا بعدهم (برنامج "مهمة عراقية"- الزعيم عبدالكريم قاسم - قناة العراقية). بقيت هذه المجموعة وقلة نادرة من الضباط القاسميين مثل الزعيم عبدالكريم الجدة مخلصة حتى النهاية لقاسم ولثورة تموز، ودفعت حياتها ثمناً لهذا الموقف. ولعبت هذه الشخصيات ادواراً مهمة وكان ابرزها الزعيم طه الشيخ أحمد ، خاصة في السنة الاولى من الثورة. فإضافة الى كونه مدير الخطط الحربية العام، كان "يقوم بواجبات المستشار الشخصي للزعيم عبد الكريم قاسم وموضع ثقته ويقوم بمهمة تنفيذ اوامره المتعلقة بقضايا الامن الداخلي وجمع المعلومات الخاصة ذات الطابع المؤثر والخطير على كيان الجمهورية - رسالة من السيد عربي فرحان للكاتب". ويعتبره حازم جواد (أحد قادة انقلاب شباط الاسود ووزير داخلية الانقلاب) في صفحات مذكراته التي نشرت في جريدة "الحياة" اللندنية بانه كان الحاكم الفعلي للبلد في 1959 ويكتب عنه حنا بطاطو في كتابة المشهور عن العراق بانه القوة التي "كانت تقف?خلف العرش" ويرى الفقيد عامر عبدالله في صفحات مذكراته المنشورة في عدد من المجلات منها مجلة ابواب الصادرة عن دار الساقي، ان احد اسباب عدم قدرة الحزب الشيوعي على التحرك ضد قاسم هو انقسام قواه العسكرية في الجيش بين طه الشيخ أحمد والمهداوي.
وهناك العديد من الشهادات بحقه وبحق هذه الكوكبة من القادة العسكريين الاماجد وغيرهم من الرتب الادنى. قسم من هؤلاء شارك في الحياة الحزبية والمدنية في فترة ابعاده من الجيش بمعنى إنه لم يكن اسير الثكنة وما تفرضه من طريقة تفكير محددة، منهم جلال الاوقاتي، طه الشيخ أحمد، سليم الفخري، غضبان السعد وغيرهم. كما بقيت قضية الارتباط السياسي لهذه المجموعة يحيطها بعض الغموض اذا استثنينا جلال الاوقاتي وارتباطه بالحزب الشيوعي في فترة متقدمة قياسا مع الاخرين وقبل ثورة تموز ، فان البقية كانوا على علاقة بالشيوعين بشكل او اخر. لكن للأسف لم يُبحث او يؤرخ هذا الجانب. مثلا كتب لي الشخصية الوطنية المعروفة الدكتور على حسين الساعدي وهو ابن رجل الدين الشهيد الشيخ حسين الساعدي الذي كان مسؤول محلية العمارة للحزب الشيوعي، كتب لي مرة كيف كان يزور طه الشيخ أحمد برفقة ابيه عندما كان صغيراً في العمارة في فترة الانتخابات عندما رشح طه الشيخ أحمد للانتخابات في نهاية الأربعينيات عن لواء العمارة، وكان يجري التنسيق في امر الانتخابات ويقوم هو بالتسجيل والكتابة ويصف كذلك اناقته وبيته وهدوءه. بتقديري ان تسليط الاضواء على ادوار هذه الشخصيات ومؤثراتها ع?ى قاسم ومساره يمكن ان يساعد في رسم صورة اوضح لمسارات ثورة تموز المجيدة.
(...)
في كتاب العميد المتقاعد خليل إبراهيم حسن (اللغز المحير. عبدالكريم قاسم. بداية الصعود الجزء 6). قبل الاشارة الى ما ورد، اشير الى إن الكتاب كتب بروحية العداء لقاسم، الا انه يحوي معلومات مهمة وكثيرة، وهي اوسع ما كتب عن ثورة تموز والمفارقة فأن قراءة اجزاء الكتاب المتعددة توصل القارئ الى استنتاج ضمني معاكس لما اراده صاحب الكتاب (العروبي الاتجاه) وهو أن قاسم كان قائداً عسكرياً متميزاً وهو الرابط الاساسي لمجموعات الجيش المعارضة ويحظى اسمه بثقة معظم الضباط الوطنيين بدون منازع ويكفي ان يعرف بعض الضباط ان قاسم جزء ?ن الضباط الاحرار حتى ينضم لها. كان قاسم ذا كفاءة عسكرية متميزة وروح وطنية عالية ونزاهة وعفة وأمانة معروفة بين اوساط الضباط. وهو منظم كبير وذو عقلية استخباراتية وكان يقف على معظم التغيرات والاسرار في المؤسسة العسكرية. فكان وقوف قاسم على رأس حركة الضباط الاحرار ضماناً حقيقياً واساسياً لنجاحها. وربطا بموضوع المقالة ففي الكتاب المذكور الجزء 6 ذكر الكاتب وهو شاهد على الحادثة، في هامش الصفحة 84 ما يلي:
(...)
بقي القليل من عاش تلك الايام ممن يعرف او سمع بعض بواطنها وخاصة في ما يمس الحلقة المحيطة بقاسم اضافة لحلقة اوسع من الضباط الشيوعيين والوطنيين الذين دافعوا بكل بسالة عن ثورة تموز وقائدها وانجازاتها. ويسعى غربان شباط الاسود ليومنا هذا الى تشويه التاريخ والحقائق المحيطة بأحداث ثورة تموز والانقلاب عليها وما لاحقها من جرائم وخراب ظل العراق وطناً وشعباً يدفع ثمنها حتى يومنا هذا. على النقيض من هذه الشخصيات، كانت هناك شخصيات عسكرية ايضا قريبة من قاسم لكنها خانت ثورة تموز وقاسم وعبدت الطريق لنجاح الانقلاب منها مثلا الحاكم العسكري العام أحمد صالح العبدي حيث اظهرت الوثائق البريطانية المسموح بنشرها بعد عشرات السنوات ارتباطه بالمخابرات البريطانية وهو اول مسؤول عمل على توفير الصلة للمخابرات البريطانية مع البعثيين في سنوات الثورة الاولى، ولا يمكن نسيان الدور الذي لعبه مدير الامن العام وهو أحد ضباط قاسم في التستر على نشاط الإنقلابيين ولعب دوراً مهماً في تسهيل نجاح الانقلاب المشؤوم.
ان البحث والدراسة والتوثيق لدور هذه الشخصيات التي كانت قريبة من قاسم، سيلعب بالتأكيد دوراً مهماً في تدقيق التصورات عن ثورة 14 تموز.