مدارات

ثورة 14 تموز المجيدة والذاكرة الفتية / ريسان الخزعلي

..الأحداث الكبيرة لا تنسى حتى وان حصلت في عمر الطفولة، وقد أثبت الطب والتجارب العلمية، ان ذاكرة الإنسان تتشكل وهو في عمر ثلاث سنوات، وربما أقل من ذلك. وما يدعوني لهذه المقدمة، هو إستعادة ذكرى ثورة 14 تموز الخالدة عام 1958م وأنا بعمر خمس سنوات، حيث مازلت أذكر ذلك المساء، والناس تتوافد على منزل جدي الريفي، بأنتظار عودة الجد من المدينة لمعرفة ما الذي حدث؟.. حيث لم يكن جهاز الراديو قد دخل القرية في حينها، غير ان توالي الأخبار التي ينقلها (الطروش) يشير الى ان حدثاً كبيراً قد حصل في بغداد..، وما أن ابتدأ خيط الظلام بالنزول على القرية، حتى أقبل الجد مزهواً بمشيته، وقد هبَّ الجميع لاستقباله بحرارة جنوبية معروفة مرددين عبارة واحدة مشتركة (ها... بشّر!).. وكل ما اذكره، إنه أجاب بحرقة ملوّحاً بيديه (أبشركم بعد ماكو إشيوخ!)..، وهكذا علت الهلاهل، وابتدأ الفلاحون هوساتهم الراقصة بفرح جنوبي (إهلال البيّن يا غيم إيضمَهْ)..، وكان الرصاص بالمفرد يتماوج مع اليشامغ في معزوفة مشتركة.
.. الان يتذكر (الطفل) يومذاك، تلك الحادثة الضاربة في الاعماق، بعد عقود من الزمن ويرسمها لوحة شعرية:
.مساء تموزي
... كنتُ طفلاً..
يوم عادَ جدي..،
من رحلةٍ طويلة
...،
كان يعلو..
ضجيجُ البيوتِ تتابعاً..،
لقدومهِ: كل استداراتِ المشاحيفِ جميلة
...،
لا أذكرُ الان من غناءِ الصبيّاتِ..،
غيرَ الصدى..،
وارتحالِ شيوخِ القبيلة
...،
ذاكَ الهوى لليوم..
تحتَ شغافِ القلبِ... اضمّهُ..،
حرصاً..،
لأن منابتهُ جليلة...
.. وبالعراقي، ذكرّني شيخٌ أدرك ثورة تموز الخالدة:
(شنهي نسيت من ودّوك أهلك للمدرسة.. مو كاموا ايوزعولكم حليب وكعك وكبسول دهن السمچ وإقماش دشاديش او حاصل الشلب كلّه صار لبوك؟!)
.. من أين لنا بذاكرات أخرى.. تكشف الدلالة، وتشير الى الذي حصل ويحصل..؟!..، غير ان المثل الشعبي كان حاضراً.. (هاي وين.. إو ذيچ وين؟!!)