مدارات

انباء الموصل* / ابراهيم الحريري

فرحان ! من منكم يعرف فرحان ؟ اين باستطاعتي ان اجد فرحان ؟
كنت ادور على محلات السراجة في سوق السراجين, خلف المتحف الوطني القديم (متحف التراث الشعبي الأن) اسألهم واحدا, واحدا.
كان أحدثهم على المهنة, بعضهم, الأكثر تقدما في العمر، كان يحك رأسه، ثم يجيب : اختفى . لا نعرف عنه " . واحد فقط قال انه مريض, يعيش عيشة مزرية, بعد ان لم يعد بامكانه مزاولة المهنة, لكنه لا يعرف اين بامكاني ان اجده. اجتاحني اليأس. كدت اكف عن البحث حتى قّادتني الصدفة البحت الى سرّاج كهل، عند نهاية شارع الجعيفر التقيته في ساحة جسر الأمين - جهة الكرخ.
:قلت له " تعرف فرحان " ؟ كَصني بنظرة مستريبة، من فوق لتحت. توقف هنيهة ليضيف: " فرحان النقابات ؟ فرحان الشيوعي ؟ "
جفلت، كدت اغادر على الفور، لولا انني تذكرت.اننا في اواخر 2003. صدام ونظامه ولّيا. وانا عائد من المنفى ابحث عن الرفاق والأصدقاء القدامى, كان فرحان احدهم .
سحب الرجل نفسا عميقا من سيكارته. قال مبتسما وهو يحاول ان يطمئنّني: يرحمه الله. كان رجلا طيبا، لكن لماذا تسأل ؟ " أجبته " صديق قديم..." وغادرت.
تعود علاقتي بفرحان الى اواخر شتاء عام 59 عندما تأسس الإتحاد العام لنقابات العمال في العراق، او كان تحت التأسيس، وتقدم بطلب اجازته. كنت اتردد على مقر الأتحاد، اول شارع ابو نؤاس من جهة شارع الرشيد، بحكم عملي، مراسلا ومحررا عماليا لصحيفة " اتحاد الشعب ". كان اكثر قادة الأتحاد, آرا خاجادور، طالب عبد الجبار،عبد القادر العياش،حكمت كوتاني، كاظم الدجيلي، وغيرهم، من الرفاق والنقابيين الذين التقيتهم في السجون والمواقف والمعتقلات، قبل ثورة تموز. خلال تنقلي بين غرف الإتحاد، لالتقاء هذا القائد النقابي او ذاك، كدت اصطد? بشاب ربعة، في اواسط العشرينات، مهدل الكتفين ، ينظر بنظرة مواربة، كأنه يتجنب ان تلتقي عيناه بعينين اخرتين، تكتشف في عينيه مكرا ودهاء، تنم عنهما ابتسامة جانبية. سألت. قيل لي انه فرحان، واحد من شغيلة الأتحاد، فراش، شايجي، مصلح لأي عطب، من النجارة ، البواري الى الأقفال، يعني، بكلمة واحدة، " بتاع كله ", من بين سائر قادة الأتحاد، اختصه الشهيد طالب عبد الجبار بالأهتمام والرعاية، كما عرفت فيما بعد.
تقلب الأتحاد، بين مجازٍ وغير مجاز. يعتقل قادته حينا ويطلق سراحهم ليلتقيهم "الزعيم "، حسب مزاج قيادة السلطة, حتى خاضت السلطة معركتها الحاسمة، ضد النقابات والمنظمات الديمقراطية تعاونها اجهزة الأمن وعصابات الشقاة.
سيطرت السلطة على مقر اتحاد النقابات وسلّمت مفاتيحه للحاج ابراهيم، بينما تشتت القادة النقابيون، بين معتقلٍ ومسجون او مختفٍ،اما فرحان فلا حس ولا خبر، كأنه فص ملح وذاب
أُغْلِقَتْ الجريدة, وتنقلتُ بين منظمات مختلفة، حتى أُلحِقتُ باللجنة المحلية للحزب في الموصل ، فكنت اتردد، بين الآن والآن، على بغداد، في مهمات حزبية. كُلّفْتُ ان اذهب الى احد محلات السراجة لألتقي رفيقا، سيقدّم لي تسهيلات في مجال اخفاء البريد الحزبي والنشرات.
هناك التقيت فرحان، مرة اخرى. كان فنانا مبدعا في هذا المجال، كان يقعّر الصناديق، يضيف طوابق مخفية للحقائب، يخترع جيوبا سرية في حقائب الكتف، لا يكف خلال ذلك عن" دندنة " مقام او بسته، كأنه يقوم بعمل عادي، كانه خُلِقَ لهذا النوع من العمل.
غادر ابو زيد (الرفيق طالب عبد الجبار) الى بغداد وتـأخر بعض الوقت (بعد عودته صدر بيان عن الاجتماع الكامل للجنة المركزية، اي يضم الأعضاء والمرشحين، ولما كان الرفيق طالب مرشحا لعضوية اللجنة المركزية وقدرنا ان لغيابه علاقة بالاجتماع).
التقينا على فطور عمل في بيت الرفيق الشهيد ستار خضير, عضو اللجنة المحلية ومساعد لمسؤولها (خلف الساعة) كان قريبا من بيت الرفيق طالب (المياسة). لا اتذكر ما اذا كان الرفيق (الشيخ) معروف البرزنجي، الذي كان التحق بمحلية الموصل منقولا من كركوك التي كان مطاردا فيها، وكلف بعدها بالصعود الى الجبل لملاقاة البارزاني الأب كان قد عاد. تداولنا بعض الآمور، عندما دعانا طالب الى مرافقته. قال انه يدخر لنا مفاجأة. تبعناه الى باحة في احدى محلات الموصل (لا اتذكر اسمها). قرع احد الأبواب فانفتح عن...فرحان!
كانت مفاجأة من العيار الثقيل! تعانقنا. دعانا الى الدخول. كانت تقتعد احدى زوايا الدار سيدة في منتصف الأربعينات, متينة البنيان الى بدانة, تميل الى القِصَر. ارادت ألنهوض للترحيب لكن ثقلها البادي اعاقها.
قدمها لنا فرحان: خالتي " ابتسم طالب ابتسامة ذات مغزى واضاف: " واحدة من خالاته الكثر"، ! فهمنا التلميح عندما اطرق فرحان خجلا.
المفاجأة الأخرى كانت تنظرنا في السرداب الذي تقدمنا فرحان اليه. كشف فرحان فرحا، فخورا، كما يكشف العرّيس نقاب عروسه ليلة عرسهما. غطاءً فبان عن آلة رونيو، كانت، بالرغم من قدمها، نظيفة.
كيف تم ذلك ؟ كيف ؟ في ظروف الموصل العصيبة، اوائل الستينات، تم نقلها ؟ قطعة قطعة ؟ مرة واحدة ؟ ومتى تم استئجار الدار ؟ الى غير ذلك من الأسئلة التي ظلت دون اجابة، اذ كان السؤال محظورا. لكن كان يمكن تخمين ان الكثير من الإجابات كانت تكمن في صدري فرحان وابو زيد
قال ابو زيد وهو لا يخفي فرحه: بامكاننا، الآن، ان نصدّر نشرتنا "! وهذا ما حصل.
كان كل شيء جاهزا. العروس (الرونيو) يصحبها جهازها ( صحائف الستانسيل وألأحبار) وكاتب الطابعة (محمد، ابو جاسم، رفيق منقول من بغداد، للألتحاق بعمله في واحدة من محاكم الموصل) والمحرر، سكرتير التحرير (الداعي) ورئيس التحرير. الرفيق طالب. اما الأسم فقد اخترته ولم اكن ميالا إلى الأسماء الطنانة الرنانة: " انباء الموصل ".
و بدأ العمل!
لم نكن نعاني تجهيز المواد. كان لدينا الكثير من المواد الأولية، سواء ما يردنا من المركز، بغداد، أو من الأقضية والنواحي التابعة للمحافظة، المشكلة كانت في الطبع.
كان محمد، ابوجاسم، كما كنت اسميه تدليلا، مع انه كان في اوائل العشرينات، يقيم في دار صغيرة, من طابقين في الدواسة، الطابق الأول كان يضم المطبخ وباحة مسقوفة كأنها الصالة، والطابق الأعلى غرفة لنومه ووالدته.
كان محمد يعود من عمله في المحكمة وعندما كنت اقرع الباب وقت الغروب بالطريقة المتفق عليها كنت أجد كل شيء : الوالدة في الدور السفلي، تعد لنا الشاي. بينما كان العمل يتم في غرفة النوم، يحكم محمد اغلاق باب الغرفة ويغطي الشبابيك ببطانيات ثقيلة لمنع تسرب صوت الطابعة.
تطلّب انجاز النشرة، بضعة ايام. سلمت الستانسيل المنجز الى فرحان صباحا لاعود لأستلم النشرة في المساء واذهب الى بيت ستار.
كان كل شيء معدا للاحتفال: ام مي، زوجة الشهيد ستار التي اعدت المزات الشهية مشغولة في الباحة تعد الشواء، ابو مي يقتعد ارضية غرفة الجلوس على واحدة من ركبتيه بنته، مي، يجاوره ابو زيد، تلتمع عيناه زهوا، وعندما ابسط " انباء الموصل "على الطبلية، يتداولها القعود..
ثم ترتفع الأنخاب! يتخلّلها صوت ابو مي، الشجي، يغني ابوذية او اثنتين. تتناهبني اللوعة والفرحة. اتذكر حبيبتي التي لا تبادلني الحب فاغني " أشكَر وشعرو ذهب! في حبو شفت العجب! كنا كأننا فتية لاهون! كأن الموت لم يكن ينتظرنا، في ايام الموصل العصيبة تلك, عند كل عطفة!
(كتبت فيما بعد قصة بعنوان " الوليمة " اصف فيها واحدة من سهراتنا، نشرتها في صحيفة مجلة " صوت الخليج " الكويتية عام (64)
الآن، وبعد 53 عاما من اول اصدار لـ " أنباء الموصل "، وانا انجز، على بعد آلاف الأميال من الموصل، الجريحة، الذبيحة (ايّ قدر اسودَ، دامٍ، يلاحق الموصل!) الاصدار الأخير من " انباء الموصل "، استدعي الشهيدين:طالب عبد الجبار, ستار خضير، والراحل فرحان، وكاتب الطابعة ابو جاسم (لا اعرف ما اذا كان ما يزال حيا)، ارفع كأسي واهتف:
نخبكم ايها الرفاق! نخب الكلمة الخيرة ، النيّرة! نخب الصحافة الشيوعية في عيدها الثمانين!
ــــــــــــــــــ
* نشرة صادرة عن اللجنة المحلية
للحزب الشيوعي العراقي في الموصل
سكرتير التحرير: ابراهيم الحريري
آذار 1962