مدارات

تاريخ حافل من أجل حقوق العمال وحرية التنظيم النقابي

 مصطفى محمد غريب
مقدمة
الرفيق فخري بطرس " أبو عمار " غني عن التعريف فهو المناضل والعامل الميكانيكي الذي تربى منذ نعومة أظافره في بيت عمالي وهو ينحدر طبقياً من عائلة عمالية حيث كان والده ميكانيكي سيارات، ولهذا ومنذ صغره كان شعوره الطبقي يلازم حسه الوطني وقد تحسس منذ البدء بمعاناة العمال والكادحين وغرزت فيه أسسا وطنية جياشة غرزها والده وآخرون بشعور وطني وطبقي، ولهذا فلقد أدى وعيه بمعاناة العمال إلى انتمائه للحزب الشيوعي بعد أن اطلع على أهداف الحزب كونه حزب الطبقة العاملة العراقية، ومنذ صغره عمل في التنظيم النقابي العمالي بشكل سري ?علني، ولهذا جابه أبو عمار الاعتقال والسجن والإبعاد والإقامة الجبرية في العديد من المرات وآخرها حكم عليه بالإعدام وأطلق سراحه بعد ذلك ، لكنه ترك بلده هارباً من بطش وإرهاب الحكم البعثي .
العزيز أبو عمار لا نريد أن نقدم لك أسئلة لكي نحصل على اجوبة امتحانية بل رؤيا لمجرى النضال لكي نستفيد وقراء طريق الشعب والعمال في العراق من التجربة الخاصة والعامة، إن تاريخ المناضلين الثوريين دروس للأجيال القادمة...
في البداية رفيقنا العزيز بمناسبة الأول من أيار كل عام وأنت والعائلة والطبقة العاملة وشغيلة اليد والفكر بخير وتمنياتنا من اجل انتصارات على المستويين الوطني والطبقي ولأجل توحيد الجهود لوحدة العمل النقابي لتحقيق الحقوق المشروعة؛ ولهذا نلخص طلبنا بالسؤال أدناه
العزيز أبو عمار هل بالامكان أن تخبرنا عن محطاتك النضالية العمالية والنقابية بمناسبة عيد العمال العالمي؟
أبو عمار: اتاحت لنا ثورة 14 تموز 1958 الاحتفال بأول أيار عيد العمال بشكل رسمي وعلني وأصبح كالعطل الوطنية بينما كنا في السابق نحتفل بسرية تامة. ومضى يقول:
منذ صباي تأثرت سياسياً بالحزب الشيوعي العراقي والحركة الوطنية وذلك بسبب ترددي على كراج " سعيد زاره " حيث كان والدي يعمل " كأسطة " ميكانيكي ومعه العديد من العمال أبرزهم " جوزيف " وهو ابن عم نوري روفائيل ومعه عاملان " سليم وإسماعيل " ، البيت الذي كنت اسكنه كان قريباً من مكان عمل والدي وكنا أنا وأخي في مدرسة " باتري بير "وهو قس فرنسي يدير الكنيسة التي تشرف على حضانة وروضة وابتدائية.. كان الكراج يتردد عليه الرفيق " فهد " ونوري روفايل وجميل توما وآخرون ، أحياناً كانوا يجتمعون في إحدى غرف الكراج وكانت الغرفة تحتوي على ماكنة طباعة " رونيو يدوية ". كان العمال الذين ذكرتهم يوزعون البعض من المنشورات وعلى ما أتذكر فقد شاركتُ بالتوزيع مرة واحدة وعمري لا يتجاوز 11 عاماً، أثناء تلك الفترة حدثت الكثير من التغييرات بالنسبة لوالدي وبخاصة الاعتقالات في عهد ياسين الهاشمي وفي مجال العمل حيث انتقل الوالد إلى كراج أخر يسمى " كراج تاش " وهو كراج تجلب إليه قطع سيارات أمريكية وتجمع وتباع كسيارات متكاملة. كان صاحب الكراج لبناني الأصل يلقب " أبو خاطر " واكتشف والدي أن راس المال كان " يهودياً ـ صهيونياً " وهذا الرجل صديق مقرب إلى نوري السعيد فقام الوالد بترك العمل والانتقال إلى مدينة الفلوجة ثم انتقل بعدها إلى قاعدة الحبانية والذي تسمى شعبياً " سن الذبان " حيث كان له أصدقاء أثوريون توسطوا له فعمل فترة في القاعدة الإنكليزية، وفي عام 1938 عاد والدي إلى الموصل وعمل في السكك الحديد التي كانت تبدأ من بيجي إلى الحدود السورية " تل كوجك". في هذه الفترة وأنا مستمر في المدرسة عملت مع الوالد في الكراج الواقع في مدينة الموصل الذي اسمه كراج " باب الجسر" وتحولت إلى الدراسة المسائية حتى الصف الثالث المتوسط. تركت المدرسة وبدأت العمل وسط العمال حيث بدأت مداركي تتوسع ووعيي الطبقي يتبلور من خلال حياتهم ومعاناتهم ومطالبهم وبخاصة أثناء إضراب " كاورباغي "في 4 تموز 1946 كركوك حيث كان أخي صبري احد قادة الإضراب. وفي 12 تموز 1946 كانت مذبحة كاورباغي حيث استشهد " 10 عمال و 27 جريحاً" هذه الأوضاع أثرت على حياتي وعلى العمال
وتابع أبو عمار: في أواسط 1946 انتميت إلى حزب التحرر الوطني وعلى ما أتذكر فقد قمت بتوزيع بيان لإدانة " وعد بلفور" وتضامناً مع الشعب الفلسطيني، كما أقمت علاقة مع احد العمال واسمه محمود الميكانيكي وكان نشطاً من اجل الحركة النقابية وبعد التفاهم اتفقنا مع عمال آخرين على تقديم طلب لإجازة نقابة لعمال الميكيانيك لكن المسؤولين والشرطة هددونا ومنعونا فتراجعنا عن الموضوع لعدم وجود حشد عمالي واسع إلا أن نشاطنا بقى بين العمال ولكن بشكل سري.
في نقرة السلمان
ثم كانت وثبة كانون 1948 وبعد التظاهرات والحوادث السياسية العديدة أدت على أثرها إلى اعتقالات ومحاكمات كثيرة وكان نصيبي المحكمة في كركوك وكان المحامي مكرم الطالباني يدافع عني فأطلق سراحي بكفالة إلا إنه بعد شهرين أصدر الحاكم العسكري في كركوك للمنطقة الثانية حكماَ باعتقالي وتسفيري من الموصل إلى منطقة " نقرة السلمان " وكنت في البداية مرتاحاً لهذا المكان لأنني لا اعرف جغرافية العراق وتصورت حينها أن هذا المكان هو " سلمان باك ".. وصلت إلى سجن نقرة السلمان في 12 تموز 1948 ودخلت إليه كأول عامل شيوعي، وبعد شهر جاء معتقل ثان لكنه من الحزب الديمقراطي الكردستاني وهو من كركوك واسمه على ما اذكر "ملاّ جميل الروجياني " ، بعد ستة شهور وصلت وجبة من المعتقلين عددهم ثلاثة وهم " الرفيق حمزة سلمان ، وإبراهيم وعلي الناصر، وجاسم القيسي " وبمرور الوقت وبعد عام ونصف وصل عدد المعتقلين إلى (75) معتقلاً .
اعدام قادة الحزب
في أواسط شباط 1949 تم إعدام الرفاق فهد و حازم و صارم في ساحات بغداد. أما الرابع فكان من الرفاق اليهود واسمه " يهوذا حسقيل ويلقب أبو دارم". في تلك الفترة 1949 بدأت الحكومة بتوسيع سجن نقرة السلمان وبعد انتهاء البناء وتوسيع القلعة جاءت وجبة من المعتقلين تتكون من ( 37 ) رفيقاً وصديقاً وعلى رأسهم المحامي المعروف سالم عبيد النعمان لقد اضربنا عن الطعام وكان مطلبنا الوحيد دفع مخصصاتنا كمعتقلين سياسيين وليس سجناء عاديين وقد نفذ طلبنا. في عام 1951 أقيمت ضدي دعوى لضرب احد أفراد الشرطة لأنه كان يشتم الشيوعيين والرفيق فهد وحينها سفرت إلى (أبو غريب) للمحاكمة ولم تثبت التهمة وعدت بعدها إلى نقرة السلمان. في بداية عام 1952 أطلق سراحي حيث ألغيت المجالس العرفية .. لكن في العام نفسه وقعت انتفاضة 1952 واعتقلت ثانية وسفرت إلى بغداد وأدخلت إلى معتقل الرستمية جنوب بغداد وكان معنا من الأحزاب الأخرى محمد حديد " وآخرون.
الشهيدة ثائرة
بقيت مع كل العمال الذين كانوا ينشطون من اجل كيانات نقابية عمالية نعمل بدون كلل أو ملل وفي حينها وفي عام 1954 تزوجت من مناضلة شاركتني حياتي المليئة بالصعوبات والاعتقالات والسجون وحتى الإعدام وكانت معي ولحد هذه اللحظة سنداً يقوي عزيمتي وصمودي ثم رزقت بفتاة سميتها ثائرة وللعلم فقد استشهدت ثائرة في لبنان بتاريخ 17 /تموز/ 1981 على أثر غارة لطائرات إسرائيلية حربية.
لقد بقيت مع زوجتي في خضم النضال العمالي النقابي ولقد اتفقت مع ( 15 ) عاملا والبعض من النشيطين لإقامة النقابات العمالية وبهذا الصدد فقد قمنا بكتابة بيان نقابي موجه إلى العمال في كافة المهن الخاصة أو العاملين في قطاع الدولة وبخاصة النفط في عين زالة ندعوهم إلى تشكيل نقابات تدافع عنهم وعن حقوقهم وأدى هذا النشاط إلى انبثاق كوادر عمالية حتى في نفط عين زالة والسكك الحديد، لقد تم توزيع البيان على المحلات وتم إلصاقه على الجدران وتوزيعه في الشوارع والأسواق مما أدى إلى اعتقالنا وحكم علينا بالسجن لعام والحكم بمراقبة الشرطة. وبعد أن قضينا مدة السجن أبعدنا إلى بدرة وهو كمعتقل للأبعاد ومراقبة الشرطة، بعد انتهاء فترة الحكم رجعنا إلى الموصل إلا أننا اتفقنا على العمل بشكل سري وهذا ما كان حتى انبثاق ثورة 14 تموز 1958. وفي الأسبوع الأول تم الإعلان عن قيام النقابات حيث كان لكل مجموعة من العمال أصحاب المهن " هيئة مؤسسة ونظام داخلي " ولم تمر إلا فترة قصيرة حتى جرت انتخابات نقابية بشكل ديمقراطي وبشكل رسمي وجرى اتفاق أن يجري انتخاب مكتب لاتحاد النقابات وقد أصبحت رئيس اتحاد نقابات العمال في الموصل. وللعلم وعلى العموم نحن العمال نعت? بعيدناً الاممي الذي هو يوم للتضامن العالمي بين عمال وشعوب العالم!.
الاعتقال من جديد
لقد مرت العديد من الأحداث وحيكت العديد من المؤامرات وكان نصيبي الاعتقال مرة أخرى بتهمة قتل احدهم وهي تهمة باطلة وأطلق سراحي بعد قمع حركة عبد الوهاب الشواف التآمرية وفي حينها عقد المؤتمر الأول للنقابات وقد حضرت باعتباري احد النشطاء في النقابات بالموصل وأتذكر العديد من الرفاق الحاضرين منهم الشهيد طالب عبد الجبار وآرا خاجادور ، عدت إلى الموصل بعد انتهاء أعمال المؤتمر وبدأت نشاطي النقابي وكنت حين ذاك رئيس اتحاد نقابات عمال الموصل حيث عملت بكل إخلاص من اجل الحركة النقابية الحرة ومن اجل حقوق العمال وأسجل هنا انت?ادي لإبعاد المرأة عن العمل النقابي والسياسي إلا ما ندر وبخاصة بعد انقلاب 8 شباط 1963 الدموي الذي حول العراق إلى سجن كبير فاعتقل عشرات الالاف وبينهم عمال وقادة نقابيون معروفون وحكم على العديد منهم بالإعدام وكان نصيبي هذه المرة حكم الإعدام مع ( 112 ) اخرين ولقد أطلق سراحي في 20 شباط 1970 مع (14) رفيقاً وصديقاً بينما تم تنفيذ حكم الإعدام بالبقية فاعدموا ودفنوا وكانوا بحق شهداء الشعب والطبقة العاملة العراقية.
مغادرة العراق اضطراراً
بعد إطلاق سراحي سكنت في منطقة المشتل ببغداد وعملت في كراج للسيارات حوالي 9 أعوام وفي نهاية عام 1979 ونحن قد حَضرنا حفلة رأس السنة خارج البيت وعندما عدنا إلى البيت سمعنا طرقا على باب الدار وكان هناك اثنان احدهماعرفه كبعثي في السلطة يسكن في محلتنا وبعد أن جلسنا خارج الدار وتبادلنا البعض من الحديث فاتحني "بأني كادر عمالي نقابي معروف" وطلب مني أن أشاركهم في النقابات التي بقيادتهم وفهمت منه ومن كلامه وكأنه تهديد مبطن فحاولت التخلص منه بالقول: أني تركت العمل السياسي والنقابي وليس لي رغبة بالعودة، إلا أن الثاني ألح بالعمل معهم في النقابات فكنت عند ذلك حاسماً فقلت له إذا عدت للعمل النقابي والسياسي ثانية فسوف ارجع لصفوف الحزب الشيوعي وليس لصفوف حزب البعث! لكنه لم يكتف بذلك وأكد أنهم سوف يأتون لزيارتي ثانية وظهر من خلال كلامهم التهديد واضحاً، وعرفت أنهم يعنون ذلك القرار الذي أشار بان من كان في السجن ولا يعمل معهم سيكون عرضة للاعتقال وأنا كنت محكوماً بالإعدام وأطلق سراحي أثناء حكمهم الثاني وكما هو معروف فهم بدون ضمير وكانت هناك قرارات تعسفية.
في اليوم الثاني التقيت بالقائد النقابي آرا خاجادور وأخبرته بالأمر وبعد المناقشة طلب مني أن أغادر العراق ولما كانت ابنتي ثائرة تتعرض للضغط وإرهاب السلطة قمت بإنجاز معاملتنا وجوازاتنا وسافرت أنا وابنتي إلى جيكوسلوفاكيا السابقة وهناك التقيت بالمرحومة الدكتورة نزيهة الدليمي ثم بعدها سافرنا إلى اليمن الديمقراطية سابقاً وعملت في العاصمة عدن كعامل ميكانيكي لمدة عام ثم رجعنا أنا وثائرة إلى بيروت بطلب من الحزب وفي بيروت عملت عاملا ميكانيكيا في الجبهة الديمقراطية بينما كانت ثائرة تعمل في مكتب جريدة الجبهة الديم?راطية لكن قصف الطائرات الإسرائيلية لمنطقة الفاكهاني كما ذكرت أدى إلى استشهاد ابنتي ثائرة فدفنت في بيروت، ثم عدت إلى سوريا وبقيت فيها حوالي ثمان سنوات وكنت اعمل في الثقافة الجديدة واساهم في طباعة مجلة رسالة العراق وبعد ذلك وللظروف الصعبة سافرت إلى النرويج ومنحت اللجوء السياسي في 9 ايلول 1990 وانتقلت للسكن في مدينة صغيرة " سكريا " التي تبعد عن العاصمة حوالي 120 كلم والبعض من أفراد عائلتي في مدينة يوفيك والعاصمة اوسلو.
كان الأمل يحدونا بعد إسقاط النظام البعثي أن تعود للعراق عافيته وتكون لنا دولة مدنية ديمقراطية لكن للأسف الشديد لم يتحقق ذلك وها هو الإرهاب وداعش والميليشيات الطائفية والفساد تفتك بالشعب والوطن.
أما العمل النقابي في الوقت الراهن فيعيش أوضاعاً غير طبيعية من خلال التدخل في شؤون النقابات ووجود التكتلات والانقسامات إلا أن هناك من العمال والنقابيين المخلصين الذين يعملون لإنجاز المشروع النقابي الوطني لصالح عمال العراق، ولهذا يحتاج العمل النقابي والنقابات إلى جهود استثنائية للعودة به إلى الطريق الصحيح وهذه الجهود تقع على عاتق جميع المخلصين الوطنيين العراقيين من العمال شغيلة اليد والفكر وكل الكادحين.
تحياتي لكل عمال العراق والعالم بعيد أول أيار عيد العمال العالمي.
عاشت الطبقة العاملة العراقية وعاش الأول من أيار المجيد.