مدارات

حوار مع الكاتب جاسم المطير عن صحافة السجون

صحافة السجون، مَن وراء الفكرة، وما الدافع إلى إصدارها؟
قبل أن أجيبك على السؤال باختصار الجواب أن السجناء السياسيين هم أصحاب الفكرة، هم من قاموا بتنفيذها، هم الذين رعوا مسيرتها، دعني أقول حقيقة معروفة للجميع هي أن الصحافة تظل ابد الدهر، في كل مكان، نافذة رئيسة لكل إنسان، لكي يطل منها، بوعي، على العالم المحيط به وعلى العالم الواسع كله. ربما صار السجين السياسي العراقي في ظل الأنظمة القمعية السابقة أكثر الناس حاجة لمثل هذه النافذة. حين يحبس الجبابرة الناس المناضلين، كالعصافير، داخل قفص من أربعة جدران فأن السجانين يقصدون أن لا ترتاح عيون المسجونين نهارا ولا ليلا.
لا يستطيع السجين، خلال زمان السجن ومكانه، إن يفرّق بين الغروب والشروق بعد تكبيله بظلمة قاتمة لأنه يجد نفسه واقفا، في الزنزانة، أمام ذئابٍ مسلحةٍ مفتونة ٍ بقوةِ وقدرةِ السلطة الفاشية صاحبة السجن، الذي حولته إلى فخ مسموم معاد للحرية ولأفكار الإنسان الحر، تريده أن يعيش عاشقا لشعبه لكنه ليس ضجراً او تعباً او ذليلاً كي تجبره على الخضوع لمشيئتها ولسياستها وأن يرخي كفيّ نضاله ضد ظلمها وجبروتها.
نفخ الظالمون والفاشيون والمتجبرون داخل السجون السياسية العراقية في زمان النظام الملكي وزمان الأنظمة الجمهورية الخمسة كُوَرا من الدخان، ليدور بالسجناء وعليهم كالكرة بغرض تحويل السجين إلى شاة عمياء قد يفترسها ذئب البوليس السياسي في أية لحظة بإجباره على التخلي عن عقيدته الفكرية النضالية .
ذات يوم من أيام منتصف الخمسينات من القرن الماضي أظن عام 1956 اطلعت على جريدة مخطوطة بخط اليد عنوانها (السجين الثوري) سلمني إياها، للقراءة والاطلاع، الرفيق محمد صالح العبلي في بيتٍ كان مستقرا للحزب الشيوعي العراقي في منطقة الاعظمية ببغداد التقيت معه فيه بمهمة حزبية خاصة. كانت تلك الجريدة من تحرير السجناء الشيوعيين في سجن بعقوبة. بالطبع فأنا لا أتذكر رقم هذا العدد ولا تاريخه، لكنني علمتُ أن السجناء في بعقوبة يصدرون هذه الجريدة بفترات متباعدة أحيانا، ومتقاربة في أحيان أخرى، حسب الظروف السجنية. ظلت هذه الجري?ة ذات الصفحات الثمانية من حجم الفولسكاب نائمة في غيابة عقلي باعتبارها ومضة من ومضات سجناء، موهوبين، يقارعون سكون السجن بصوتهم المكتوب وبألوان دمعهم المحترق من اجل حقوق شعبهم. كانت جريدة (السجين الثوري) أغنية من أغاني السجناء الشيوعيين في سجن بعقوبة. علمتني منذ ذلك اليوم أن السجين في سجنه يظل مبتسما بحروفه المزغردة بين أضلعه الحبيسة عن أحلام شعبه وأن الصحيفة السجنية هي مصباح من مصابيح يحتاجها السجين لإضاءة حياته الشاردة.
كان الدافع الأول والأخير في صدور (جريدة السجناء) في سجن بعقوبة ومن ثم في نقرة السلمان هو تمكين السجين نفسه من وضع عينيه على عقارب الساعة وحركتها في المجتمع، بثقة رحيبة، وهو مكبل اليدين، رابضا تحت هول السجن ولهيب قيوده. كان حلم منظمات الحزب الشيوعي داخل السجون هو تحميل شرايين صحف السجون دماء تنظف عصارة مأساة السجين لتجعله أقوى من السجان .
متى وفي أي سجن كانت مساهمتك في صحافة السجون؟
اثر انفجار الفاشية البعثية بانقلابها العسكري - الدموي في شباط الأسود عام 1963 بقيت معزولا عن العالم تماما فقد غطـّاني غبار الفاشية وتعذيبها لمدة ثمانٍي شهور سود،كان أكثرها في زنزانات انفرادية داخل مقر الحرس القومي، أواجه فيها عذابا وأرقاً موجعا أو نوماً متقطعاً. ليس لتلك الشهور أية علاقة مع شمس النهار أو قمر الليل حتى قيام ساعة السحق لنظام الحرس القومي، صاحب بيان رقم 13 الأسود. حين سمعتُ، كما سمع الشعب كله صافرة سقوط نظام حزب الفاشستية، تحررتُ من الزنزانة السوداء منقولا إلى سجن نقرة السلمان في أواخر عا? 1963 أو أوائل أيام عام 1964 حاملا في بدني مجموعة من الكسور والآلام نتيجة التعذيب الوحشي.
لم تمض على وجودي في النقرة غير بضعة أيام حتى شاءت منظمة الحزب في السجن تكليفي بالمساهمة في تحرير (الجريدة السجنية اليومية) بغية تطويرها برفدها بعدد من الرفاق السجناء حيث كانت قبل ذلك تصدر بصفحتين تحملان إخباراً سياسية وبعض الأخبار عن النشاطات الحزبية . لا أتذكر أنها كانت تصدر بانتظام .
كانت مفاجأة كبرى أن تتجه أفكار المنظمة الحزبية بخطوتها نحو إصدار جريدة سياسية ثقافية اقتصادية منوعة تصدر يوميا داخل نقرة السلمان بـ 11 نسخة يومياً لقراءتها في الساعة الثامنة من صباح كل يوم . تمّ اختيار غرفة خاصة بجانب الحمامات أسميناها في ما بعد بـ( الغرفة الخضراء). كانت الغرفة نفسها قبل ذلك تستخدم مقراً سرياً لاجتماعات المنظمة الحزبية وبعض لجانها الفرعية.
ابلغنا، أيضاً، أن كادر الجريدة يتكون من مجموعتين : المجموعة الأولى هيئة التحرير المتكونة من الرفاق سامي احمد العباس، صاحب الحكيم، محمد الملا عبد الكريم، مصطفى عبود، جاسم المطير. أما المجموعة الثانية فتتكون من (الطباعين) من أصحاب الخطوط الجميلة الواضحة وكان من بينهم عبد القادر العيداني. تضمنت خطة العمل الرئيسة نقل موضوعات التحرير بعد صياغتها النهائية وتصحيحها لغويا من قبل الرفيق محمد الملا عبد الكريم، من قبل رئيس التحرير سامي احمد، أو ينقلها من ينوب عنه في بعض الأحيان، إلى غرفة الطباعة والاستنساخ في تمام ?لساعة الثانية عشرة ليلا للبدء بتحضير النسخ المطلوبة وتوزيعها صباحا على القواويش كافة لقراءتها على السجناء من قبل احد رفاق القاووش بعد اختبار كفاءته اللغوية ليكون هو (مذيع) النشرة الإخبارية.
في هيئة التحرير نفسها جرى توزيع العمل في اجتماعها الأولى كما يلي :
سامي احمد رئيسا.
صاحب الحكيم لمتابعة ما تذيعه إذاعة صوت الشعب العراقي، إذاعة الحزب الشيوعي العراقي من بلغاريا.
مصطفى عبود لمتابعة ما تنشره الصحافة العالمية في لندن وباريس وموسكو وواشنطن. أو القيام في بعض الأحيان بترجمة بعض المقالات من الانكليزية إلى العربية.
محمد الملا عبد الكريم لكتابة الافتتاحية والإشراف اللغوي.
جاسم المطير لمتابعة ما تذيعه إذاعة القاهرة ولندن وصوت العرب ومحطة الشرق الأدنى وغيرها .
كنا نحن المحررين الثلاثة (صاحب الحكيم ومصطفى عبود وجاسم المطير) ندخل إلى (الغرفة الخضراء) في تمام الساعة السابعة مساء لنقضي وقتنا بسماعة الأذن الموصولة براديو منسوب لكل واحد منا . لا نغادر المكان إلا بعد إكمال التحرير قبل منتصف الليل بدقائق.
بماذا كانت تهتم صحافة السجن آنذاك؟
كنا نهتم بكل شيء. تماما كما هو حال الصحافة خارج السجن . غير أن لنا أفضلياتنا في التركيز أولا وقبل كل شيء على الأخبار والموضوعات التي تقهر ظلام السجن والقادرة على تحطيم القيود غير المرئية، التي يراد منها تكبيل عقل السجين بالمعاناة الثقيلة. كنا نحاول تمزيق الصمت الأجوف المحيط بجدران (النقرة ) بنشر أخبار وتقارير نضال شعبنا في المدن المختلفة/ كما كنا نتابع نضال الشعوب في كل مكان، خاصة الشعب الفيتنامي. كنا نتابع مشاكل الحرب الباردة وقضايا عربية كثيرة، منها وفي مقدمتها ما كان يجري في مصر بجهود رئيسها جمال عبد?الناصر في الضغط على الشيوعيين المصريين والعرب والعراقيين لتذويب أحزابهم وتمكينه من اقتعاد مقعده الرئاسي بطمأنينة ليبقى قائداً وحيداً على حركة التحرر الوطني العربية. كنا نتابع أخبار منظمات الحزب الشيوعي العراقي، داخل العراق وخارجه، بعد نزول الهراوة الفاشية على رأسه. كنا نتابع ما يحدث على تراب فلسطين وعلى ما يحيط بكوبا. لقد جعلنا الجريدة دفترا مفتوحا لكل نوع من الثقافة والأدب وجمر الأفكار الإنسانية في العالم كله .
ألقت هيئة التحرير عليّ مهمة جمع مواد الآداب والفنون العربية والعالمية بملف خاص يصدر أسبوعيا، كل يوم اثنين، باسم (الملحق الثقافي) وقد نجح الملحق بعيون السجناء العراق بأربع صفحات (فولسكاب) في حين كانت الجريدة تصدر بثماني صفحات.
كيف يتم تحرير المواد داخل السجن، كيف يمكن لمحرر أو محررين ممارسة عملهم داخل السجن؟
استقرت طريقة تحرير مواد الجريدة على العمل المشترك بين المحررين. كل واحد منهم قريب إلى الآخر. لا يمانع أحد إذا طلب منه آخر تزويده بمعلومة ما أو تصحيح اسم ما أو التذكير بحادثة ما أو بتاريخ ما. روح التعاون والمحبة ظلت سائدة بين المحررين من أول يوم تأسيس هيئة التحرير حتى آخره. صحيح أن المحررين يختفون عن أنظار السجناء في ساعات التحرير الممتدة بين غروب الشمس ومنتصف الليل، لكنهم (هيئة التحرير) لا يستغنون عن الصلة اليومية المباشرة مع زملائهم، حيث يتهادى حوارهم اليومي عن مختلف الشئون السياسية والحزبية واليومية?والأمور السجنية أيضاً. من هذا الحوار تأتي الطاقة الروحية للمحررين الذين يصبونها على الورق لتظهر بمقالات على وجه الجريدة السجنية اليومية .
في الحقيقة أن صحراء نقرة السلمان كانت وفيرة بحملة أقلام الحدائق الفكرية والفنية والأدبية والسياسية. كنا نشعر شعوراً عميقاً أن زملاءنا من حملة تلك الأقلام كانوا يوغلون أنفسهم معنا في هيئة التحرير يوقظون في جريدتنا كثيرا من الأشياء. كان في عوننا ورفقتنا أصدقاء محررون وكتاب كثيرون من أمثال سليم الفخري، مكرم الطالباني، عبد الوهاب طاهر فاضل ثامر، محمد الجزائري، نصيف الحجاج، والفريد سمعان وكاظم فرهود كانوا جميعا إلى جانبنا، بل كنا نشعر بهم في خيمتنا داخل الغرفة .
لا شيء يُرتجل داخل هيئة التحرير فقد كان الوضع السياسي حساسا جدا،في تلك الفترة الصعبة، في سائر الميادين لمواجهة الوضع الداخلي والعربي والعالمي، فكريا وسياسيا. لكن ما يسعدني قوله أننا لم نشعر ذات يوم بوجود (رقابة) علينا ولم نشعر بوجود شرطي الصحافة يراقبنا، كما هو الحال في الجرائد العلنية الحكومية وغير الحكومية. كانت المنظمة الحزبية قد فتحت طريق الحرية أمامنا، لذلك ظلت الجريدة صادقة مع قرائها، حريصة فعلا على سلامة مواقفها مع الأفكار الشيوعية. لكن لا يعني هذا أن التحرير لم يرتكب أخطاء عن أوهام وحقائق الصراع?السوفييتي الصيني. مثلا كانت أقلامنا تدور بانتظام في الخانة الفكرية السوفييتية. كنا لا نستطيع تناول طعامنا من دون إدانة القيادة الصينية المتمردة على السوفييت ما كان يزيد السجناء كلهم نكدا وبلبلة كلما جاء مقال أو خبر في الجريدة يتعارض مع أفكار مجموعة ليست قليلة من السجناء الذين يتوجسون الحرقة من فادح الثمن المدفوع في الحركة الشيوعية العالمية نتيجة السياسية اليمينية السوفييتية كما يعتقدون .
كيف يمكنكم الحصول على أدوات الكتابة في السجن؟
طابت أوقاتنا نحن هيئة التحرير بوافر طلباتنا أمام المنظمة الحزبية فكان جوابها محفوظا على الفور على تلبيتها جميعاً: نحتاج إلى بند من الورق الفولسكاب الأبيض فيأتينا خلال دقائق.. فجأة يتوقف عمل الراديو أو المسجل الخاص بأحد المحررين فيتبين لنا السبب في ضعف الباتري أو انتهاء مفعوله نطلب بديلا مباشرا فيأتينا في الحال. بالرغم من عدم توفر التلفون أو الموبايل آنذاك لكن الرفاق الساهرين في المنظمة لا يغلقون علينا باب الطلبات ليلا ونهارا، كما كان حال تأخيرها لأيام عديدة في الصحف التي عملتُ بها، سواء قبل دخولي السجن ?و بعد خروجي منه.
أما المنظمة الحزبية فقد كانت تتحمل المسؤولية عن طريق الهيئة الإدارية المسؤولة وذات الصلة المباشرة بين السجن ومديره، بين السجناء والسجانين، لتوفير كل ما يتعلق بمواد الورق والكاربون والأقلام القوبيا والدبابيس وغيرها .
كان هناك (رقما علنيا) في (العلاقة التجارية السرية) بين عدد من رفاقنا الشطّار وبين عدد من السجانين المتعاونين . هذا الرقم يشير إلى أن كل بند ورق يدخل إلى السجن من خارجه يجري مضاعفة سعره على الباب، بل أن هذه (اللعبة الاستثمارية) قد شملتْ أسعار دخول الراديوات والمسجلات والأقلام وغيرها. حتى اللحوم والدجاج كنا نحتاج في بعض المناسبات الاحتفالية والأعياد إلى كميات إضافية تخضع لهذه اللعبة نفسها. كنا ندّخر كل وسيلة لكسب ود ورضا السجانة وتحسين العلاقة معهم حتى نحصل على ما نريد بما في ذلك الأدوية لمرضانا بأسعار?مضاعفة. لكن حين كان المرضى من السجانة أو من أفراد عائلاتهم بحاجة إلى أدوية متوفرة في صيدليتنا وغير متوفرة في صيدلية القرية فأن السجناء يقدمونها للسجانين مجانا بلا ثمن.
*****
هذه بعض الصور تذكرتها عن تجربتي الشخصية في دورة تحرير الصحيفة السجنية اليومية . كان عملنا التحريري - الجماعي جميلا لأننا كنا نشعر أننا وحدنا نملك شمساً صحفية قادرة على هتك الظلام داخل السجن وإزاحته من أمام عيون السجناء. أظن أننا عملنا في تحرير جريدة داخل أبشع سجن في العالم لأننا كنا نملك موهبة الشيوعية، حيث ما ضاقت بنا نظرة أو مساحة بالرغم من تصاعد الحسرات الكثيرة مع أنفاسنا على ما جرى ويجري من جرائم كبرى بحق الشعوب في كل مكان من العالم.
الشيء الجدير بالذكر أن غرفة هيئة التحرير كانت سلسة هادئة. يشعر فيها الجميع بالسعادة التامة حين يتعبون فيها ويجهدون، لأن استطالة الليل تتحرك في تلك الغرفة حتى الفجر بصورة ناشطة، بأقلام ناشطة، وبأفكار ناشطة فكانت الجريدة السجنية حقلا معرفياً، وملعبا للأخبار اليومية، وفرصة من فرص تنوير السجناء بوسيلة عابرة للجدران والعقول والقلوب.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
بصرة لاهاي في 22 – 7 - 2012