مدارات

" عملية رفاهية العراق " بين الصخب الاديولوجي وحقائق الواقع الصارمة ملاحظات أولية حول المشروع الاقتصادي لسلطة الاحتلال * التاريخ لن يكون شاهد زور / د.صالح ياسر

نشر الحاكم المدني الأميركي للعراق بول بريمر مقالا هاما في (وول ستريت جورنال) ونشرت ترجمة للمقال بالعربية في جريدة السفير اللبنانية بتاريخ 21/6/2003. وتكمن أهمية المقال في طائفة من الحقائق من بينها :
1. أنه كتب عشية سفر السيد بريمر الى الاردن حيث ترأس بعثة من كبار رجال الاعمال والمال العراقيين الى اجتماع خاص للمنتدى الاقتصادي العالمي في عمان في الاردن حيث كان من المقرر مناقشة السمات الاقتصادية لاستراتيجية التحالف ككل.
2. إنه يكشف وبوضوح بالغ، ولو بتكثيف، عن المشروع الاقتصادي لسلطة الاحتلال، الامر الذي يستدعي قراءة مركبة تكشف المعلن والمستور في هذا المشروع. وهذا يتطلب أولا القيام بعرض مكثف لمفردات المشروع هذا ( مع ملاحظة أن الجمل الموضوعة بين قويسات تمثل اقتباسات من مقال السيد بريمر)؟
عرض مكثف للمشروع الاقتصادي
ينطلق السيد بريمر من الوعد ( بمستقبل اقتصادي افضل) مفترضا :
- انه ولكي ( يزدهر العراق، يجب تغيير اقتصاده).
- وأن العراق ( يواجه ..... مشكلات فريدة)، غير أن السيد بريمر يستدرك قائلا : (لكننا نمتلك الخبرة من البلدان الاشتراكية السابقة وتحليلا لنجاحات البلدان الرأسمالية، لاغناء منظورنا).
ولكن السيد بريمر وفي الوقت الذي يشير الى أنه (يعود الى العراقيين تحديد الوجهة النهائية لمستقبل العراق الاقتصادي)، لكنه يحسم الامر بتحديد وجهة التطور عندما يقول (سيعتمد النمو الاقتصادي على ولادة قطاع خاص نابض بالنشاط)، أي أنه يحدد مقدما النمط التنموي الذي سيتم تطبيقة. وسيتطلب هذا النمط من النمو – بحسب السيد بريمر – ثلاثة شروط :
1. (اعادة توزيع اجمالية للموارد والاشخاص بإبعادهم عن سيطرة الدولة الى المؤسسات الخاصة)،
2. (تعزيز التجارة الخارجية)،
3. (حشد رأس المال المحلي والاجنبي).
ويميز السيد بريمر بين ما ينبغي عمله على المدى القصير والمدى الطويل. فعلى المدى القصير يشير السيد بريمر الى (ان تتناول أي خطة اقتصادية للعراق الآثار التي سيخلفها الصراع الهادف الى تحرير الاقتصاد). ويفترض هنا تحقيق عدة شروط :
1. الشرط الاول للنمو هو (ترسيخ القانون والنظام).
2. الشرط الثاني هو (تشكيل نظام سياسي يعكس اهداف وآراء كل العراقيين). واذا قرأنا الاستراتيجية الامريكية عموما وفهمنا جيدا الاهداف الحقيقية من حملتها العسكرية على العراق، أمكننا القول أن الشرط الثاني هو الشرط الاهم. وبلغة المصالح وليس بالنيات الطيبة يتعين التأكيد على أن (تشكيل نظام سياسي) سيعكس بالضرورة اهداف ومصالح قوى اجتماعية محددة وليس كما يردده السيد بريمر خطأ أي (اهداف واراء كل العراقيين).
ويحدد السيد بريمر هدفه المركزي الاول في هذه المرحلة وهو (العمل مع العراقيين لوضع بلدهم على المسار الاقتصادي الصحيح).
أما على المدى البعيد فيطرح السيد بريمر مفهوم (التنمية المستدامة) منطلقا من التأكيد على أن الامر ليس (مجرد اعادة بناء الابنية الحكومية او اصلاح الانابيب المتضررة) بل هو التأسيس لنمط اخر من النمو يتطلب (تحولا عن سوء ادارة وإهمال وبنية صناعية ستالينية دامت ثلاثة عقود)، وينطلق من نقد للنمط التنموي الذي اعتمده النظام السابق حيث (...كان يجري توزيع رأس المال على اسس بيروقراطية وسياسية وليس استجابة لقوى السوق. وكان اكثر من ثلث الاقتصاد موجها الى دعم المؤسسة العسكرية العراقية الشرهة التي كانت مساهمتها ضئيلة، اذا وجدت اصلا، في كل ما يتعلق بتوفير الرفاهية للمستهلك)، اضافة الى طائفة من القضايا والاشكاليات التي وسمت النظام السابق، وهي معروفة.
على اساس نقد التجربة السابقة، يطرح السيد بريمر السؤال التالي : ماذا يقتضي لابطال تأثير هذا الارث؟ إنه يستحث – بحسب الروية هذه - انتقالا من نمط تنموي الى نمط اخر يرتبط بـ :
1. (ضرورة تشجيع القطاع الخاص على اعادة توزيع الموارد لاستخدمها على الوجه الاكثر انتاجية) إضافة الى (تحفيز نمو المؤسسات الخاصة الصغيرة والمتوسطة، القادرة بصورة افضل من غيرها على الخلق السريع لفرص العمل).
2. (تقليص الدعم للمؤسسات المملوكة للدولة).
3. (وتبني قانون اقتصادي واضح وشفاف).
ولكن السيد بريمر يستدرك في حديثه عندما يشير الى أن (الجزء الاصعب من عمليات الانتقال هذه عندما يحين موعد تقليص نظام الدعم). ويفترض السيد بريمر أن هذا يتطلب (اولا وضع شبكة حماية اجتماعية من اجل العمال الذين سيتأثرون من اغلاق بعض الشركات المملوكة للدولة. على الرغم من ان تقليص الدعم يشكل عنصرا حاسما في السياسة الاقتصادية، الا انه يجب ان يكون رحيما) علما بأن تجارب البلدان التي طبقت بها وصفة تقليص الدعم أنه لم يكن رحيما قطعا بل كان قاسيا الى اقصى حدود القسوة.
ومقابل ذلك لا يكتفي بريمر بالشأن الداخلي بل يؤشر الى كيفية ارتباط الاقتصاد العراقي بالعالم الخارجي، وهنا ينطلق من التأكيد على ضرورة (انفتاح العراق على العالم) - طبعا من دون تحديد طبيعة هذا الانفتاح -، نظرا الى ما يجلبه هذا الانفتاح، من (تحقيق فوائد جمة). وتفترض استراتيجية الانفتاح على الخارج – بحسب السيد بريمر – ما يلي :
1. فتح الابواب أمام الاستثمارات الاجنبية من رؤوس الاموال والتقنيات الادارية والتكنولوجيات الحديثة. ويتطلب ذلك (تشجيع الوصول الى كل هذه الموارد للمستثمرين المحليين بمنحهم حرية التبضع في الاسواق العالمية وأمام المستثمرين الاجانب ذوي الخبرات في مجالات محددة).
2. ربط (الاصلاح المحلي بالاصلاح العالمي). ونظرا لأن " الاصلاح العالمي " هو تلك البرامج التي يتم تطبيقها في البلدان التي تخضغ لوصفة المؤسسات المالية والنقدية الدولية الرأسمالية، فإن جوهر اطروحة السيد بريمر واضحة هنا : يجب ربط ( الاصلاح المحلي ) بعجلة ( الاصلاح العالمي) المطبق تحت حراب تلك المؤسسات المشار اليها اعلاه.
إن تحقيق استراتيجية الانتقال - بحسب طرح السيد بريمر - يتطلب :
أ‌. اتباع مقاربة مرتكزة على السوق ومنضبطة،
ب‌. اتخاذ قرارات صعبة وتحمل تضحيات على المدى القريب،
ج‌. ولا بد لنجاح هذا البرنامج من ان يسانده الشعب العراقي.
وإضافة الى ما جرت الاشارة اليه من ملاحظات فإن الاطروحة المركزية التي تتمحور حولها مقالة السيد بريمر هي الربط العضوي بين الحرية الاقتصادية والحرية السياسية عندما يؤكد على أنه (يستحيل ان تظهر مستويات المعيشة المرتفعة والحرية السياسية اذا منعت الحرية الاقتصادية). واذا دفعنا هذه الاطروحة الى نهايتها المنطقية امكننا أن نستنتج أن نقطة الانطلاق هي الحرية الاقتصادية. وجوهر هذه الاطروحة هو أن (يحتل بناء اقتصاد عراقي مرتكز على مبادئ السوق الحر، موقعا مركزيا) في جهود سلطة الاحتلال. وعندما يتم تحقيق هذه المهمة سيكون ممكنا الحديث عن الخطوة اللاحقة أي الحرية السياسية. بعبارة أخرى إن التحولات السياسية المطلوبة والمفضية الى انتقال ديمقراطي حقيقي، بما فيها اقامة حكومة عراقية سواء كانت مؤقتة أو غيرها، مؤجلة لحين بناء اقتصاد عراقي قائم على مبادئ واليات السوق الحر ‍‍‍‍!! وهذه القضية تستحق حوارا يتجاوز مظاهر الاشياء ليدخل في جوهر الاشكاليات والمرجعيات النظرية التي يستند اليها نموذج السيد بريمر لحل الازمة البنيوية وفي مقدمتها الجانب الاقتصادي، وهو موديل اخر مستعار من الترسانة النظرية لـ " ثوار " الليبرالية الجديدة وصقورها " الاماجد ".
ملخص القول أن مشروع بريمر يبدو خلاّبا للوهلة الأولى، وهو، قطعاً، يستحق النقاش. فنحن أمام مشروع طموح لإعادة هيكلة الاقتصاد العراقي وتكيفه مع ما يعنيه ذلك من حراك اجتماعي ومن تحوّلات طبقية ومن صعود فئات على حساب أخرى. واذا عدنا الى التجربة العراقية ذاتها امكننا القول أنه لم يسبق لـ " القطاع الخاص " العراقي أن حظي بشخص يدافع عنه بمثل هذه الفاعلية، والأهم من ذلك، بمثل هذا النفوذ حيث السيد بريمر الحاكم المطلق في بلادنا بقوة العسكر وقوة قرار مجلس الامن 1483 في أن. فهو ممثل القطب الاوحد وممثل القوة الاعظم في العالم. ويبدو من قراءة المشروع أن السيد بريمر يريد إنهاء، أو إضعاف، ازدواجيات السلطة بين من يتحكم بالدائرة السياسية ومن يتحكم بدائرة الاقتصاد، طبعا من دون نسيان التداخل بين الدائرتين في معظم الحالات.
يمكن القول، إذن، أن خطة السيد بريمر تجسيد محلي (عراقي) ملموس لما سبق الكلام عنه من " نهاية التاريخ " ونهاية الايديولوجيا التي اطلقها فوكويا من حيث أن الديموقراطية السياسية والليبرالية الاقتصادية المآل الأخير للبشرية!!
محاولة قراءة المشروع الاقتصادي
استنادا الى العرض الذي قدمته لمقالة السيد بريمر أود تسجل الملاحظات التالية حول بعض " المسلمات " التي تضمنها المقال المذكور، منطلقا في البداية من بعض الملاحظات الضرورية التي تشكل منطلقات لفهم المرجعيات النظرية للمشروع المذكور:
1. لا يمكن فهم جوهر الخطاب الاقتصادي للسيد بريمر من دون فهم التجليات الجديدة التي شهدتها الرأسمالية العالمية في المرحلة المعاصرة من تطورها وما يطرح من خطابات وأطروحات ومقاربات نظرية متنوعة تستهدف توصيف هذه المرحلة. لقد كانت قضية إختيار الشكل المحدد لتدخل الدولة، في إقتصاد السوق الرأسمالية، موضوعاً لسجالات ساخنة في سنوات الثمانينات من القرن العشرين، وإنتقلت من حقل النقاشات النظرية الصرفة الى حقل الممارسة الإقتصادية الملموسة. فقد إحتدمت هذه النقاشات وإتخذت أبعاداً جديدة في سنوات الثمانينات، إي لحظة إنتقال السلطة الى المحافظين في الولايات المتحدة ( ريغان) وبريطانيا ( تانشر). ففي هذه السنوات بدأ الليبراليون الجدد بتطبيق مذهبهم المتطرف في الممارسة الإقتصادية. وقد بلغت المناقشة حدتها في بداية التسعينات، وخصوصاً في الولايات المتحدةـ تحت تأثير المخاطر التي خلقتها اليابان أمام الإقتصاد الأمريكي، والتي لم يستطع الأمريكان تذليلها في ظروف سيادة المذهب الليبرالي الجديد. وقد تغذى السجال السابق بالنقاشات التي كانت تدور حول مايسمى بـ " المعجزة اليابانية ". فمن المعلوم أن هذا البلد قدم مثالاً لا يدحض لأهم نجاح إقتصادي بعد الحرب العالمية الثانية، ومن هنا فإن نتائجه إستخدمت بمثابة حجة لصالح كل من أنصار النموذجين السابقين. فأنصار التدخل الحكومي يرجعون النجاح الياباني في الحقل الإقتصادي الى السياسة الصناعية والدور الفعال للدولة، في حين يرجع أنصار المذهب الليبرالي الجديد ذلك الى النشاط العفوي لأليات السوق.
2. بداية، ومن أجل فك الاشتباك بين الحقيقة والاوهام الايديولوجية يتعين التأكيد على أن التحول نحو مذهب الليبرالية الجديدة ليس " بدعة " نظرية داخل الإقتصاد السياسي المسيطر في البلدان الرأسمالية المتطورة بل يجب دراسته إنطلاقاً من فرضية بسيطة قوامها أن هذا " التحول الفكري " هو نتاج الأزمة الإقتصادية العميقة التي يعاني منها الإقتصاد الرأسمالي منذ بداية السبعينات، بالرغم من كل مظاهر الفرح السياسي الغامر بإنهيار القطب الأخر. يتعين، إذن، النظر الى الليبرالية الجديدة بإعتبارها إنعكاساً لعمق الأزمة في النسق الرأسمالي العالمي وتمثل إيديولوجية كاملة لإدارة تلك الأزمة البنيوية. إن أحد المخارج النظرية هو هذا المذهب الذي أرتبط بهيمنة العناصر المحافظة أو تكتلات القوى التي لعب فيها المحافظون الجدد دوراً مقرراً، فمع استمرار هذه الأزمة وتفاقم الأوضاع الاقتصادية بدأ يترسخ وعي محدد في أوساط القوى المسيطرة في هذه البلدان بحقيقة الفشل الذي منيت به فلسفة إدارة رأسمالية الدولة الإحتكارية التي وضع أصولها الإقتصادي الإنكليزي المعروف كينز. لقد كانت الوصفة الكينزية عاجزة عن مواجهة الأحداث المعقدة التي جرت في بداية السبعينات بسبب عجز جهازها المفاهيمي عن تقديم تفسيرات منطقية مقبولة للقضايا والصعوبات التي إرتبطت بالأزمة المذكورة، وبالتالي عدم قدرتها في صياغة حلول تتجاوز الأزمة المذكورة. يتعين التأكيد على أن السياسات الكينزية، التي إستندت الى تدخل نشيط للدولة في الحياة الإقتصادية، قد حققت نجاحات ملموسة على الصعيدين الإقتصادي والإجتماعي. غير أن الأدوات التي إستخدمتها تلك السياسة لم تستطع كبح جماح التضخم أو على وجه الدقة لم تستطع مواجهة أزمة الكساد التضخمي وما رافقها من مظاهر، وما إقترن بذلك من تفشي للبيروقراطية والعسكرة، مما وضع هذه السياسات موضع النقد والمساءلة، وبالتالي بدأت تفقد بريقها لصالح السياسات الليبرالية الجديدة.
3. وفي مواجهة هذه الحقائق، راح الجناح اليميني في الفكر الإقتصادي المسيطر في البلدان الرأسمالية المتطورة يشن هجوماً قوياً على الكينزية بوصفها قد أصبحت وصفة " بائرة "، داعياً لنبذها والتخلي عنها، وداعياً في الوقت ذاته الى تبني سياسة جديدة، وضعت أسسها النظرية في " مدرسة شيكاغو " بقيادة ميلتون فريدمان، وهي السياسة التي عرفت بمصطلح " النقدوية " أو " مدرسة شيكاغو " وهو تيار ينتمي الى المدرسة الكلاسيكية الجديدة. إن هذا التيار حاول جاهداً العودة بالرأسمالية الى جذورها الأولى رافعاً شعاراته الشهيرة : الحرية الإقتصادية وأليات السوق الطليقة، داعياً في الوقت نفسه الى تقليص دور الدولة في النشاط الإقتصادي وإلغاء الدور الذي تلعبه كمضخة للطلب الفعال، أو من حيث التركيز على مايسمى بـ " إقتصادات العرض " لتنشيط أليات النظام.
4. وقد اقترن ذلك كله بالهجمة العاصفة للديمقراطية على صعيد عالمي، قادتها القوى المسيطرة في هذه البلدان، حتى بدا لمتابع المشهد المتحرك على الأرض تشكل مجموعة من المعادلات التي يتعين التوقف عندها. فعلى سبيل المثال جرى ويجري الإلحاح على مساواة الديمقراطية ( كبنية سياسية) بالإقتصاد الليبرالي وبالتالي يمكن كتابة المعادلة الشهيرة : السوق = الديمقراطية. ونظراً لأن هذا " السوق " الذي يجري التأكيد عليه في الفترة الاخيرة، هو ليس مقولة معلقة في الهواء، بل أن السوق المطلوب هو سوق رأسمالي في إطار الرأسمالية، فإنه يمكن كتابة معادلة أخرى هي : السوق = الرأسمالية. وإذا كشفنا " الرابطة " الوثيقة بين هاتين المعادلتين، نستطيع أن نستنتج أن " جوهر " تلك المعادلات بحسب أطروحات الفكر الإقتصادي المسيطر هو التالي : رأسمالية = ديمقراطية. وهذه المعادلة تثير الشكوك منذ بدايتها. ذلك لأن التشديد على الديمقراطية في مثل هذه الظروف، يخلط الحق بالباطل، على حد تعبير سمير أمين. فمن ناحية التطور التاريخي كانت الرأسمالية كأحد موديلات التطور تحمل الديمقراطية والقمع في أن، حيث أن سيادة مبادئ الليبرالية قد اقترنت بالتدخل الإستعماري، ولا حاجة للدخول في التفاصيل فتاريخ التراكم البدائي لرأس المال شاهد لا يخطئ على هذه الفكرة ( لمزيد من التفاصيل راجع العمل الهام : اريك هوبسباوم : عصر رأس المال. ترجمة د.مصطفى كريم. دار الفارابي، بيروت 1986). حقاً لقد حققت الرأسمالية عبر تطورها التاريخي المديد شكلاً أو صيغة للديمقراطية، أروع بالمقارنة مع التجارب التي سبقتها أو رافقتها. غير أن ديمقراطية المستوى السياسي ظلت، وستظل كذلك لأسباب تكمن في طبيعة النظام ذاته، تسير متناقضة مع المستوى الإقتصادي، الذي لا يمكن أن يكون ديمقراطيا، لأنه يرتكن الى منطق الملكية الخاصة والمنافسة، التي لا يمكن أن تكون ديمقراطية أصلاً، لأن القانون الإقتصادي المحرك للنظام لا يجري تحقيقه بين أطراف العملية الإقتصادية بإتفاق سادة " جنتلمان "، بل عبر عمليات صراع ومنافسة ضاربة وإبتلاعات متواصلة، محليا ودوليا في أن. هذا هو المنطق الموضوعي لعمل القوانين الناظمة للتشكيل المذكور وليس من إختراع خصومه الفكريين. إن النمط الرأسمالي لا يفرض الديمقراطية فرضاً، بل لقد تم التوصل إليها عبر مساومات تاريخية بين القوى المتصارعة، وكانت هذه الصيغة معمدة بالدم والتضحيات الجسيمة. غير أن التشكيل الرأسمالي فد خلق مجموعة من الميكانيزمات الإقتصادية وغيرها تجعل أفراد المجتمع لا يشعرون بالإضطهاد المرافق للتناقض الناشئ بين المستوى السياسي ( الديمقراطية ) والمستوى الإقتصادي ( الملكية الخاصة والمنافسة بصيغتها التقليدية أم المعاصرة) وذلك بفضل ظاهرة الإغتراب التي تحكم جميع أوجه الحياة الإجتماعية والوعي.( لمزيد من التفاصيل : قارن : سمير أمين : الرأسمالية والمنظومة-العالم. "جدل "كناب العلوم الاجتماعية، العدد 3/1993، ص 287 –315، كذلك : أريك هوبسباوم : عصر رأس المال...، مصدر سابق).
5. يتعين التأكيد على أن الليبرالية الاقتصادية المهيمنة الان على صعيد عالمي هي ليست حديثة العهد بل يتعين ارجاعها الى جذورها التاريخية، الى الثورة الصناعية، حيث كانت البرجوازية الاوربية الصاعدة تخوض معاركها الحاسمة لتحويل المجتمع الاقطاعي الايل للإنهيار الى مجتمع صناعي بدأ يارسمل بسرعة هائلة، وهذه القضية هامة جدا لفهم الفروقات الجذرية بين ليبرالية القرن الثامن عشر والليبرالية المعاصرة. يمكن القول أن ليبرالية القرن الثامن عشر كانت، إذن، تقدمية - بمنطق ذلك العصر - في نزعنها التحويلية، في حين أن ليبرالية القرن العشرين والان رجعية معادية للتقدم الاجتماعي في جوهرها. هذه مفارقة مهمة ينبغي اخذها بنظر الاعتبار حين يقيم المرء وبالملموس جوهر وتوجهات الليبرالية المعاصرة. غير أن هذه المفارقة غير كافية لوحدها من دون التأكيد على مفارقة اخرى تتعلق بوضع " البلدان المتخلفة ". فمن المهم الاشارة الى الى أن الليبرالية التي جرى ويجري خلق الشروط لتطورها والترويج لهيمنتها في بلداننا عي ليست وليدة تطور منطقي/طبيعي لعلاقات القوى الاجتماعية داخل هذه البلدان، مثلما حدث في تجربة البلدان الاوربية في القرن الثامن عشر. إن ظهور الليبرالية الاقتصادية في بلدان " منطقة التخلف " قد تجلى بشكل فجائي في ثمانينات القرن العشرين عبر ما يسمى ببرامج التكييف أو التصحيح الهيكلي، التي فرضها الدائنون وصندوق النقد الدولي والبنك الدولي. كما أنها من ناحية اخرى لا تتشابه، على الاقل شكليا، مع الليبرالية السائدة في البلدان الراسمالية المتطورة، التي كفلت للانسان العديد من الحقوق والحريات والضمانات. واستنادا الى التجربة التاريخية الملموسة يمكن القول إن غياب الديمقراطية وحقوق الانسان في بلدان " منطقة التخلف " تمثل شرطا ضروريا لتطبيق عناصر الليبرالية الاقتصادية. واستنادا الى التجربة التاريخية الملموسة كذلك والتي تبين أن تطبيق هذه " الوصفة " قد الحق أفدح الاضرار بالفقراء ومحدودي الدخل، في حين أن اشاعة الديمقراطية بكل ابعادها وشحناتها الانسانية كفيل بعرقلة أو الحد من تطبيق أغلب عناصر الليبرالية الاقتصادية، وبالشكل الفج الذي طبقت وتطبق فيه الان، في العديد من البلدان ( لمزيد من التفاصيل قارن : د.رمزي زكي : الليبرالية المستبدة. دراسة في الاثار الاجتماعية والسياسية لبرامج التكيف في الدول النامية. دار سينا للنشر، ط1، القاهرة 1993، ص 13). إن الواقع يشير الى مفارقة ويطرح سؤالا حارقا هو انه بالرغم من مضي ما يزيد على عقدين من التطبيق فإن السياسات الليبرالية الجديدة التي طبقتها الدول الرأسمالية الصناعية لم تنجح في مواجهة أزمة الرأسمالية المعاصرة في قلاعها، فهل يمكن لهذه الوصفة أن تعالج الاوضاع الاقتصادية/الاجتماعية المتفاقمة في بلدان " منطقة التخلف ".
6. وبعيداً عن الصخب الإيديولوجي الذي تقدمه لنا الترسانة النظرية للمؤسسات المالية والنقدية الرأسمالية الدولية، لابد من التأكيد على أن " إقتصاد السوق " بصيغته " الليبرالية الجديدة " حتى في أكثر أشكالها إبتذالاً، ليس سوى بنية نظرية لا صلة لها بالواقع الثري، الذي قدم خليطاً من أشكال التسيير. وتأسيساً على ذلك يتعين كشف زيف المعادلة المزعومة : السوق = الديمقراطية أو مساواة الديمقراطية ( كبنية سياسية ) بإقتصاد السوق، إذ أن تطور الديمقراطية السياسية بمعناها الواسع لا يتطابق بالضرورة مع الحقل الأقتصادي الرأسمالي حيث سيادة الملكية الخاصة والمنافسة ( سواء بين المؤسسات الخاصة وبين الإحتكارات العملاقة). واستنادا الى المدخل السابق، يمكن الاستنتاج بأن الطرح الذي يقدمه السيد بريمر في " المانيفست الاقتصادي الجديد " يمثل استعارة للنموذج السميثي (نسبة الى أدم سميث أبو الاقتصاد الكلاسيكي). وينطلق هذا النموذج من فرضية قوامها أن السوق (وميكانيزماته) يؤدي، الياً، الى حل مختلف المشكلات التنموية. وإرتباطاً بذلك يكون من الضروري خلق الشروط للحرية التامة لنشاط الميكانيزمات السوقية. ومن هنا فإن هذا الموديل هو مرادف معاصر للمبدأ السميثي ( نسبة الى أدم سميث) : دعه يعمل دعه يمر، واليد الخفية للسوق. وإرتباطاً بالطرح السابق فإن جوهر هذا النموذج يتجلى بالسعي الى " طرد " الدولة من الحقل الإقتصادي، وتقليص دورها في الهياكل الإرتكازية، التي تسهل نشاط المؤسسات الخاصة وتطور المنافسة، كما يسمى هذا الموديل بالموديل الليبرالي الجديد. وهنا لابد من الإشارة الى أن هذا المفهوم للسوق الحرة ( بصيغته المتطرفة) يمثل بنية نظرية خالصة وليس بنية تشتغل في الواقع الملموس. إنه موديل نظري صافي كما اشرنا سابقا، وهو بهذه الصورة لم يتحقق حتى في البلدان التي تدعي تطبيق المذهب الليبرالي الجديد، مثل الولايات المتحدة الأمريكية وبريطانيا. بغض النظر عن الهرطقة الايديولوجية السائدة خلال السنوات الاخيرة فإن آيا من البلدان الرأسمالية المتطورة لا يسود فيه إقتصاد السوق الحرة بصيغته الخالصة، إذ يلاحظ اشتغال لآليات السوق المقترنة بضبط متعدد الجوانب لتلك الآليات من طرف الدولة. وبالرغم منا النزوع المتصاعد لتقليص هذا الضبط الدولاني ( نسبة الى دولة)، ورغم الجنوح المتصاعد نحو الخوصصة privatization ، فإن الضبط هذا مازال يعمل، وفي بعض الحقول يشتغل بقوة. إن الواقع يقدم لنا، إذن، ليس اقتصادا سوقياً بحسب الوصفة الليبرالية الجديدة، بل اقتصادا مختلطاً، حيث إقتصاد السوق مقروناً بتدخل حكومي ملحوظ في قطاعات متعددة. ويعني ذلك أن الأمر لا يتعلق، في الممارسة بتدخل أو عدم تدخل الدولة، فمثل هذا الأمر حسمته التجربة التاريخية، بل أن القضية تتعلق بالفرو قات في حجم وأشكال التدخل الحكومي هذا. إن خصوم النموذج الليبرالي الجدد يطرحون الفكرة القائلة بأن مفهوم " السوق الحرة " أو " المدارة ذاتياً " هو مفهوم ينتمي الى الماضي، أو لحقل النظرية الصرف، وقد تجاوزه التاريخ والواقع، وهم بذلك ينكرون اشتغال سوق كهذه في الظروف المعاصرة. إن العبارات التالية تؤكد هذه الأطروحة : " إن السوق المدار ذاتيا قد بدأ بالموت مع بداية هذا القرن. وقد كانت الحرب العالمية الأولى تمثل المعلم الذي لا يخطئ لمرضة المميت هذا، في حين كانت الأزمة الإقتصادية 1929 – 1933 تمثل رصاصة الرحمة. يتمثل السبب في ذلك في أن السوق المدار ذاتياً يتضمن العديد من العناصر الطوباوية ".
7. ولاشك أن إصرار المؤسسات الدولية المتخصصة ( صندوق النقد الدولي والبنك الدولي تحديداً) والحكومات الغربية من خلال التبشير بالديمقراطية صنواً لإقتصاد السوق وحصيلة للتحرير الإقتصادي الليبرالي، والتأكيد بأن الديمقراطية سبب ونتيجة معاً للنمو الإقتصادي في إطار الليبرالية الإقتصادية، إن هذا الإصرار مناقض لحقائق التاريخ الصارمة. فالتاريخ الإقتصادي غني بالدروس والعبر المناقضة لمقولات الصندوق والبنك الدوليين بصدد ديمقراطية التحرير الإقتصادي الليبرالي، ذلك لأن الثورة الإقتصادية الرأسمالية والتنمية قد تحققتا في غياب الديمقراطية والتعددية في بلدان عدة منها تحديداً في ألمانيا زمن بسمارك وفي فرنسا زمن نابليون الثالث وفي اليابان زمن الميجي. كذلك فإن التجارب الجارية للإصلاح الإقتصادي في العديد من البلدان العربية والنامية وتجارب النمو العارم في إطار الرأسمالية أو الليبرالية الإقتصادية في البرازيل وفي البرازيل وفي دول الجنوب الأسيوي قد إقترنت تحديداً بغياب الديمقراطية وتواصل النزعة السلطوية. وإذا كانت الليبرالية الجديدة ، بطبعتها المتطرفة، على الصعيد العالمي هي وسيلة الرأسمالية المعاصرة لرفع متوسط معدل الربح لإعادة الحيوية لتراكم رأس المال والنفي الجزئي لتناقضاتها الداخلية، فإن تطبيقها في بلدان " منطقة التخلف " يعني، من بين أمور عديدة، السعي لإحتواء هذه المناطق وإبتكار أليات جديدة للاحتواء والاستغلال تمكن الإحتكارات المتعدية الجنسية والبلدان الرأسمالية المتطورة في خلق " فائض قيمة تاريخي جديد " يمول جزئياً علاج تناقضات تصدع دولة الرفاه ونظم الإشتراكية الديمقراطية بعد فشل الليبرالية المعاصرة في قلاع رأس المال في علاج هذا التصدع وتناقضاته.
8. وارتباطا بالحلول التي يطرحها السيد بريمر في مشروعه الاقتصادي الذي يقوم على فرضية منطلقية اساسية تمثل ركنا اساسيا في الخطاب الليبرالي الجديد، تقوم على الترويج لمفهوم الخوصصة privatisation، بإعتباره " ضرورة لابد منها " لأي " تقدم إقتصادي "، لابد من التساءل عن مدى قدرة الخصخصة في ظروف الكارثة الاقتصادية الحالية، أي إحلال القطاع الخاص في العراق محل القطاع الحكومي كوسيلة للتغلب على الازمة الاقتصادية –الاجتماعية البنيوية ومواجهة مشكلات التنمية في ظروف بلادنا الراهنة، وهل يمكن تطبيق الوصفة السميثية ( نسبة الى أدم سميث) : دعه يعمل دعه يمر، وكتابه الذائع الصيت ٌ ثروة الأمم ٌ كمطلق لحل مشكلات ٌ التخلف والبؤس ٌ في بلد من بلدان " منطقة التخلف ".
9. يؤسس السيد بريمر مشروعه الاقتصادي على مرجعيات نظرية وتجارب تاريخية. ومع اقراره بأن العراق يواجه ( مشكلات فريدة)، الا أنه يستدرك قائلا ( لكننا نمتلك الخبرة من البلدان الاشتراكية السابقة وتحليلا لنجاحات البلدان الرأسمالية، لاغناء منظورنا). والذي يهمني هنا التركيز على قراءة مكثفة لتجارب الانتقال من الأشتراكية الى الراسمالية في روسيا الاتحادية وبلدان أوربا الشرقية، بهدف استخلاص الدروس المطلوبة من هذه التجارب التي يرتكن اليها السيد بريمر لإغناء منظورة بصدد عمليات الانتقال الى " الجنة الموعودة " في العراق. ومنعا لأي تهمة من أنصار " السلفية الجديدة " لا تدعو هذه الفقرة فيما لو أسيء تفسير عنوانها أنها تروج الى العودة الى أوضاع ما قبل عام 1989 في بلدان أوربا الشرقية والاتحاد السوفيتي سابقاً، فمثل هذه التشكيلات التي سادت قد استنفذت مهماتها ووصلت الى أفق مسدود بفعل مجموعة من العوامل، وبالتالي لا توجد أي ضرورة للتباكي على الإطلال التي تهدمت كما لو أنها عمارة كارتونية ! هذه الفقرة تريد أن تتساءل عن النتائج الفعلية لحصاد فترة الإنتقال نحو الرأسمالية في هذه البلدان، التي طبقت وبأشكال مختلفة، الوصفة الليبرالية الجديدة التي تطالب بالعودة الى " الأصول " من خلال تأسيس إقتصاد السوق العتيد . اليوم، إذن، وبعد ما يزيد على 10 سنوات من مرحلة انتقالية عاصفة، تبدو الكثير من الحقائق الجديدة عصية على الفهم والاستيعاب. تثار اليوم كذلك الكثير من الشكوك الجادة حول هذه التجارب وحول التحولات وهل أصبحت لا رجعة فيها، أي تحضى بقبول إجتماعي متنام أم العكس ؟ وقد أكدت نتائج العديد من الانتخابات التي جرت في هذه البلدان صحة تلك التحاليل " المتشائمة". غير أن الكثير من المحللين، عند تقيمه لنتائج تلك الانتخابات قد استخلص استنتاجات خاطئة ومتعجلة قوامها أن فشل القوى الماسكة بالسلطة، في هذه البلدان منذ عام 1989، وتقلص قاعدتها الإجتماعية يكمن في الحنين الى " الماضي". هكذا تختصر السيرورات الإجتماعية المعقدة والمتناقضة وما يرتبط بها من نتائج كارثية الى مجرد الحنين، أي مخاطبة اللاوعي لاستخلاص جواب على واقع " يتمرد " على صانعيه. ثمة العديد من الأسباب الجديرة بالتحليل التي أدت الى تغيير " مزاج " الناخبين، والتي يمكن تلخيصها في :
- الأسباب الإقتصادية، والتي تكمن باختصار، في التكاليف الهائلة للتحول transformation وما تركته من أثار مدمرة على قطاعات واسعة من السكان.
- الأسباب الإجتماعية، وأهمها التفتيت السريع للبنية الإجتماعية وإعادة بنائها من جديد، الامتيازات الاستثنائية للنخب القائدة الجديدة والمظاهر السلبية من قبيل الرشوة والدعارة والجريمة المنظمة والمافيا المنظمة، التي أصبحت مكونات أساسية في المشهد الإجتماعي في هذه البلدان.
- الأسباب السياسية، والمتمثلة في رفض الناخبين لأطروحات القوى الحاكمة حول ما يسمى بفك الشيوعية Decommunisation التي تذكر بالمكارثية السيئة الصيت، وكذلك الصراعات المحتدمة داخل الائتلافيات الحاكمة حول مختلف القضايا التي طرحها التحول المذكور وانعدام إجابات واضحة ومحددة وموحدة للقوى الحاكمة حولها.
وباختصار، يمكن القول أن الخلل يكمن في الانفصال بين الخطابات التي قدمتها القوى الجديدة في هذه البلدان وبين السياسات العملية الملموسة التي طبقتها والنتائج الفعلية التي ترتبت عليها.
وفي كل الأحوال فقد ترتب على المآل الذي وصلت إليه الأوضاع في هذه البلدان تنامي النقاشات والسجالات حول العديد من النقاط، من بينها:
• النتائج الفعلية لعمليات التحول التي جاءت مخيبة للآمال ومدمرة في ان.
• السياسات الإقتصادية والاجتماعية وموقع الدولة فيها. لقد ظل أنصار المذهب الليبرالي الجديد في البلدان الأوربية التي شهدت التحولات المذكورة أعلاه يرددون أطروحتهم الشهيرة، التي يمكن تلخيصها فيما يلي : سينتهي الركود بسرعة وستدخل فترة الانتعاش والنمو بأسرع وقت ... الخ. غير أن حصاد البيدر لا يتفق بالضرورة مع حصاد الحقل ! فقد ارتبطت عمليات التحول نحو الرأسمالية في هذه البلدان بالتكاليف الإجتماعية الهائلة وما أرتبط بذلك من نتائج سلبية. ويمكن بلورة أبرز المعالم في هذا المجال فيما يلي : مباشرة بعد تطبيق برامج التكييف الهيكلي وبنتيجة كبح الطلب، بدأ الإنتاج بالهبوط واستمر هذا الاتجاه بالتعزز في السنوات التالية. على سبيل المثال، عند تطبيق سياسة " العلاج بالصدمة " في روسيا في أوائل التسعينات من القرن العشرين، صرح أناتولي تشوبايس أحد منظري الخوصصة في روسيا بأن هدف عملية الخوصصة هو خلق " ملايين المالكين ". ولكن دعونا نتأمل بما حدث في الواقع :
- أسفرت " الإصلاحات " المزعومة عن فوضى إقتصادية شاملة. فبدلاً من ظهور " ملايين المالكين " ، كما زعم تشوبايس، ظهر عشرات الملايين من الجياع وانخفض الناتج الوطني الإجمالي من عام 1991 الى سنة 1998 بنسبة 50%، وبلغ الانخفاض في الصناعة 50% وفي الزراعة 60%.
- أدت الخصخصة الى عملية " لهف " هائلة للثروة الوطنية، ولم تؤدي هذه العملية الى ولادة طبيعية لطبقة رأسمالية، كما يروج منظروا المؤسسات المالية والنقدية الدولية، بل الى " تعيين " لرأسماليين جدد، أي نشوء رأسمالية طفيلية ونهابة في أن. فقد وزعت أهم أجزاء الملكية على فئة ضيقة من المرتبطين بالسلطة دون أن تطرح في مزايدات علنية أو توضع قواعد واضحة لإدامة وتطوير المشاريع المنقولة ملكيتها. لقد بيعت ممتلكات الدولة بأسعار بخسة، ويكفي فقط الإشارة الى أن أضخم مصنع لإنتاج سيارات " لادا " بيع بـ 44 مليون دولار فيما قُدرت قيمته الفعلية بـ 1,4- 1,6 مليار دولار.
- لقد أدى كل ذلك الى خلق شريحة ضئيلة من الأثرياء وطبقات واسعة من المدقعين، مما قاد في النهاية الى ازدياد التوتر الإجتماعي وارتفاع أعداد الفئات الهامشية والرثة، حيث تشكل نسبة الفئات التي تحيا دون حد الفقر أكثر من ثلث السكان تقريباً.
- ازدياد عبء الديون الخارجية، حيث تستهلك خدمتها فقط حالياً أكثر من 30% من ميزانية الدولة، ومن المتوقع أن ترتفع الى 70% في نهاية عام 2003.
- أدى تحرير حركة الرساميل ( طبقاً لإستراتيجية العلاج بالصدمة)، وتالياً السماح بحرية تحويل الروبل الروسي الى عملات أجنبية رئيسية من أهمها الدولار لتمويل نزوح الرساميل الروسية الى تفاقم نزوحها. فعلى سبيل المثال فقد قدر حجم الرساميل الروسية النازحة ما بين 1992 و 1994 بحدود مائة مليار دولار، بينما بلغ حجم الاستثمارات الأجنبية المباشرة في روسيا وحجم المساعدات الرسمية الغربية مقدار 19,4 مليار دولار خلال الفترة ذاتها، وهناك تقديرات تشير الى تهريب 450 مليار دولار بصورة غير شرعية خلال سنوات حكم يلتسين.
- ولكن على الجانب الأخر من المتاريس نشأت فئة من أصحاب المليارات تملك 70 – 80 في المئة من الدخل الوطني في حين لا تشكل سوى نصف من الواحد في المئة من مجمع السكان. إن هذه الشريحة الضيقة التي حصلت على امتيازاتها من يد السلطة بدأت تطمح الى دمج الثروة والنفوذ السياسي فقاد ذلك الى نشوء " طبقة اوليغارشية " شبيه بتلك التي عرفتها مصر أثناء " الإنفتاح الساداتي " أو التي تكونت في إندونيسيا أو كوريا الجنوبية.
• اقترنت عمليات التحويل القائمة على مبدأ الكفاءة الإقتصادية فقط ( وهو ما يروج له السيد بريمر في مشروعه الاقتصادي الحالي) بظهور وتنامي البطالة بوتائر و مديات واسعة حتى أصبحت إحدى أهم بؤر التوتر الإجتماعي الذي يهدد النظام القائم. تشير المعطيات الإحصائية الرسمية الى أن هناك الأن حوالي 30 مليون عاطل عن العمل. وفي ظروف الاوضاع الاقتصادية الكارثية الراهنة في بلادنا حيث البطالة قد بلغت حدودا مخيفة فإن سؤالا بسيطا يطرح نفسه وهو كيف ستكون اللوحة الاجتماعية لو طبق برنامج السيد بريمر القائم على " مبدأ الكفاءة الإقتصادية " فقط ؟
• حدوث هبوط كبير للدخول الحقيقية للسكان وكذلك تردي مستويات معيشة الجزء الأعظم من السكان. وهناك في روسيا اليوم حوالي 80 مليون مواطن ( من أصل 146 مليون وهو عدد سكان روسيا الاتحادية) يعيش على حافة الفقر. حدث هذا من خلال تغيير أساسي لعلاقات التوزيع، هذا المتغير المستند والمعتمد على اصطفاف واختلال عميق للثروة والدخول.
• أدى الإنفتاح الزائد للإقتصاد الى الخارج، وفي ظروف كبح التضخم وعدم التهيئة المسبقة لمثل هذه الخطوة ( الإنفتاح) الى " ضربة قاتلة " للعديد من الفروع الإنتاجية التي لم تكن مهيأة للمنافسة مع السلع المستوردة.
• أصبح الوضع المالي المتردي للمؤسسات الحكومية عاملاً أو سبباً رئيساً من أسباب هبوط موارد الميزانية العامة، مما أدى الى تنامي العجز في الميزانية، الذي كان أصل مرتفعا.
• وقد أدى العجز المذكور، ونتيجة له، الى بروز أزمة حادة في حقل الخدمات الإجتماعية الممولة أساساً من ميزانية الدولة ( التربية، العلوم، الرعاية الصحية .... الخ)، وبالتالي تقلص هائل في هذا المجال، بكل ما يرتبط من نتائج كارثية.
• بنتيجة الركود الطويل للإنتاج المرافق لأزمة تحويل البنى الإقتصادية برزت ضرورة القيام بـ " عاصفة منظفة " أي تدمير وتفكيك الجهاز الإنتاجي باسم معيار الفعالية الإقتصادية.
• تنامت وتوطدت العديد من أشكال الباتولوجيا الإجتماعية، على سبيل المثال نمو الجريمة المنظمة، الدعارة، الرشوة، المافيا المنظمة ... الخ. على سبيل المثال لا الحصر، تلعب المافيا دوراً مركزياً في الرأسمالية الروسية. وبحسب تقديرات الشرطة الروسية هناك حوالي من 9000 الى 10000عصابة منظمة للمافيا تشرف على نشاط أكثر من 400000 مؤسسة، من بينها 450 بنكاً، وتمثل الأغلبية في هذا القطاع.
ومن الطبيعي أن يتحدث الخطاب السائد عن هذه النتائج المرافقة لهذا التحول ولكنه يعتبرها " تضحيات ضرورية ولكنها مؤقتة فقط " ! فيدعي أنها تضحيات ضرورية من أجل إعادة بناء هياكل فعالة ستتيح تنمية مستقلة. بيد أن التجربة التاريخية تشير الى أن الخضوع الأحادي الجانب لمنطق الربحية يضع المجتمعات في حلقات انكماشية لن تجد لها حلاً من تلقاء نفسها، بل من خلال صدمة خارجية تهز منطق سيادة الربحية وتضع حداً له. ومن بين أسباب تلك الصدمات نشير هنا، على سبيل المثال لا الحصر، الى انقلاب موازين القوى الإجتماعية الذي يفرض تعديلاً في توزيع الدخل، أو الدخول في حروب أو التهيئة لها، أو فتح مجالات جغرافية جديدة للتوسع الاستعماري، أو تبلور موجة من الثورات التقانية.
وباختصار، ثمة تكاليف اجتماعية هائلة ترافق عمليات التحول. السؤال الذي يطرح نفسه بحدة هو : هل أنه يتوجب اعتبارها حتمية، أم لا ؟
يدعو أنصار " السلفية الإقتصادية الجديدة " آلي أنه يتعين تكييف الإقتصاد، في مرحلة الإنتقال، لمتطلبات الفعالية الإقتصادية العالية وبالتالي يتوجب القبول بالتكاليف الإجتماعية المرتفعة وكأنها أمر طبيعي، تحصيل حاصل لهذه العملية " الهائلة "، كما جرت الإشارة إليه أعلاه.
غير أنه يتعين التأكيد على خطأ مثل هذا الطرح، لأن التكاليف الإجتماعية الهائلة للتحول المذكور لا يجوز إهمالها لعديد من الأسباب، من بينها :
• الإقتصاد كما هو معروف يجب أن يخدم المجتمع ويرعى تطوره، بالرغم من طبيعة القوى المسيطرة. وإذا فهمت السوق، ليست كهدف بحد ذاته، بل كوسيلة أو أداة لرفع الفعالية الإقتصادية ( ليست الأداة الوحيدة طبعاً) فإن التحويل يمكن أن يتطلب تنامياً لتكاليف معينة، لكن لا ينبغي أن يؤدي ذلك إلى انخفاض مريع للإنتاج والى تنامي البطالة بمديات واسعة تضع كل عملية التحول موضع تساؤل.
• إن تردي مستويات معيشة جزء هام من المجتمع وما يرتبط بها من فقدان الثقة بالمستقبل والأفاق التنموية، يؤدي الى تنامي التوترات الإجتماعية وما يرافقها من تقلص الدعم الإجتماعي لعمليات التحول، مما يضع موضع المساءلة إمكانيات استمرارها أصلاً.
لقد أكدت تجربة " البلدان الإشتراكية " حقيقة مهمة وهي أن خيار الديمقراطية الإجتماعية بغض النظر عما إرتبط به من مزايا إجتماعية واسعة، ولكنه مقطوع الجذور عن الديمقراطية السياسية بمعناها المعروف، إنما أنتج وقاد الى ديكتاتورية الطبقة وديكتاتورية الحزب القائد ودكتاتورية سكرتيره العام ! في حين أن تجربة التحول في هذه البلدان نحو الرأسمالية التي روجت لشعارات الديمقراطية السياسية المقرونة بليبرالية إقتصادية، أي المفصولة عن الجوانب الإجتماعية قد أدت الى أثار إجتماعية مدمرة وخراب اقتصادي، أي الى توسيع دائرة البؤس وإعادة إنتاجه بشكل موسع. وقد أكدت هذه التجربة أن الديمقراطية السياسية المفصولة عن الحقل الإجتماعي تنتج الإستقطاب الإجتماعي بكل ما يترتب عليه من أثار ونتائج. ويبدو من وصفة السيد بريمر لحل الازمة البنيوية والتي أكد فيها على أنه وبرغم مصاعب عمليات الانتقال الى اقتصاد السوق في العراق ( لكننا نمتلك الخبرة من البلدان الاشتراكية السابقة وتحليلا لنجاحات البلدان الرأسمالية، لاغناء منظورنا)، أن هناك " رهانا " مقصودا على عدم الاستفادة من الدروس المستخلصة من تجارب الاخرين. وفي ظروف الكارثة الاقتصادية الراهنة فإن تطبيق هذه الوصفة لن ينتج سوى الإستقطاب الإجتماعي بكل ما يترتب عليه من أثار ونتائج مدمرة.
10. أما على صعيد " البلدان النامية " ومنها العديد من البلدان العربية فقد قاد تطبيق برامج التكييف الهيكلي تحت حراب المؤسسات المالية والنقدية الدولية الى طائفة من النتائج الفعلية يمكن بلورتها في :
- لم يحدث أي تحسن جذري في الاوضاع الاقتصادية لهذه البلدان عموما بما يدفع عجلة الاقتصاد الى الامام. فقد بقي النمو الاقتصادي ضعيفا، اما ديناميكية الاقتصاد فقد ظلت مرتبطة بصادرات القطاعات المنتجة للمواد الاولية والخامات ( النفط والغاز ... الخ) والمنتجات الزراعية، كما بقي الاستثمار الاجنبي ضعيفا على العموم.
- أما على المستوى الاجتماعي فكان لهذه البرامج انعكسات سلبية واضحة. فمع تصاعد البطالة وخصوصا في اوساط الشباب لوحظ تدهور كبير للظروف المعيشية لفئات اجتماعية كبيرة. وهكذا اصبحت البطالة والتهميش الاجتماعي أهم مظاهر الحقل الاجتماعي في هذه البلدان، وبصفة خاصة في المدن وفي اوساط الشباب.
- ومن جهة أخرى، أدى رفع الدعم عن طائفة واسعة من السلع الاستهلاكية الاساسية الى تعاظم مستويات الفقر وتدهور ملحوظ في الظروف المعيشية للطبقات الشعبية وحتى " الطبقات الوسطى ". وقد ارتبط ذلك بظهور ونمو الحركات الاجتماعية والانتفاضات الشعبية العفوية ضد سياسات صندوق النقد والبنك الدوليين، في عدة بلدان.
- وقد ساعدت هذه الاوضاع الاجتماعية الحركات المعارضة وخاصة الحركات الدينية التي وجدت فيها – أي تلك الاوضاع – القواعد المستقرة للدخول في مواجهات واسعة، بعضها مسلح، مع الاجهزة الحكومية في العديد من البلدان.
- أدى تطبيق هذه الوصفة كذلك الى تدهور الموازين العامة، ونمو كبير للمديونية الخارجية لهذه البلدان كمظاهر لأزمة نمط التراكم الانفتاحي والمرتبط بالسوق الرأسمالية العالمية.
- ومع تفاقم حدة الازمات الاقتصادية وتصاعد حدة المواجهة، تعاظم الاستقطاب السياسي وقابله انسداد الافق السياسي أمام تحولات جذرية بدأً من اكتساب العمليات الديمقراطية طابعا شكليا. وقد تمثل احد معالم الاستقطاب السياسي بتنامي قوة ونشاط قوى الاسلام السياسي مقابل تراجع وتهميش ملحوظ للقوى الديمقراطية في الساحة السياسية.
- وبنتيجة هذا الوضع فقد عرف المجال السياسي صراعا بين مختلف القوى السياسية : فالسلط الحاكمة من ناحيتها عملت على تجاوز الازمة الاقتصادية الاجتماعية واعادة بناء مشروعيتها، والمعارضة الديمقراطية سعت الى فتح المجال السياسي ودمقرطة الممارسة السياسية والنضال للتغلب على شكليتها، في حين سعت قوى الاسلام السياسي والمعارضات " الاسلامية " عموما من وراء نقدها وممارساتها على الارض الى نفي جوهر أي مشروع تحديثي يعمل على فصل السياسي عن الديني. وتتميز الساحة السياسية اليوم في العديد من البلدان العربية المطبقة لهذه الوصفة بتحجيم الحركات الدينية نظرا للجوء اطراف منها الى خيار العنف المسلح، وبتهميش المعارضة الديمقراطية، وبالمقابل يلاحظ سيطرة الدولة من جديد على الحياة السياسية والاقتصادية/الاجتماعية.
12. يسمح التأمل العميق في الاصول الفكرية التي ترتكز عليها ايديولوجيا ليبرالية التكييف وقراءة ما طرحه السيد بريمر بالاستنتاج بأن الاهداف الفعلية للمشروع الاقتصادي الذي طرحه يمكن بلورتها في :
أولا : خلق جيش احتياطي متزايد من البطالة وتنميته باستمرار في بلادنا لضمان خفض معدلات الاجور الحقيقية وتوفير عنصر العمل الرخيص أمام الشركات الامريكية والمتعدية الجنسية التي بدأت تباشر دورها في ضمن متطلبات " المرحلة الانتقالية ".
ثانيا" : " طرد " الدولة (علما بأن الدولة تم تصفيتها من طرف سلطة الاحتلال) من الحقل الاقتصادي وابعادها كلية عن اليات السوق مما يفتح الطريق أمام رؤوس الاموال الاجنبية لفرض هيمنها من مواقع قوية، على النشاط الاقتصادي المحلي.
ثالثا : العمل على التدمير المنتظم والتدريجي للطاقات الانتاجية المحلية من خلال ارغام البلاد على انتهاج مبدأ " تحرير التجارة الخارجية " وأساسا تجارة الاستيراد، مما يساعد على غزو السلع القادمة من البلدان المتطورة وخصوصا من الولايات المتحدة وبريطانيا ومنافستها للسلع المحلية، التي تمتاز اصلا بقدرة تنافسية ضعيفة مما يؤدي الى تدمير الصناعات المنتجة لتلك السلع، على الصعيد المحلي.
رابعا : العمل على توفير رصيد كاف من العملات الصعبة ليس بهدف تمويل عملية التنمية ولكن اساسا لتمويل تحويلات أرباح ودخول الشركات المتعدية الجنسية العاملة في بلادنا وهي تطبق وصفة السيد بريمر، اضافة لتمويل واردات البلاد وكذا تمكين السلطة الجديدة من تسديد التزاماتها الناجمة من عبء المديونية الخارجية أساساّ.
خامسا : التأثير في العلاقات الاجتماعية المحلية من خلال العمل على " خلق " فئات اجتماعية تستفيد من حزمة السياسات التي يتضمنها مشروع السيد بريمر. إن التطبيق " الناجح والمضمون " لهذا المشروع يستحث، من بين أمور عديدة، تفكيك التحالفات الاجتماعية " التقليدية " والعمل على خلق الشروط لنشوء وتطور تحالفات اجتماعية جديدة، تتضمن تلك القوى الاجتماعية التي تدافع عن تلك الحزمة من السياسات الجديدة وتكون اساسا أو قاعدة متينة للسلطة الجديدة ولها مصلحة فعلية في استمرار تنفيذ " استراتيجية الانتقال " بحسب وصفة السيد بريمر.
الخلاصة وبعض السيناريوهات/المشاهد السياسية
أن ثمة لحظة تاريخية حاسمة قد حلت في بلادنا وهي تطبق مشروع السيد بريمر ويتعين ابرازها، وتتجلى في حقيقة صارخة قوامها أن قضايا صنع السياسات الاقتصادية/الاجتماعية وتحديد أفاق التطور اللاحق تكون قد خرجت من قبضة القوى الاجتماعية المحلية، وبات اقتصادنا منذ هذه اللحظة يخضع الى " قيادة مركزية خارجية "، أي الى المستوى الدولي ممثلا بمستوى المنظمات الاقتصادية الدولية ومانحي القروض والمستثمرين الاجانب والشركات الاحتكارية المتعدية الجنسية.
خطة السيد بريمر، إذن، تمثل تجسيدا محلي لما سبق أن روجه فوكوياما عن " نهاية التاريخ " و " نهاية الايديولوجيا " حيث الديموقراطية السياسية والليبرالية الاقتصادية المآل الأخير للعراق، كما هو للبشرية !!.
ويبدو أن مشروع السيد بريمر يهدف الى أن يكون بمثابة الاطار النظري للمشروع " التاريخي " الذي يسعى التحالف الاجتماعي الجديد الذي تشكل على خلفية الحرب والاحتلال، لتوطيد مواقعه والتطلع نحو الاندماج في النسق الرأسمالي العالمي والحصول على موقع محدد في تراتيبية هذا النسق البالغ التعقيد.
واذا تحقق هذا المشروع فإننا سنكون أمام عملية تهميش اجتماعية واسعة، وسوف تكون عاملا رئيسيا من عوامل بروز الاتجاهات الراديكالية بما في ذلك بروز الايديولوجيات المعادية للديمقراطية والتي ستتخذ تنويعات مختلفة، بما في ذلك تعاظم النزعات الاصولية، حيث الاصولية من هذا الجانب ما هي الا تعبير ايديولوجي عن الاقصاء والتهميش الذي عانته وستعانيه هذه القوى المهمشة سياسيا واقتصاديا. إن " مجتمع التهميش " يتكون سوسيولوجيا من كل المبعدين عن العملية الانتاجية والاستهلاكية كذلك (بفعل البطالة الراهنة واللاحقة عند تطبيق مشروع السيد بريمر)، ويضم فئات اجتماعية سيزداد حجمها باستمرار. وفي حال عدم قدرة القوى السياسية، وخصوصا القوى الديمقراطية واليسارية تحديدا، من الوصول الى هذه القوى المهمشة وتنظيمها وتأطيرها وبلورة الشعارات المناسبة والصحيحة لاجتذابها الى النضال المطلبي والسياسي الصائب، فإن هذه القوى قد تقع تحت تأثير قوى الاسلام السياسي والاحزاب والتيارات الدينية الراديكالية، شيعية أم سنية، مما يشكل خطرا حقيقيا على مسار التطورات السياسية اللاحقة.
من المفيد الانتباه الى اشكالية هامة وهي أن التعددية السياسية الناشئة اليوم في بلادنا على انقاض النظام الدكتاتوري وسلطة الحزب الواحد و " القائد " الاوحد، قد أفرزت في الواقع مجالين سياسيين مختلفين. المجال الاول وهو ما يمكن تسميته بالمجال الديمقراطي يضم مجموعة واسعة من الفاعلين السياسيين ( احزاب وقوى سياسية واجتماعية متنوعة) تكّون ما يمكن تسميته بالمجتمع المدني، أما الثاني فهو المجال الديني. منعا لأي التباس لابد من التأكيد على أن هذين المجالين يعتمدان في تصنيفهما على مقاييس ثقافية/سياسية رمزية فلكل مجال رموزه ورجاله وتواريخه واشكاله السياسية التعبيرية ومطالبه وتطلعاته واهدافة المختلفة.
استنادا الى قراءة ولو جزئية للخريطة السياسية والاجتماعية التي أفرزتها الحقبة الجديدة، ومن خلال متابعة النشاطات السياسية المتنوعة منذ سقوط النظام الدكتاتوري ودخول قوات الاحتلال الامريكي –البريطاني الى بلادنا وتشريع هذا الاحتلال بقرار مجلس الامن الدولي 1483، ينطرح السؤال التالي : ما هي التحالفات الاجتماعية- السياسية الممكنة في المستقبل المنظور في بلادنا عند تطبيق مشروع السيد بريمر وفي ظل استمرار الاحتلال ؟
ابتداء لابد من التأكيد على انه في ظل الوضع الاقتصادي الكارثي الذي تعيشه بلادنا اليوم والذي تكون له نتائج اكيدة على الوضع الاجتماعي والسياسي، وفي ظل الازمة السياسية الخانقة التي تفاقمها ممارسات سلطة الاحتلال باصرارها على اقصاء القوى السياسية العراقية عن دائرة القرار، وتأخير عقد المؤتمر الوطني وتشكيل حكومة وطنية انتقالية عريضة، فإن التنبؤ واستشفاف مستقبل الوضع ليس بالامر الهين. وبرغم كل التحفظات يمكن بلورة السيناريوهات/المشاهد المحتملة التالية، دون انكار حقيقة وجود سيناريوهات اخرى طبعا.
1. السيناريو الاول، وهو سيناريو السكون والمراوحة واستمرار الاوضاع المتأزمة سياسيا واقتصاديا، وتمسك سلطات الاحتلال بمنطق فهمها لتسيير المرحلة الانتقالية، وعدم تعاملها الجدي مع الاشكاليات التي يطرحها تطور الوضع وخصوصا تعاملها مع قوى النظام المقبور، اضافة الى رهانها على تنفيذ مشروعها الاقتصادي بأسرع وقت عبر تطبيق استراتيجية " العلاج بالصدمة " دون حساب للنتائج والتكاليف الفعلية المرافقة له. هذا الاحتمال - عدم القطيعة الجذرية مع تركة النظام المقبور، وتهميش القوى السياسية صاحبة المصلحة الحقيقية في التغيير، وتطبيق استراتيجية خلق القوى الاجتماعية " الجديدة " بقوة المدفع- معناه ببساطة شديدة التوجه أكثر فأكثر نحو توتير العلاقات الاجتماعية السياسية واللجوء الى خيارات عنفية. واذا اخذنا بنظر الاعتبار تجربة العقود الاخيرة وممارسات النظام المقبور القمعية التي سدت كل الطرق أمام الخيارات السلمية، وممارسات سلطة الاحتلال وخياراتها الخاطئة عموما لحل المشكلات التي طرحها انهيار النظام المذكور، فإن هناك احتمال عدم استقرار سياسي واجتماعي كبيرين خاصة، كما أن سلطة الاحتلال ستلجأ على ما يبدو الى الاصرار على تعميق الاستقطاب الاجتماعي والتهميش عبر تطبيق برنامجها الاقتصادي الذي يشكل جزءً عضويا من استراتيجية التحويل المطبقة في بلادنا، من طرف هذه السلطة. إن هذا الوضع اذا ما تأكدت ملامحه فسيعني عدم الاستقرار الذي يؤدي في الغالب الى احتمالين لا ثالث لهما : أما مواصلة تردي الوضع الاقتصادي والاجتماعي السياسي، وبالتالي عدم استقرار اكثر وتنامي الفوضى، الامر الذي سيدفع سلطة الاحتلال الى إيقاف العملية السياسية الهشة وشطب الجميع من اجندتها وادارة البلاد بالوسائل العسكرية الصرفة. ومن بين ما قد ستقوم به هو تشديد الضغوطات على القوى السياسية وتهميشها بشكل متواصل ومخطط، بما في ذلك تصعيد عملياتها الاستفزازية لبعض القوى باللجوء، على سبيل المثال لا الحصر، الى تنظيم حملات اعتقال محدودة في البداية (قد تتطور الى حملات واسعة لاحقا ارتباطا بتطورات الاوضاع) ومداهمات لمقرات الاحزاب وتقنين عمليات التظاهر والفعاليات الجماهيرية، أو تمهيد الطريق أمام السيناريو الثاني.
2. السيناريو الثاني. قد تؤدي تطورات الاوضاع والضغوطات الفعلية المرافقة لها الى قيام سلطة الاحتلال بإجراء تغييرات في اجندتها الفعلية بـ " الالتفاف " على قرار مجلس الامن 1483 من خلال منح بعض الصلاحيات المحدودة للسلطة الانتقالية العراقية والمجلس السياسي أو أية صيغ اخرى، بل حتى امكانية طرح مبادرات وصيغ وحلول " جديدة " يتعين دراستها بدقة لكشف جوهرها ومضامينها الفعلية. من المفيد التأكيد هنا على حقيقة أن البعض من تلك المبادرات والصيغ قد يكون هدفه الاساسي احداث استقطاب في أوساط الاحزاب والقوى السياسية العراقية، وبالتالي امكانية نشوء تحالفات سياسية جديدة بما في ذلك توسيع إطار تحالف القوى المؤيدة لسلطة الاحتلال.
3. السيناريو الثالث وهو السيناريو الاكثر تفاؤلا ولكنه الاشد صعوبة في التحقيق لأنه يفترض القطيعة مع المنطق السياسي والاقتصادي السائد حتى الان، كما يتطلب كسر القطبية الثقافية السياسية السائدة اليوم. يتطلب هذا السيناريو كذلك انجاز المرحلة الانتقالية بسرعة وتشكيل الحكومة الانتقالية واجراء اصلاحات اجتماعية سياسية عميقة وبناء دولة ديمقراطية عصرية. ولابد هنا من التأكيد على أهمية انبثاق تحالف جديد بين المجال الديمقراطي الذي يضم مجموعة واسعة من الفاعلين السياسيين ( احزاب وقوى سياسية واجتماعية متنوعة) التي تكون ما يمكن تسميته بالمجتمع المدني، وبين عالم التهميش المبعد عن العملية الانتاجية والاستهلاكية لإبعاده – كقوة اجتماعية – عن الغلاف الايديولوجي السياسي الذي استطاع الاستحواذ على قطاعات واسعة منه لأسباب عديدة تحتاج الى عمل جماعي للكشف عنها. ولكي يتحقق هذا التحالف لابد ان يتم في اطار تفكير سياسي جديد يعيد النظر كذلك في الاشكال التنظيمية ووسائل العمل السياسي. ولكن الواقع يشير الى ان تحقق هذا السيناريو سيكون صعبا وبعيد المنال، على الاقل في المدى المنظور.
ثمة على ما يبدو قاعدة عريضة من الطبقات والفئات الاجتماعية التي سيهمشها مشروع بريمر، تحتاج اليوم الى صياغة مشروعها النقيض. ولعل هذا يرتبط بسؤال بسيط ولكنه مهم وهو : هل يمكن التخلص من هيمنة ايديولوجيا وسياسات التكييف الهيكلي ونفي التبعية وتجاوز التهميش الاجتماعي وتحقيق التقدم الاقتصادي والعدالة الاجتماعية ؟
في مسعى الاجابة على هذا السؤال، يبدو أننا مضطرون من جديد للتحاور حول قضايا " قديمة "، كنا نعتقد أننا تجاوزناها من زمان بعيد، لكن للتاريخ خيباته التي لا ترحم.
ما المطلوب منا كحزب في مثل هذه الظروف ؟
أزعم أن قضية من هذا النوع تحتاج الى جهود كبيرة يندمج فيها السياسي بالفكري، النضالات المطلبية بالتحالفات الملموسة على الارض، ولكن من الممكن اعمال العقل الجماعي للتفكير في طائفة من القضايا من بينها :
1. نحتاج الى تحديد موقف من المشروع الاقتصادي للسيد بريمر. طبعا هنا لا بد من التميز بين الحقل السياسي والحقل الفكري. على الصعيد السياسي لابد من الاشارة الى المشروع في مقال افتتاحي أو مقال في مكان ما من (طريق الشعب). أما على الصعيد الفكري نحتاج الى تنشيط النقاش بصدد مختلف جوانب هذا المشروع والخيار الامريكي بشكل عام، سواء على مستوى (لعف) أو على (الثقافة الجديدة) كأن يتكرس محور (أو محاور) في أحد أعدادها للحوار حول هذه القضايا.
2. نحتاج الى دراسات خاصة بالبلدان التي طبقت وصفة المؤسسات النقدية والمالية الدولية وشرح مبسط للاشكاليات المرتبطة بالخصخصة ونتائجها الاجتماعية الاقتصادية الفعلية، بهدف أن تتوضح الصورة لقطاعات عريضة قد تقع تحت وهج الوعود بـ " الجنة الموعودة " والقبول بمكاسب قصيرة المدى واهمال أو التقليل من الأثار الاجتماعية/الاقتصادية الكارثية على المديين المتوسط والبعيد المدى.
3. في حال حقق مشروع السيد بريمر فرصة التطبيق الفعلي، وهو على ما يبدو سيتم فرضه بقوة المدفع إن تطلب الامر ذلك، فيعني أن هناك حاجة لإعادة النظر في أولويات برنامجنا الاقتصادي وإعادة ترتيب أولوياتنا في هذا المجال وفي المجال الاجتماعي بشكل عام، والسعي لصياغة مهام وشعارات مطلبية جديدة، وبلورة القوى الاجتماعية، وصياغة التحالفات الكفيلة بتحقيقها. وهذا يرتبط طبعا بتحديد طبيعة المرحلة الراهنة وتناقضاتها الفعلية بدأ من تشخيص تناقضها الاساسي وتحديد تناقضها الرئيسي.
27/6/2003
* هذا المقال عمره 12 عاما فقد نشر اولا في جريدة " طريق الشعب"، العدد 22/السنة 68، 20-26/تموز 2003، الملحق الاقتصادي للعدد ذاته.
ونعيد نشره هنا بمناسبة مرور 12 عاما على "عاصفة الحرب والاحتلال" ونتائجها الملموسة للتدليل على ان التاريخ لا يمكن أن يكون شاهد زور.