مدارات

صحافة الحزب الشيوعي العراقي مصباح أنار وينير طريق الملايين / د. كاظم حبيب

على امتداد ثمانين عاماً، ومنذ صدور أول عدد لجريدة "كفاح الشعب" في العام 1935، رافقت صحافة الحزب الشيوعي العراقي النضال الوطني والقومي والاجتماعي والاقتصادي للشعب العراقي دون انقطاع، سواء أكان ذلك في فترة العمل السري القسري، أم في فترات الانفتاح النسبي التي أمكن صدورها بصورة علنية، وبأسماء عديدة، وسواء أكانت جريدته المركزية أم صحافته المحلية باللغتين العربية والكردية، وتلك التي دافعت عن العمال والفلاحين والكسبة والحرفيين، أم التي تبنت قضايا الطلبة والمثقفين والجنود وضباط الصف. لقد كانت صحافة الحزب وأدبياته المصباح الذي أنار طريق الملايين من أبناء وبنات الشعب العراقي من القوميات كافة وبغض النظر عن دينهم ومذهبهم أم محل إقامتهم، فهم جميعاً أبناء وبنات هذا الوطن بحضارته الإنسانية القديمة وتراثه الفكري الإنساني، في النضال من أجل قضايا شعبهم الوطنية والطبقية وحياتهم المعيشية اليومية.
استطاعت صحافة الحزب، وعبر العقود الثمانية المنصرمة، الوصول إلى الملايين من الناس ناقلة لهم أوضاع الشعب وحياتهم اليومية مدافعة عن حقوق العمال والفلاحين وداعية إلى توفير فرص العمل للعاطلين منهم، وهم كانوا وما زالوا كثرة، من خلال التنمية الاقتصادية والاجتماعية، وملتزمة قضايا كل الكادحين والفقراء والمعوزين بالبلاد، ومعبرة عن طموحاتهم وآمالهم في عراق حر وديمقراطي يسوده الدستور والسلام والوئام والعدالة الاجتماعية وحقوق الإنسان وحقوق القوميات. وكانت صحافة الحزب تسعى إلى إيصال تضامن شعوب العالم والطبقة العاملة مع الشعب العراقي ومجسدة لهم نضال الطبقة العاملة والكادحين في سائر أرجاء العالم وعن التضامن الأممي بين شعوب وكادحي العالم ومؤكدة على العلاقة الجدلية بين المهمات الوطنية والأممية والقضايا المهنية والمعيشية للشعب في آن واحد.
لقد تسنى لصحافة الحزب ورفاقها ومؤيديها الوصول إلى جماهير واسعة للتبشير بفكر الحزب وسياساته، واستطاعوا عبر تقديم الكثير من التضحيات كسب عشرات الآلاف من المواطنات والمواطنين إلى صفوف الحزب أو زجهم في النضال الوطني والنقابي والطلابي وتعبئة أوسع الجماهير للمشاركة في وثبات وانتفاضات الشعب وثورته الوطنية في العام 1958.
لم يكن في مقدور صحافة الحزب أن تلعب هذا الدور الريادي والطليعي في النضال الوطني والقومي والاجتماعي والاقتصادي والمشاركة الأممية في دعم نضالات الشعوب الأخرى لولا مشاركة تلك الجمهرة الكبيرة والرائعة من المناضلات والمناضلين الشجعان الذين ساهموا في تحريرها وتوزيعها وإيصالها إلى مدن وقرى وأرياف الوسط والجنوب وكردستان العراق والشمال عموماً. وقد فقد الحزب الشيوعي العراقي كوكبة كبيرة جداً من مناضليه البواسل لا في معارك الشعب ضد الهيمنة الأجنبية والقوى الرجعية في النضال من أجل الاستقلال الوطني والحريات العامة والتنمية الوطنية والتقدم الاجتماعي حسب، بل ومن خيرة مثقفيه من كتاب وإعلاميين وأدباء وفنانين وقادة نقابيين شجعان.
يعد الحزب الشيوعي العراقي أقدم حزب سياسي عراقي ما يزال موجوداً وسيبقى مناضلاً من أجل حقوق الشعب وحرياته العامة ومصالحه الأساسية وتحقيق طموحاته في وطن حر وشعب سعيد، فهو عميد الحركة الوطنية العراقية والأحزاب السياسية العراقية من جهة، كما أن صحافته تحتل هذا الموقع أيضاً بالرغم مما تعرضت له وكتابها وإعلامييها وطباعيها وموزعيها وناقليها وناشري فكرها وقراءها من إرهاب ومطاردة واضطهاد وسجن وتعذيب وقتل على أيدي حكام وجلاوزة النظم اللاديمقراطية والاستبدادية، الشوفينية منها والطائفية.
كانت صحافة الحزب على امتداد العقود المنصرمة تخوض نضالاً عنيداً في سبيل نشر التنوير الاجتماعي والوعي الاقتصادي في صفوف المجتمع وبين الفئات الكادحة والموجوعة بالفقر والمرض والأمية، وفي سبيل النهوض بالبلاد اقتصادياً من خلال بناء القاعدة المادية لعملية التنمية الوطنية الشاملة، بناء الصناعة الحديثة والزراعة والتخلص من بقايا العلاقات ما قبل الرأسمالية لتأمين تغيير ضروري وملح في بنية الاقتصاد العراقي الريعي، الذي اعتمد أولاً على الزراعة المتخلفة، ومن ثم على اقتصاد النفط الاستخراجي، لصالح تغيير بنية الاقتصاد الوطني وتنويع مصادر الدخل القومي من جهة، وتغيير بنية المجتمع الطبقية والتي تسهم بدورها في تغيير بنية الوعي الاجتماعي للفرد والمجتمع من جهة ثانية. وكان في مقدور المواطن أن يجد ذلك في كتابات الرفيق فهد، مؤسس هذا الحزب العتيد، مثل كراسات البطالة ومستلزمات كفاحنا الوطني، أو فيما بعد لقادة وأعضاء وكتاب شيوعيين وديمقراطيين آخرين مثل كراس المسألة الكردية والنضال القومي والأممي للشعب العراقي.
وكانت صحافة الحزب سباقة في نضالها من أجل تأمين وحدة النضال للقوى السياسية الوطنية العراقية في الدعوة إلى إقامة الجبهة الوطنية، باعتبارها السبيل الوحيد لتحقيق حلم وآمال الشعب العراقي في التحرر والاستقلال والتقدم الاقتصادي والاجتماعي وكان كراس الجبهة الوطنية للرفيق حسين محمد الشبيبي نموذجاً متقدماً في هذا المجال. وإذا كان تشكيل جبهة الاتحاد الوطني قد قاد إلى انتصار ثورة تموز 1958 وبالتحالف مع حركة الضباط الأحرار، فإنها كفيلة في هذه الفترة أيضاً في تحقيق الانتصار على كل القوى الظلامية والظالمة والإرهابية والمنشطة للصراعات والنزاعات الطائفية بالعراق.
وفي الاتجاه ذاته كان موقف الحزب وصحافته النيرة من المسألة القومية، سواء تلك التي تمس وحدة الأمة العربية أم وحدة الأمة الكردية، إضافة إلى الموقف الوطني والأممي الواضح والصريح من المسألة الكردية بالعراق، حيث اتخذ موقفاً أصيلاً وسليماً إزاء القضيتين وأكد حق الشعب الكردي في تقرير مصيره بنفسه بما في ذلك حق الانفصال وتشكيل الدولة الوطنية، كما دعا إلى وحدة نضال وتضامن الشعوب العربية لتحقيق حلم الأمة في الوحدة والتقدم والازدهار. وقد وقفت صحافة الحزب بحزم إلى جانب نضال الشعوب العربية والتضامن معها في نضالها ضد الاستعمار والاستغلال ومن أجل الاستقلال والحريات العامة والتقدم، إضافة إلى وقوفه الشجاع إلى جانب نضال شعوب بلدان آسيا وأفريقيا وأمريكا اللاتينية في سبيل تحقيق أهدافهم العادلة. ودعا إلى النضال الأممي بين شعوب البلدان النامية وشعوب الدول المتقدمة ضد الاستعمار والاستغلال ونهب خيرات الشعب الجارية من جانب الرأسمال المالي العالمي والاحتكارات المتعدية الجنسية. كما لعبت صحافة الحزب دوراً مهماً في تأييد حركات التحرر ومؤتمر باندونغ والحياد الإيجابي والدعوة إلى وقف سباق التسلح والعمل من أجل سيادة السلام في العالم، كما كان ان السباقين في إدانة الفاشية ودول المحور والدعوة إلى كسر شوكتها إلى جانب التحالف الدول المناهض لدول المحور بين الاتحاد السوفييتي والدول الغربية.
وكان لصحافة الحزب الدور المميز في النضال من أجل حرية وحقوق المثقفات والمثقفين في التنظيم والنشر والعمل في جميع مجالات الفنون الأدبية والإبداعية وفي العلوم وفي الأوساط الجامعية والتعليمية على وفق الأسس العلمية والديمقراطية. ومن هنا التحق بالحزب عدد كبير من المثقفات والمثقفين البارزين الذين ساهموا في نشر وتعميق الفكر الديمقراطي الحر في أوساط غير قليلة من الشعب العراقي، وهم الذين جوبهوا باضطهاد وقمع واسعين وقدموا الكثير من التضحيات الغالية وقضى الكثير منهم سنوات طويلة في سجون النظم اللاديمقراطية والشمولية كما استشهدت جمهرة نيرة منهم.
وإذا كان الحزب سباقاً في الدعوة إلى إقامة النقابات العمالية وساهم في تأسيسها ووضع جمهرة من كوادره الجيدة تحت تصرفها كما جند صحافته في خدمتها، فأنه ساهم أيضاً بدور مميز وكبير في نضاله ضد العلاقات الإنتاجية شبه الإقطاعية واستغلال الفلاحين في الريف العراقي ودعا إلى إصلاح زراعي ديمقراطي يساهم في تحسين أوضاع الزراعة والفلاحين في آن. وكان له قصب السبق في إدخال مبدأ "العونة" الفلاحية في الريف العراقي، كما كان له الدور الملموس والبارز في صدور قانون الإصلاح الزراعي رقم 30 لسنة 1958 رغم تعثر تنفيذه حتى الآن.
ولم تكن للحزب صحافته باللغة العربية حسب، بل وباللغة الكردية، والتي كانت تعالج إضافة إلى القضايا العراقية العامة، قضايا الشعب الكردي ومشكلات التمييز والتهميش الذي تعرض لها هذا الشعب من حكام العراق على امتداد العقود المنصرمة، في ما عدا فترة قصيرة من حكم الزعيم عبد الكريم قاسم وفي أعقاب ثورة تموز 1958. وكان سباقاً في الدعوة للحكم الذاتي أو الفيدرالية أو تقرير المصير، وفضح بحزم الحروب التي تعرض لها هذا الشعب وخاصة عمليات ومجازر الأنفال الدموية والإبادة الجماعية وضرب حلبجة بالكيمياوي، أو تعريض الكرد الفيلية، وهو جزء من هذا الشعب، إلى عمليات إبادة جماعية وتهجير قسري ومصادرة حقوق المواطنة والتي لم تحل الكثير من مشكلاتهم حتى الآن.
لقد كان الحزب مجبراً سياسياً ومالياً في أوقات العمل السري على إصدار صحافته بصعوبات كبيرة وبطباعة غير جيدة وورق غير مناسب، ولكنها مع ذلك كانت مطلوبة ومقروءة وذات مصداقية عالية. من هنا جاء تعقيب السيد سعد صالح، عضو قيادي في حزب الأحرار ووزير داخلية أسبق في العهد الملكي، بأنه يثق تماماً بما تنشره جريدة القاعدة، جريدة الحزب المركزية، لأنها ذات مصداقية وإن ما تنشره مدقق جيداً ويمكن الثقة به.
وبسبب ظروف الحزب القاسية لم تكن صحافة الحزب باستمرار في المستوى المطلوب من حيث متابعة الأحداث أو تأمين الكتاب والإعلاميين، وهي مرتبطة بأوضاع الحزب المالية والصعوبات التي تواجه نشاطه العام، وخاصة في فترات القمع والاضطهاد، وهي الفترات الغالبة في تاريخ الدولة العراقية الحديثة التي تأسست في العام 1921 وفي تاريخ الحزب الشيوعي العراقي.
ولم يكف الشيوعيون العراقيون في سجونهم ومنفاهم، عن إصدار النشرات والمجلات الخاصة بأوضاع السجناء أو المنفيين أو أوضاع البلاد عموماً والتي ساهمت في إبقاء الرفاق والمسجونين والمنفيين على مقربة مما كان يجري بالعراق والدول العربية والعالم.
وحين أجبر الحزب على إصدار صحافته خارج العراق لعبت صحافة الحزب، الثقافة الجديدة وطريق الشعب، دورها الفعال في النضال من أجل فضح الدكتاتورية البعثية الغاشمة والشوفينية المقيتة لنظام الحكم البعثي الدموي الذي جرَّ البلاد غلى حروب داخلية وخارجية مدمرة ولسنوات طويلة. وكان لها الدور الفعال في نشر سياسة الحزب ومواقفه.
ولعبت صحافة الحزب دورها المميز في حركة الأنصار الشيوعيين بإقليم كردستان العراق في النضال الفكري والسياسي رغم كل صعوبات إصدار الجريدة أو تأمين المواد لإذاعة الحزب "صوت الشعب العراقي". وكل هذا يعود إلى إصرار الحزب ورفاقه على النضال غير المنقطع وإلى جهادية وإصرار الشيوعيات والشيوعيين والكتاب والإعلاميين على المشاركة في التحرير والنشر والتوزيع متغلبين على الكثير من الصعوبات المريرة.
وفي المرحلة الراهنة تجد صحافة الحزب نفسها أمام أجواء معقدة وصعبة للغايةً بسبب ما خلفه النظام السابق من بؤس وفاقة فكرية وسياسية وبسبب دور قوى الاحتلال والتحالف الدولي بقيادة الولايات المتحدة الأمريكية بالعراق في تكريس المحاصصة الطائفية في الحكم والتخلي عن مبدأ وهوية المواطنة لصالح الهويات الفرعية القاتلة والصراعات بين الأحزاب والقوى السياسية الحاكمة والمليشيات الطائفية المسلحة والفساد السائد وما نشا عنها حتى الآن من عواقب مدمرة للفرد والمجتمع.
وازداد الأمر تعقيداً وصعوبة باجتياح قوى الإرهاب الدموي، عصابات داعش المجرمة وقوى البعث المسلحة المتحالفة مع داعش، لمدينة الموصل ومن ثم وصلاح الدين والأنبار ومناطق من ديالى وكركوك وسبي النساء والأطفال واغتصاب النساء وبيعهن في سوق النخاسة ونهب وقتل الآلاف من المواطنات والمواطنين الأبرياء من إيزيديين ومسيحيين وشبك وتركمان ومن شيعة وسنة من سكان الموصل والمدن الأخرى، مما يضع على عاتق الحزب وصحافته مهمات ثقيلة في الكفاح المتعدد الجوانب والاتجاهات للخلاص من قوى الإرهاب الدموي التي اغتصبت ثلث أرض العراق وأدت إلى نزوح أكثر من ثلاثة ملايين إنسان داخل العراق وإلى هجرة واسعة صوب الخارج من جهة، وإلى رفض المحاصصة الطائفية والنظام السياسي الطائفي القائم حالياً والنضال من أجل تغييره لصالح الحكم المدني الديمقراطي الاتحادي والقائم على قاعدة "الدين لله والوطن للجميع"، قاعدة فصل الدين عن الدولة من جهة أخرى.
إن صحافة الحزب جديرة بالنهوض بهذه المهمات الوطنية والاجتماعية الملحة باعتبارها الأساس لتحقيق السلم الأهلي والتحول صوب المجتمع المدني والدولة المدنية الديمقراطية والوحدة الوطنية ومقارعة الإرهاب والانتصار عليه ووضع ثروات البلاد لبناء الإنسان والاقتصاد والوطن وتكريس الوئام والوفاق بين قوميات وأتباع ديانات ومذاهب العراق ورفض التمييز بكل أشكاله بما فيه التمييز ضد المرأة وضد التهميش والإقصاء وفي سبيل العدالة الاجتماعية والسلام.
وأخيراً انحني إجلالاً لشهداء الكلمة الحرة لصحافيي وإعلاميي الحزب وكتابه وكل العاملين لنشر الفكر الديمقراطي والتقدمي في العراق ولكل شهداء الحزب والعراق.
وأحيي كتابه الذين يعملون من أجل نشر فكر الحزب وتحقيق شعار وطن حر وشعب سعيد.