مدارات

اليونان .. ما الذي يعنيه اتفاق بروكسل؟

رشيد غويلب
أجبرت حكومة اليسار في اليونان بعد ستة اشهر من المفاوضات الصعبة مع مجموعة اليورو والمؤسسات المالية العالمية على الموافقة على برنامج قروض جديد، مقابل تجنب الإنهيار المالي الكامل للبلاد. ووضعت الحكومة اليونانية بين خيارين لا ثالث بينهما: اما الخروج المباشر والسريع، وغير المخطط من منطقة اليورو، او الموافقة على صفقة تفرض عليها القبول بتراجع، او حتى هزيمة مؤقته.
وفي نهاية جولة المفاوضات التي استمرت 17 ساعة متواصلة، استطاع رئيس الوزراء اليوناني الحصول على اعادة هيكلة الديون بقيمة 50 مليار يورو موزعة على ثلاث سنوات، واعادة نمويل البنوك اليونانية المفلسة بقيمة 10 - 25 ملياريورو. وبهذا سيتم ايضا انقاذ المدخرات واحتياطات المواطنيين اليونانيين من الضياع، بالإضافة ستحصل اليونان على 35 مليار يورو للإستثمار من ما يسمى بـ "صندوق التماسك الأوربي"، وزههاء 12,5 مليار يورو اخرى من صندوق الخصخصة. وعلى هذا الأساس تستطيع اليونان الأستمرار في اعادة الإنتاج اي تحريك دورتها الإقتصا?ية في اطار النظام الرأسمالي ثانية، ويمكن لها ان تنال فرصة للعودة الى شكل من المعافاة والرفاه الإقتصادي بحدود معينة، وهو امر يتوقف على كيفية ادارة الحياة الإقتصادية والسياسية في البلاد وعلى ادارة الصراع مع الإتحاد الأوربي والمؤسسات المالية.
وفي المقابل ستواجه حكومات اليسار صعوبات سياسية، وسيواجه المجتمع اليوناني صعوبات اقتصادية نتيجة للتقليص الشروط في انفاق الدولة، والنفقات الإجتماعية، ما يعني خفض جديد للقدرة الشرائية لمجتمع يعاني التدمير المنظم منذ 5 سنوات.
من جانبه، اكد رئيس الوزراء اليوناني الكسيس تيسبراس ان ليس لديه اوهام بشأن نتيجة المفاوضات "لقد تجنبنا انهيارا ماليا ومصرفيا عاما"، واهم ايجابيات الإتفاق بحسب تسبراس:
"لقد ارسلنا رسالة مصداقية الى العالم"، و" وسيتم توزيع الأعباء هذه بطريقة مختلفة، وسيتحملها ليس فقط أولئك الذين تحملوا كافة الأعباء في السنوات الأخيرة، بل سيتحملها ايضا من تمكن من الإفلات نتيجة لحمايته من قبل الحكومات السابقة ". و"لقد تجاوزنا مخاوف الخروج من منطقة اليورو، وصفقة للإستمار بمقيمة 35 مليار يورو لمدة 3 سنوات"، وشدد رئيس الحكومة اليونانية على رفضه محاولة فرض ادارة من الخارج لنشاط وزارة المالية اليونانية.
والمعروف ان مفاوضات بروكسل لم تجر على قدم المساواة، بل كانت تجري تحت الإبتزاز الدائم وفرض استمرار غلق المصارف اليونانية، وانهيار الإقتصاد اليوناني، وفرض تنفيذ القرارات البرلمانية الفورية التي تتعلق باعادة تنظيم سوق العمل، والمعاشات التقاعدية، والضرائب، وغيرها، اي الإضرار بعملية صنع القرار السياسي في البرلمان و النيل من السيادة الوطنية لليونان.
وفتح الإتفاق ابواب الضغط السياسي على حزب اليسار في الداخل، نتيجة للحركة الإحتجاجية التي اطلقها الرافضون للإتفاق، واحتمال تعرض التحالف الحاكم الى الإنفراط، مقابل اتساع دائرة الداعميين للحكومة من خارج الوسط اليساري، على اعتبار انها اختارت افضل الخيارات الصعبة، وانقذت البلاد من فوضى لا احد يستطيع التبأ بنتائجها.
وبالمقابل ادى التوصل الى احداث تباين هام بين موقف الحكومة الألمانية المتشدد، وحرص فرنسا الحليف الأهم لإلمانيا في منطقة اليور للتوصل الى الإتفاق، كما ادى الإتفاق الى كشف زيف قوى الوسط، وخصوصا الحزب الإجتماعي الألماني وخضوعه التام إلى تنفيذ املاءات المستشارة ميركل. ويدور اليوم صراع سياسي ومناقشات حادة بين اوساط اليمين والوسط الحاكم، التي يرى المتشددون فيها كان يجب اخراج اليونان من منطقة اليورو، وتركه يواجهه مصيره بمفرده.
وفي الوقت الذي تتعرض حكومة اليسار للنقد من متشددي اليسار في اليونان واوربا، فانها تجد التفهم ومطالبة نقادها بالتريث وعدم استباق الأحداث، والدعم والمساندة من قوى اليسار الرئيسة في القارة الأوربية، التي ترى في الإتفاق افشالا لخطط صقور منطقة اليورو وخصوصا حكومة المستشارة الألمانية ميركل بفرض خروج غير منظم على اليونان من منطقة اليورو، وفي هذا السياق اكد السكرتير الوطني للحزب الشيوعي الفرنسي بيير لوران على"ان الفضل في التوصل الى الإتفاق يعود الى شجاعة رئيس الوزراء اليوناني، الذي تجرء على معارضة الأوساط المهيمنة? والتي تعتقد ان بامكانها ان تفعل ما تشاء"
واكدت قوى اليسار الأوربي على طبيعة الظروف والتوازنات التي جرت في ضلها المفاوضات، داعية البنك المركزي الأوربي الى البدء فورا باعادة تمويل المصارف اليونانية.
لا شك ان التوصل الى الإتفاق، وامكانية المضي في تنفيذه لا تزال عملية مفتوحة وشروط باقرار البرلمان اليوناني للإتفاق، واقراره حزمة من القوانين التي تضمن تنفيذه، وكذلك بموافقة البرلمانات الوطنية في بلدان منطقة اليورو في ألأيام القليلة المقبلة. ان اوربا تعيش لحظات تاريخية تنفتح فيها امكانية اعادة تقييم المسارات السياسية السابقة، ووضع استراتيجيات جديدة لم تكن في السابق مطروحة على بساط البحث.