مدارات

الأشتراكية الطوباوية مرحلة لابد منها في تطور الفكر الأشتراكي

علي كريم الهلالي
لابد من الأشتراكية الطوباوية في تطور الفكر الأشتراكي فقد لعبت دورا أيجابيا في تحضير ولادة النظرية العلمية لذا فأن البشرية التقدمية تكن الأحترام العميق للمفكرين الأشتراكيين البارزين على بحثهم عن طرائق الأنتقال الى الحياة السعيدة وعلى العذابات والآلام التي تحملوها في هذا الطريق الشائك . في القرن التاسع عشر أنتشرت أفكار الأشتراكيين الطوباويين لا في اوربا وحسب بل وفي قارات أخرى فقد باتت معروفة في بلدان امريكا اللاتينية ومارست تأثيرا على نضال هذه الشعوب في سبيل الأستقلال الوطني كما مهدت أفكار الأشتراكية الطوباوية والنزعة الديمقراطية في بلدان اوربا وامريكا وآسيا وأفريقيا التربة أمام تغلغل الماركسية وأنتشارها في العالم بأسره .
الأشتراكية الطوباوية والبحث عن العدالة :
أفكار الأشتراكية معروفة للناس منذ القدم فقد ولدت هذه الأفكار كحلم عن المجتمع العادل وكانت طوباوية لكنها عمرت طويلا وفي بلدان كثيرة . وفي أواسط القرن التاسع عشر أخذت أفكار الأشتراكية ترسو على أساس علمي وتبدأ حياتها الجديدة ( عهد الترعرع ) والأنتشار في العالم أجمع والأمر الأهم التجسد في الواقع في ممارسة النضال الأجتماعي لملايين من الناس .
بماذا حلم الأشتراكيون الأوائل ؟
الأنكليزي توماس مور 1478 – 1535
يعد مؤسس الأشتراكية الطوباوية وقد وضع كتابا أسمه " الطوباوية " ومن هذا الكتاب أشتقت تسمية هذا النوع من الأفكار والتعاليم الأجتماعية السياسية للقرون السادس عشر - التاسع عشر . الأشتراكية الطوباوية وفكرة كتاب الطوباوية عبارة عن حديث يرويه بحار مكث مدة في جزيرة سعيدة نائية وفي مقدمة الكتاب يوجه نقدا حادا للأوضاع القائمة في أنكلترا حيث الأضطهاد الذي لايرحم الفقراء من جانب الأغنياء وأنعدام الأخلاق لدى الأثرياء ثم يعطي وصفا مغايرا لتلك الجزيرة النائية التي يقطنها أناس أحرار متساوون في الحقوق ذوو أخلاق وأوضاع مماثلة فيها مدن كبيرة وضياع زراعية يعيش الموطنون بالتناوب في المدينة والريف ويتناوبون أيضا على مختلف أنواع العمل والعلماء وحدهم معفون من العمل الجسدي لا وجود للطفيليين في هذه الجزيرة الجميع يعمل ست ساعات في اليوم فلذا لدى كل واحد متسع من الوقت لأجل تعاطي العلم والفن ولاوجود للنقود في هذه الدولة التي هي من وحي خيال توماس مور وكل ماينتج يوضع في مستودعات أجتماعية يأخذ كل واحد مايلزمه من هذه المستودعات ولا رغبة لاحد من مواطني الجزيرة في أن يكتنز أية أحتياطيات شخصية لوجود توزيع مجاني حسب الحاجات . ويدير الجزيرة أناس يتم أنتخابهم من قبل سكانها . ومن المؤسف أنتهت حياة توماس مور بأعدامه بأمر من الملك ولم يتحقق حلمه فكانت حياة العديد من الأشتراكيين الطوباوين شاقة ومفجعة أمثال كومبانيللي ، ونسنلي ، ميليه ، مابلي ، بابيف ، سان سيمون ، فورييه ، اوين ، بيلنسكي ، غريتسن ، تشيرنشيفسكي ، كانوا جميعا يحلمون في شيء واحد هو إقامة مجتمع تعود فيه نتائج العمل الى الكادحين أنفسهم ولايوجد أظطهاد أنسان لأنسان وتنعدم فيه الحواجز الطبقية والمراتبية والقومية بين الناس .
هنري سان سيمون( 1760 – 1825 )
كان سان سيمون يتصور المجتمع على النحو التالي . أفراد موهوبون نابغون يقودونه وهيئة السلطة العليا (البرلمان) تتألف من ثلاثة مجالس (مجلس المخترعين ، ومجلس الباحثين ، ومجلس المنفذين ) وهيئة السلطة هذه تعتبر في نفس الوقت هيئة التخطيط العليا في البلاد وبما أن الحياة الأقتصادية خاضعة للتخطيط ففي المجتمع الجديد يتم القضاء على الفوضى والبطالة والفقر والجوع . والهدف الرئيسي هو تحويل جميع نواحي المجتمع وتحسين ظروف حياة كل فرد وأبراز وتطوير قواه ومواهبه .ويفترض سان سيمون الأنتقال الى النظام الأجتماعي الجديد عن طريق القضاء على الأضطهاد والفقر ويتوصل الى التفاهم والتراضي بين جميع الناس وفي رأيه يمكن بلوغ ذلك عن طريق نشر مشروع التركيبة الأجتماعية التي وضعها والدعاية لها وكان يؤمن بأن تطبيق خطته لاتفيد الفقراء فحسب بل والأغنياء أيضا . وفي أعتقاده ان المجتمع القائم يعيش عيشه سيئة فالفقراء يغوصون في الفقر والأغنياء يتعذبون من وخز الضمير بسبب غناهم أما في المجتمع الجديد فسيكون الجميع راضين وسعداء. كان طريق تحويل المجتمع الذي اقترحه سان سيمون ينبع من الأعتقاد بأن الشيئ الرئيسي في الحياة الأجتماعية هو الأفكار والوعي لذا فأن تغير?هذه الحياة يجب أن يقود حتما الى تغير جميع نواحي المجتمع.
شارل فورييه (1772 - 1837)
كان يقول فورييه إن الأنسان مخلوق للسعادة وهذه السعادة تأتي عندما يلبي الأنسان حاجاته الطبيعية المعقولة . ومهمة المجتمع هي ضمان تلبية مثل هذه الحاجات لكل فرد وأذا لم يكن المجتمع قادرا على ذلك فهو يستحق التنديد والتصفية . أنتقد فورييه المجتمع البرجوازي بأعتباره مجتمعا ولى زمانه ومركبا تركيبا سيئا ويتهم الرأسمالية بالكثير من آثام الدنيا ويرسم بالتفصيل صورة المجتمع المقبل هذا المجتمع المنسجم السعيد الذي يتألف من وحدات أنتاجية تدعى بالكتائب والكتيبة عبارة عن وحدة أنتاجية - أستهلاكية تضم 1600 شخص ويعيش جميعهم في بناية ضخمة تتواجد فيها المشاغل والمطاعم والمكتبات. وفي المجتمع الجديد ينتفي عنف الأنسان بحق الأنسان والجميع يشتغلون بصورة طوعية لأجل المنفعة العامة ويتحول العمل من لعنة الى متعة ولذة وتجري هذه التغيرات لأن الناس يتناوبون بحرية في الأعمال طبقا لميولهم ويتبارون فيما بينهم ويكون عملهم ذا طابع أبداعي ولذا يثير الحماس لدى كل عامل . وفي المجتمع المنسجم تتساوى النساء في الحقوق مع الرجال ويتحررن من الأشغال البيتية . أن فورييه شأنه شأن سان سيمون يؤمن ايمانا كاملا بالأنسان بقواه الروحية والأخلاقية والمهمة الرئيسية تكمن في تفجيرها وأتقانها . ويعتمد فورييه اعتمادا رئيسيا في تحقيق خططه على الطبقات المالكة ، على أموالها ورأسمالها وأرادتها الطيبة وجل مايلزم هو تنوير بصيرتها وأقناعها بأفضليات النظام الجديد ولأجل هذه الغاية كتب فورييه رسائل الى الملوك والوجهاء وأصحاب البنوك والمعامل وفي غضون سنوات عديدة كان ينتظر يوميا بصبر منقذا غنيا من شأنه يحقق أفكاره وقد طال انتظاره ولكن بدون جدوى .
روبرت اوين ( 1771 – 1858)
كان حسب قول أنجلس " شخصا ذا طابع نبيل صاف طفولي ، وفي الوقت نفسه قائدا بالفطرة كقلائل امثاله ". لم يتوصل اوين دفعة واحدة الى أفكار الأشتراكية . في البدء حاول تغيير حياة الناس ضمن اطار النظام القائم ومن ثم توصل الى الأستنتاج بصدد قابلية المجتمع البرجوازي على التفسخ والهلاك وضرورة أستبداله بمجتمع شيوعي . لقد دعا الى أنشاء مشاعات خاصة بلدات يتراوح عدد سكانها بين 300 - 3000 شخص والى نشرها في العالم بأسره . وتجمع هذه البلدات في ذاتها كل محاسن المدينة والقرية بدون مساوئهما . ويتناوب اعضاء المشاعية على العمل الصناعي والزراعي والجسدي والفكري وهم يستخدمون التكنيك المعاصر استخداما واسعا. فاذا كان الدور الرئيسي في الانتاج تضطلع به لدى فورييه الحرفية والمانيفاكتورة فلدى أوين تضطلع به الصناعة الكبرى والآلات وبهذا ستكون قوى الأنتاج مسخرة في ظل المجتمع الجديد لزيادة رفاهية الجميع بدلا من أن تكون مسخرة في ظل الرأسمالية لأثراء حفنة ضئيلة . الأنتقال الى المجتمع الجديد حسب رأي أوين يمكن أن يتحقق بنتيجة الدعاية للأفكار الشيوعية وعن طريق أشاعة التعاونية البدائية بين الناس ولنتذكر هي الطريقة نفسها التي حاول فيها كل من سان سيمون وفورييه على السواء تغيير الحياة الاجتماعية. توفي أوين الذي كرس حياته للبحث عن نظام أجتماعي عادل وسعيد ولم يتحقق حلمه بالرغم من محاولته أنشاء مشاعية من ماله الخاص في الولايات المتحدة الأمريكية مع أحرازها لبعض المنجزات غير أن تطبيق مبدأ التوزيع حسب الحاجات وتأثير العالم البرجوازي المعادي أديا الى أنهيارها . أذن لماذا تبددت مشاريع المجتمع العادل والأنساني التي وضعت بهذا القدر من التفصيل ؟ السبب في ذلك لكونها طوباوية من حيث محتواها . لقد حدث ذلك لأن أفكار سان سيمون وفورييه وأوين عن الأشتراكية وطرق الأنتقال أليها كانت رغم عبقريتها تخمينات وليس أستنتاجات علمية فهذه الأخيرة خلافا للتخمينات ولكون العلم يدرس الوقائع والعمليات الفعلية إي الحياة الواقعية أما الطوباوية فتستند الى الأختلاق والتخيلات من جانب أشخاص منفردين . ومن هنا ينبع الخلاف المبدئي بينهما وعند ذلك يطرح سؤال لماذا تعتبر الأشتراكية الطوباوية أساسا فكريا وقاعدة أنطلاق بالنسبة للأشتراكية العلمية ؟ وجواب ذلك أن المسائل التي طرحها الأشتراكيون الطوباويون وبالأخص حلها إي المسائل قد جرى فهمها وأدراكها لدى وضع النظرية *الشيوعية العلمية * ( مفهوما الأشتراكية العلمية والشيوعية العلمية يعنيان نفس الشيئ )
أين أذن تكمن أنجازات الأشتراكيين الطوباويين ؟
أولا : أن فضل الأشتراكية الطوباوية على البشرية في نقدها اللاذع للنظام البرجوزاي . هذا النقد الذي طرح مسألة ضرورة أستبداله بالمجتمع الأشتراكي العادل وقد ساعد الأشتراكيون الطوباويون بمؤلفاتهم على الأنتشار الواسع لأفكار الأشتراكية في أوساط الجماهير الشعبية وبهذا هيأوا التربة لكي تستأثر النظرية العلمية لبناء الأشتراكية بعقول وقلوب ملايين الناس في مهل تاريخية قصيرة .
ثانيا : تنبأ الأشتراكيون الطوباويون ببعض أهم سمات المجتمع الأشتراكي والشيوعي الأمر الذي استوعبه مؤسسا النظرية الشيوعية العلمية كارل ماركس ، فريدريك أنجلز فقد قدرا تقديرا عاليا هذه السمة للأشتراكيية الطوباوية . وكتب أنجلز يقول ( أن الأشتراكية النظرية الألمانية لن تنسى ابدا أنها تقف على أكتاف سان سيمون وفورييه وأوين ، هؤلاء المفكرون الثلاثة الذين يعدون رغم كل خيالية وكل طوباوية مذاهبهم ، في عداد اعظم الأدمغة في جميع الأزمنة والذين أستبقوا بصورة عبقرية من تلك الحقائق التي نقدم الآن البرهان العلمي على صحتها ). لقد لاحظ الأشتراكيون الطوباويون بشكل صحيح أن سبب عدم المساواة الأقتصادية يكمن في وجود الملكية الخاصة لوسائل الأنتاج . ومن هنا جاء أستنتاجهم : أن المجتمع الجديد العادل يجب أن يتأسس على الملكية الأجتماعية لوسائل الأنتاج وعلاوة على ذلك طرح سان سيمون فكرة صحيحة جدا عن ضرورة تنظيم أقتصاد مخطط وممركز . وأعار الأشتراكيون الطوباويون أهتماما كبيرا لمسائل العمل . فقد أنتقدوا الروح الطفيلية والبلادة وأعتبروا العمل أهم واجب لكل فرد من أفراد المجتمع وتحويل العمل الى أبداع والى حاجة حيوية من حاجات الأنسان ولا تقل أهمية الأحكام التي طرحوها بشأن مبدأ توزيع الخيرات المادية والروحية والذي يلعب دورا هاما في حياة الناس ، ويعين رفاههم ويؤثر تأثيرا جوهريا على التطور اللاحق للانتاج. وقد طرح سان سيمون وأتباعه ذلك المبدأ الأنساني والعادل للتوزيع " كل حسب قدراته ، ولكل حسب حاجته " والذي طبق لفترة في جميع البلدان الأشتراكية وقد دخلت الى النظرية الشيوعية العلمية الكثير من الأفكار الأخرى للأشتراكيين الطوباويين منها ضرورة مساواة النساء في الحقوق مع الرجال ، التربية الأجتماعية للأطفال ، محو الفوارق بين المدينة والقرية وكما تأثرت النظرية الشيوعية العلمية أيضا بالأوجه القيمة لأفكارهم في ضرورة خلق الظروف والشروط من أجل تطوير كل فرد تطويرا شاملا ومنسجما أن هذه الأفكار العميقة أنسانيا قد تجسدت في النظرية الشيوعية العلمية والتي تحققت لفترة ما في بلدان الأشتركية .
نستنتج أذن مما تقدم الى أن تعاليم سان سيمون ، فورييه ، أوين هي أرفع أنجاز للأشتراكية الطوباوية على أنها تكشفت بشكل واضح من عدم قابلية تحقيق هذه الأفكار عمليا على الرغم من المحاولات العنيدة والعديدة لتطبيقها في الحياة لكون أن صحة وعلمية إية نظرية هو التطبيق لكن الأشتراكية الطوباوية لعبت دورا إيجابيا في تحضير ولادة النظرية العلمية .