مدارات

صحافة الحزب الشيوعي العراقي.. خارطة طريق وطنية / ياسين النصير

كنت أحد العاملين الثانويين في مجلة الثقافة الجديدة يوم أتيت بغداد منتقلا إليها من البصرة، وشكلنا أنا والزميل فاضل ثامر نواة للمثقفين الشعبيين الذين يشكل حضورهم وتواجدهم في الوسط الثقافي صلة للحداثة النقدية، وكانت الثقافة الجديدة أول مدرسة أكاديمية لي حين تعرفت فيها على نحبة من العاملين الرموز:صلاح خالص، صفاء الحافظ، ابو كاطع، عبد الرزاق الصافي، فخري كريم، هاشم الطعان، الفريد سمعان، ابراهيم اليتيم، هذه النخبة العملاتية كانت واحدة من خلايا العمل الميداني اليومي، حيث شكلت اجتماعاتها الاسبوعية أهم مصدر للتعرف على حركة المجتمع من كل جوانبها السياسية والثقافية، وفي حينها كانت ثمة خطوط حوار تمتد مع السلطة ، في الوقت نفسه كانت بنادق السلطة تصوب للرفاق أيضًا، وعليك ان تجد الطريق بين الحوار الذي تستهدفه البندقية والحوار الذي يحتاجه الوطن، وبما انني لا أعرف يومذاك الكثير، كنت اشهد عبر الحركة لقادة الحزب اهمية أن تستمر الثقافة الجديدة، وان يستمر الحوار وان يتوقف العنف، وأن تزداد صلتنا؛ خاصة انا والناقد فاضل ثامر بالوسط الثقافي، وبالرغم من أن ذلك لم ينجز كما نريد او نتصور، كانت حركتنا مرصودة من قبل الأمن العام، وكانت خطواتنا محروسة أيضا الأعين والمدونات ونحن نمر في شوارع وكازينوات ابي نواس وحواف بيوتنا البعيدة، من هنا بدأت، - بالنسبة لي- معركة الفكر ميدانيًا، هل تقطع العلاقات أم يتواصل الحوار؟ وكان الخط الجدلي محورا للحوارات اليومية لنا مع مجموعة من المثقفين العراقيين الذي كانوا يجلسون بالقرب من مقر الثقافة الجديدة  مقهى المعقدين- أوكازينوهات شارع ابي نواس- مقهى ياسين-.
وإذ يغيب الدكتور صلاح خالص ويستلم المهام الدكتور صفاء الحافظ، تشعر ان ثمة قامتين ثقافيتين تقودان الثقافة يحضران عبر الثقافة الجديدة، وطوال سنوات وجود مقرها في ساحة التحرير كنا نقطع الطرق إليها عبر دوائر متداحلة بين ساحة التحرير والباب الشرقي وشارع الرسيد، وشارع الجمهورية، وشارع السعدون، وجسر الجمهورية، وساحة الطيران، ومدخل ابي نواس، هذا التشابك الفضائي يختصره نصب الحرية مستوعبًا فضاء المدينة بغداد، فتشعر وأنت تعمل في مثل هذا الفضاء؛ أن الثقافة الجديدة علامة من علامات ساحة التحرير، ورمزا من رموز مدينة بغداد.
أذكر كنا في اجتماع ثقافي واسع، وبعد الاجتماع خرجنا لنتعشى في كازينو في ساحة نصب الجندي المجهول، وكانت ثمة خطوات تتبع قافلتنا الثقافية، وبعد اقل من نصف ساعة أفتعل النظام معركة صغيرة بين اشخاص في الكازينو كان من نتيجتها اطلاقات نار في الفضاء، لم يكن المقصود غير اشعارنا بان السلطة موجودة، واصلنا عشاءنا وتركنا اصحاب المعركة المفبركة يتسلون بما فعلوا.وفي مناسبة أخرى كنا مدعويين في احتفالية سياسية، وكان الامن يتابع خطواتنا، وللصدفة تعطلت كامراتهم تلك الليلة، فما كان منهم إلا إخبارنا وسط ممازحة: خلصتم هذه المرة من التصوير، هكذا يختلط العمل الثقافي بالعمل السياسي فلا تجد فرقًا كبيرًا بين أن تقرأ كتابًا أو تكتب مقالة أو تتخلص من عين متربص، أو تقول ما تؤمن به في لقاءات عامة. ومن الثقافة الجديدة إلى طريق الشعب، وقبل أن ندخل في دوامة العمل كانت البيروقراطية قد نهضت لتعزل بين رفاق ورفاق، الذين عملوا في الثقافة الجديدة لا يعملوا في طريق الشعب، هكذا ابلغنا ....، وإلى أن انتقلت طريق الشعب من زاوية ما في شارع السعدون إلى بنايتها بجوار سينما النصر، انتقلت الثقافة الجديدة إلى جوارها حينها انفتحت آفاق التداخل حين زادت مسؤولية الصحيفة اليومية على قدرات العاملين المختارين، ووجدت نفسي مرة ثانية في حقلي الثقافة الجديدة، وثقافة طريق الشعب، وسط تداخل وفصل منهجيين تمكنا ان نجد أكثر من زاوية للعمل المشترك.
لايمكن تصور العمل دون تداخل الشخصانية فيه، ففي بداية السبعينيات وبالذات حينما اصبحت طريق الشعب مركز استقطاب المثقفين، حدث ما يشبه الاستقطاب الداخلي، بين شخصيات ثقافية متميزة، كان من شأن ذلك أن يؤثر على سياق منهجية مرسومة عمل ابو كاطع على تثبيتها بمدونة عن كيفية تسيير العمل اليومي، واعتمدت من قبل هيئة التحرير بحيث كنا نعرف في القسم الثقافي ماذا سننشر بعد شهرين او ثلاثة حتى وصل الأمر إلى ستة اشهر من نوعية المقالات وتغطية الأنشطة واختيار القصائد وتكليف المثقفين، بمعنى أن المدونة التي عمل عليها ابو كاطع ونالت رضا الصافي، هيئة التحرير كانت تضع خطوات للعمل المنظم اليومي والاسبوعي والشهري والفصلي ونصف السنوي، بمعنى أن الصحيفة كانت بمهجية اكاديمية.ووسط هذه البنية التنظيمة تبرز بين الحين والآخر شللية صغيرة وكالعادة يكون تاثيرها مؤقتا ثم تتلاشى طموحاتها الذاتية بالعمل المنظم والاجتماع اليومي لكل قسم في الجريدة.
صحيفة الحزب الشيوعي العراقي" طريق الشعب" كنت فيها منذ بدايتها في السبعينيات ، وحتى يوم أغلقت، كنت فيها ايضًا، و بمعية الاستاذ عبد الروزاق الصافي رئيس التحرير، والشاعرنبيل ياسين، ولكني كنت اقف في جانب آخر من الموقف الذي يقف فيه عبد الرزاق الصافي، فهو الوحيد الذي ابقى العلاقة قائمة معي بعد خروجي في الشهر الرابع من عام 1978 من الأمن العامة، حين جمدت من العمل التنظيمي، لقد ابقى الصافي صلتي بالحزب عبر الدكتورة سلوى زكو قائمة، أما رفاقي في القسم الثقافي - عدا فاضل ثامر- كانوا يتجنبون حتى الحديث معي، ياللمرارة ؟؟ ما يعني ان وجودي في الجريدة يوم أغلقت وبدأ دخان حرائق الوثائق والمدونات يتصاعد، لم يكن رسميًا، إنما مجرد موقف شخصي مني، لقد كنت هناك، اشهد تصاعد الدخان من براميل حرق الوثائق التي كانت تتقد بنيران تجربة عريقة، وكان جارنا واقفا يطل علينا هذه المرة مصوبًا كاميرته لتصوير الحرائق والأشخاص، وقصة هذا الجار طريفة فقد كان يطل بين فترة وأخرى من نافذة بيته العلوية ليشاهد مجموعة من الصحفيين يفترشون الأرض والزوايا وهم يأكلون وجباتهم اليومية، وكان يبتسم لمرأى هذه المجموعة المختلطة وهي تأكل سويه المأكولات نفسها، وفي أحد الأيام اشتكى هذا الجار من كثرة الدخان المتصاعد من البراميل التي تحرق فيها الأوراق بعد نهاية عمل يوم، تذكرت ذلك وانا اشاهده في آخر يوم ارى فيه باب بناية الجريدة، قبل أن تصلني توصية عامة على لسان الاستاذ عبد الرزاق الصافي بالابتعاد عن الظهور العلني - كلمن يشوف دربه ولكن بحذر- كيف أن هذا الجار لم يشتك ولم ينزعج، حين رأى النار تتصاعد هذه المرة من براميل المحرقة الورقية لأنه لا يرى وثائق تحترق فقط، إنما تجربة كاملة، وحزب كامل، وجريدة ناطقة بلسان الشعب، وعاملين كانوا يفترشون الأرض أمامه? وها هو الفراغ بعد هذه المحرقة يمتد من الجريدة  حيث لا موائد تفرش على مصطبات للأكل- إلى كل البيوت والمقرات التي كنا نلجأ إليها بعد انتهاء عملنا اليومي.
لم يكن أغلاق الجريدة، مجرد أمر سياسي بغلقها، كأية صحيفة تخالف النظام، إنما كان الإغلاق تكميمًا لصوت شعبي، اعتقدوا أنهم سيغلقون به دفاتر الإنشاء الثقافي والسياسي والفلسفي والتحريضي، وسيغلقون الذاكرة والأناشيد والأغاني والقصائد والقصص، والاحتفالات وصور الشهداء وذكريات السجناء ومئات الجرائد المناطقية، هكذا تصوروا، ولم يدركوا أن الانتشار اللاحق للصحفيين الشيوعيين سواء في مدن العراق أو خارجه ، اعادوا كل حسب امكانياته هوية الصحافة الشيوعية من جديد، فاداموا حضورها وأكدوا مشروعها، وواصلوا نهجها، ومع مئات الكوادر التي عملت لمجموع الفكر الماركسي، عمل البعض مشروعًا لذاته، خاصةعندما تكاثرت الرؤوس خارج العراق.
لا أحد يستطيع ملء فراغ العمل، وليس من المعقول أن تتقول ما لم يكن قد شاهدته ومارسته واشتركت فيه، هذه الجريدة، ليس جريدة عادية يعمل فيها مجموعة من الصحفيين والمثقفين، إنما هي اكاديمية للصحافة بحق، أكاديمة كانت ترسم خارطة طريق للصحافة العراقية، وللثقافة العراقية، وللعلاقة مع الفئات والطبقات الإجتماعية العراقية والعربية، ولترتيب العلاقات المتباينة مع تدرج هوية المثقفين وانتماءاتهم، ثم وهذا هو الأهم كانت تجربة- اكاديمية- وورشة عمل سياسية، لترسم خطوط العلاقة مع شرائح من الحكومة، وشرائح من القوى الاجتماعية المختلفة، خاصة القوى الكردستانية والعربية. فالجريدة ليست مقرًا للكتابة أولاخراج الصحيفة اليومية التي كانت تطبع بأعداد يخفيها المسؤولون عنا، لأنها كانت صوتا ومكرفونا شعبيًا للعراقيين في كل مدنهم وقراهم واقضيتهم وبيوتهم، ومن شهد وجود "الجريدة الحزبية" باسمائها المختلفة "اتحاد الشعب " طريق الشعب " يعرف كم كانت الجريدة ميدانًا شعبيًا ليس لإنتاج المعرفة، إنما لتخريج كوادر مهنية شكلت لاحقًا عصب الصحافة العراقية.
لا شك ثمة مرارة سأخفيها عمدا، قد تأتي من رفيق او زميل، فالحرص كان اكبر من الخلافات الشخصية، وفي كل مساء كنا نطرح ما نختلف عليه لينتهي مع أخر رشفة من كاس العلاقة، هذه الجريدة واحدة من النوافذ الفكرية التي تعلمت منها الكثير وما زلت، ولعل الرأي الذي يستخلصه المعنيون أنها ليس جريدة اشخاص ولافئات، بالرغم من أنك تسمع بين أونة وأخرى أن فلانًا كان رئيسًا للتحرير وفلانًا كان مديرًا للتحرير، وفلانًا كان رئيسًا لقسم...الخ، فالعمل الجماعي كان يلغي الاسماء ويستحضر الأفعال، هكذا عندما تأتي الجريدة لتمارس عملك، تشاهد الاسماء الأتية: سعدي يوسف، الفريد سمعان، مصطفى عبود، زهير الجزائري، فاضل ثامر، ابراهيم أحمد، حميد الخاقاني، سلوى زكو، يوسف الصائغ، هاشم الطعان، خالد السلام، وآخرين، وكنت من بين الآخرين، وحين بدأت جريدة الفكر الجديد وانتدبت الدكتورة سلوى زكو لرئاسة تحريرها، وجدت نفسي أخوض معها تجربة جديدة، دون أن افقد صلتي بالقسم الثقافي الذي رأسه حميد الخاقاني بعد مداولات شخصانية لم تكن دقيقة في الاختيار لتعيينه مسؤولا للقسم الثقافي.
سيكون الحديث عن تجربة الصحافة الشيوعية حديثًا عن تداخل الثقافي بالسياسي وكلاهما بالمجتمعي والفلسفي والذاتي، ومثل هذه الحقول لم تستوعبها تجربة تتداخل فيها مجموعة رؤى مختلفة لمجموعة من المثقفين وجدوا انفسهم للمرة الثانية- بعد تجربة اتحاد الشعب- في تاريخ العراق، يعملون في صحافة الحزب الشيوعي العلنية. لذلك سيكون ثمة اكثر من زاوية لتنظر من نافذتها إلى هذه الخلية المتفانية وهي تعمل، دون أن يدعي أحد منها أنه صاحب منصب أو جاه، اذكر مرة أن الرفيق عبد الرزاق الصافي جاء القسم الثقافي وبيده مقالة لأحد المثقفين كان القسم قد رفضها لضعف ما فيها، فذهب صاحبها رئيس التحرير يطلب منه نشرها، فما كان من الصافي إلا أن يبلغه بأنه لاسلطة له على اي قسم في الجريدة، وان وجوده لا يمنحه سلطة على أحد لأن تعيينه رئيسًا للتحرير لايمنحه ذلك، قالها مصحوبة بنكته "يا أخي أنا مجرد خلك رئيس تحرير" لذلك لا استطيع نشر ما يرفض. ووسط ضحكات الجميع، كانت النكتة رسالة واضحة أن لامركزا يمنح صاحبه سلطة على الآخرين.