مدارات

الصحافة اليسارية والشيوعية في العراق ودورها في العطاء والبناء / فائق بطي

نحتفل في هذه الايام بالذكرى الثمانين لميلاد الصحافة الشيوعية في العراق، وسوف نحتفل بعد تسع سنوات بالعيد المئوي لميلاد الصحافة اليسارية في العراق، حيث ارست كوكبة من المثقفين العراقيين العائدين من فرنسا وبعض دول اوربا، لبنة اول صحيفة يسارية تبذر الفكر الاشتراكي في العراق، وذلك باصدارها جريدة (الصحيفة) في شهر كانون الاول من عام 1924 وهم كل من حسين الرحال وعوني بكر صدقي ومصطفى علي ومحمد سليم وعبد المجيد رفعت والكاتب الروائي محمود احمد السيد وعبد القادر اسماعيل.
لقد نشر هؤلاء الاوائل من رواد الفكر الاشتراكي في ستة اعداد من المجلة، وقبل تأسيس الحزب الشيوعي العراقي بعشر سنوات، مقالات مهمة تنويرية وبرؤية ماركسية تتناول "التطور كناموس للحياة" في خمس حلقات، و"الاخلاق كعلم" كصفحات للتطور التاريخي، وعن التطورات الاقتصادية في العالم بمقال "الشعور الملي " الاقتصاد الملي"، و"نظرية التاريخ" وغيرها من الموضوعات ذات الافكار الاشتراكية العلمية.
لم يقف الماركسيون الاوائل اتجاه نشر افكارهم، مكتوفي الايدي بعد الغاء السلطات الرجعية امتياز الجريدة، بل واصلوا في مسيرة اصدار صحف ومجلات يسارية ذات مستوى راق، كمجلة (الحديث) الصادرة في تشرين الثاني عام 1927 وكان محمود احمد السيد من ابرز محرريها، ومجلة (الشباب) الصادرة في شباط 1929 لمديرها المسؤول عبد القادر اسماعيل، ومجلة (المعول) في ايلول 1930 لثلاثة اعداد فقط اصدرها مصطفى علي، وزير العدل في حكومة ثورة 14 تموز 1958، ومجلة (الوميض) لصاحبها لطفي بكر صدقي في تشرين الثاني 1930 لثلاثة اعداد ايضا. كما اصدر هؤلاء المثقفون اعدادا محدودة من مجلة (عطارد) و (فينيس) و(العقاب) بسبب تعطيل الحكومة لتلك المجلات حال صدور اعدادها البكر.
وفي نهاية شهر تموز من عام 1935 صدر العدد الاول من جريدة (كفاح الشعب) كاول جريدة يصدرها الحزب الشيوعي العراقي كلسان مركزي سري وكان على صدرها رمز الشيوعيين، المطرقة والمنجل، وشعار ماركس "يا عمال العالم اتحدوا" ومقتطف من البيان الشيوعي "فلترتعش الطبقات الحاكمة من شبح الثورة الشيوعية، فليس للبروليتاريا ما تفقده سوى اغلالها وتربح عالما باكمله".
لم يصدر من الجريدة سوى خمسة اعداد بسبب حملة الحكومة الرجعية على الحزب، الا انها نجحت في تلك الاعداد من خلال طرح شعاراته الاساسية وفي مقدمتها الغاء معاهدة 1930 العراقية البريطانية وتصفية قاعدتي سن الذبان والشعيبة العسكريتين وشعار الاستقلال الوطني والحريات الديمقراطية وحقوق العمال النقابية و8 ساعات عمل في اليوم والمطالبة بالأرض للفلاحين والحقوق القومية للشعب الكردي.
وبالرغم من غياب كفاح الشعب، نجح الشيوعيون واليساريون في اصدار عدد من المجلات ، افتتحها رؤوف الجبوري باصدارمجلة (الحكمة) في شهر تشرين الاول عام 1936 لستة اعداد ولتعلنها حربا على العناصر الرجعية بكل صراحة وجرأة، "فالفكر الحر في العراق يجب ان لا ترتعش اعصابه ويتراجع عن ابداء فكرته في التجديد اذ رأى بعض الرجعيين يعترضون سبيله"، ويقف حسين الرحال الى جانب الجبوري ويوضح الفارق بين الحرية الفكرية والتفكير الحر.
وفي حزيران 1937 واصل رؤوف الجبوري تحديه السلطات الرجعية فيصدر مجلة (الغد) لتقول في صدر صفحتها انها : "مجلة تقدمية حرة شعارها مكافحة الاوهام" لعدد واحد فقط، فيواصل الشيوعيون تحديهم باصدار مجلة (العصر الحديث) في ايار 1937 لصاحبها سليم رؤوف وكتب فيها كل من عبد الفتاح ابراهيم وكامل قزانجي وذنون ايوب وناظم الزهاوي.
ومن المجلات اليسارية المهمة والتي استمرت ثلاث سنوات، (المجلة) الصادرة في مدية الموصل في كانون الاول 1938 الى حين بادر الحزب الشيوعي العراقي مجددا الى اصدار جريدته المركزية باسم (الشرارة) في كانون الاول 1940 والتي صدر منها 51 عددا لترفع شعارت تندد بالفاشية وحربها الاستعمارية ضد العالم الحر واستمرت بالصدور لمدة ثلاث سنوات نشرت خلالها: الدعاية والكفاح ضد النازية، والمطالبة بالحريات الديمقراطية بما فيها حرية التنظيم والصحافة، والمطالبة بتوفير الخبز للشعب، ونشر الدعاية الماركسية اللينينية وفضح الافكار والاساليب المعادية للشعب، والدعوة لتوحيد الجهود ضدها وفضح المسؤولين عنها، وغيرها من الامور الاخرى. كما رفعت الجريدة دعوتها الى العمل عن طريق النضال الوطني الثوري المبني على اساس الجبهة الوطنية الموحدة.
وفي اعقاب سيطرة الانشقاقيين عن الحزب على الشرارة، قررت اللجنة المركزية للحزب الشيوعي في اجتماعها في شهر كانون الاول 1942 اصدار جريدة (القاعدة) حيث صدر عددها الاول في شهر كانون الثاني 1943 حتى اذا ما وضعت الحرب العالمية الثانية اوزارها، وانتصار المعسكر الديمقراطي بعد اندحار الفاشية، بادر وزير الداخلية الوطني المعروف سعد صالح في الثاني من شهر نيسان 1946 الى اجازة الاحزاب السياسية في العراق عدا الحزب الشيوعي، الا ان الحزب نجح في تأسيس عصبة مكافحة الصهيونية واصدرت جريدتها (العصبة) في 7 نيسان من العام المذكور ?تى عددها 51 في حزيران، اي بعد شهرين فقط من صدورها.
لقد لعبت نشرات الحزب الشيوعي دورا رياديا في المعارك الوطنية وفي تأجيج الرأي العام ضد الاستعمار والحكومات الرجعية المتعاقبة على الحكم، كما حدث في وثبة كانون الثاني 1948 ضد معاهدة بورتسموث الجائرة مع بريطانيا والتي قبرها الشعب في مهدها، ونجح بعد ثلاثة اشهر من انتصار الوثبة في اصدار جريدة (الأساس) في الثالث من نيسان لمديرها المسؤول شريف الشيخ مكرسة اعدادها القليلة لقضية التحرر الوطني ودور الحركة الوطنية العراقية في تلك المرحلة. واصدر بعد ذلك، جريدة (الهادي) لعدد واحد فقط في 29 تشرين الثاني من العام المذكور.
وسجلت احداث 1953 و1954 في اعقاب انتصار انتفاضة تشرين 1952 وانتزاع الشعب بعض المكاسب، شكلا من اشكال النضال الجماهيري بعد صدور الوثيقة الوطنية للحزب في مطلع عام 1952 والتي رسمت الطريق امام الجماهير وفق اهداف سياسية واقتصادية آنية لانتزاع حقها عن طريق العمل التنظيمي واتحاد القوى الوطنية وتصعيد النضال الصدامي على كافة المستويات، ومنها، العمل النشط داخل صفوف القوات المسلحة والذي تطور في نهاية عام 1954 الى تشكيل اللجنة الوطنية العليا لاتحاد الضباط والجنود، واصدر جريدة سرية باسم (حرية الوطن) في كانون الثاني 1955،?كما اولى اهتماما بالسجناء السياسيين فاصدر صحف سرية مخطوطة (السحين الثوري) في سجن نقرة السلمان عام 1953 و(كفاح السجين الثوري) في 7 تشرين الثاني 1953 في سجن بعقوبة، ونشرة باسم (الجبهة الوطنية) في سجن بعقوبة ايضا.
واهتم الحزب الشيوعي بالمثقفين والادباء فاصدر مجلة (الثقافة الجديدة) في تشرين الثاني 1953 تحت شعار مجلة التفكير العلمي والثقافة الحرة لثلاثة اعداد فقط اذ كبست الشرطة العدد الرابع في المطبعة ولم يصدر الا بعد ثورة 14 تموز 1958، ولا تزال تصدر حتى الآن، وهي من انجح المجلات الثقافية في العراق.
في الكونفرنس الثاني للحزب عام 1956 قررت اللجنة المركزية تغيير اسم جريدته الى اسم (اتحاد الشعب) وصدر عددها الاول في ايلول من العام المذكور، وفي 9 اذار 1957 تشكلت جبهة الاتحاد الوطني وفق البرنامج والاهداف التالية:
1 - تنحية وزارة نوري السعيد وحل المجلس النيابي.
2 - الخروج من حلف بغداد وتوحيد سياسة العراق مع سياسة البلاد العربية المتحررة.
3 - مقاومة التدخل الاستعماري بشتى اشكاله ومصادره وانتهاج سياسة عربية مستقلة اساسها الحياد الايجابي.
4 - اطلاق الحريات الديمقراطية الدستورية.
5 - الغاء الادارة العرفية واطلاق سراح السجناء السياسيين والمعتقلين والموقوفين السياسيين واعادة المدرسين والموظفين والمستخدمين والطلاب المفصولين لاسباب سياسية.
وبعد سنة واحدة وثلاثة اشهر، فجر الشعب العراقي وبتضامنه مع الجيش ثورة 14 تموز الوطنية الديمقراطية، لتصدر جريدة الحزب المركزية (اتحاد الشعب) بشكل علني في كانون الثاني 1959 لتدافع عن منجزات ومكاسب الشعب واهمها: تأسيس الجمهورية قبر حلف بغداد العسكري العدواني - الخروح من منطقة الاسترليني اجلاء القوات البريطانية من قاعدتي الشعيبة والحبانية - اطلاق الحريات الديمقراطية وتشكيل النقابات العمالية والجمعيات الفلاحية والنقابات المهنية - تشريع قانون الاصلاح الزراعي - اصدار الدستور الجديد الذي نص على ان العرب والاكراد شركاء في الوطن - تشريع قانون الاحوال المدنية الذي ساوى المرأة باللرجل صدور القانون رقم 80 لاستثمار النفط وتأسيس شركة النفط الوطنية، وغيرها من الانجازات. الا ان الجريدة لم يكتب لها الاستمرار بعد تكرر المؤامرات الرجعية ضد الثورة، كمحاولة اغتيال قائد الثورة الشهيد عبد الكريم قاسم، ومؤامرة الشواف في الموصل، ومؤامرة شركات النفط في كركوك بمناسبة العيد لاول للثورة.
وكانت قد صدرت ومنذ اسابيعها الاولى للثورة، صحف يسارية ناجحة كصوت الاحرار لـ (لطفي بكر صدقي)، و14 تموز لنعيمة الوكيل، والثبات لمحمود شوكت، والحضارة لمحمد حسن الصوري، والانسانية للشاعر كاظم السماوي، والرأي العام للجواهري الكببير، والتقدم لمحمود البريفكاني، الى جانب صحف ومجلات المنظمات الديمقراطية كالشبيبة والطلبة والمرأة والمنظمات المهنية.
اعتبرت جريدة (اتحاد الشعب) بالرغم من عمرها القصير، جريدة متطورة من الناحيتين المهنية والسياسية، وكانت توزع باعداد كبيرة وصلت بحدود 25 - 30 الف نسخة يوميا، بالرغم من منع بيعها في الكثير من مدن جنوب العراق، بل ومنع تداولها في دوائر الدولة، الا ان اقبال الجمهور على شرائها، اقلق القوى الرجعية التي نجحت في تأليب عبد الكريم قاسم ضدها، فعمد الى اغلاقها بحجج واهية.
وبعد احتجاب (اتحاد الشعب) العلنية، استبدل الحزب أسمها الى (طريق الشعب) السرية، والتي لا تزال تصدر الى يومنا هذا، وهي تواصل العطاء خلال 50 عاما من عمرها، في سوح المعارك الوطنية من اجل تحقيق شعارها المركزي "وطن حر وشعب سعيد". وصدرت الى جانب مجلة الثقافة الجديدة العلنية، جريدة (الفكر الجديد) لقاسم حسين العزيز وفخري كريم لفترة طويلة.
عمد الحزب الى تسمية صحفه المركزية باسماء تتماشى ومقتضيات المراحل السياسية التي تمر في البلاد. فعندما اصدر اول صحيفة له بعد التأسيس عام 1935 اطلق عليها اسم (كفاح الشعب) ضد الاستعمار ومشاريعه وضد الحكم الملكي الرجعي الذي كان ينفذ تلك السياسة، وان يرفع الشعب من وتيرة نضاله وبشتى الطرق النضالية للتخلص من النظام. وعند اختياره اسم (تحاد الشعب) انما اراد تجميع وتوحيد كل القوى الوطنية في بوتقة النضال الوطني التحرري، فكان له ما اراد في التحضير لثورة 14 تموز 1958. وهذه التسمية جاءت لتحل بديلا عنها فيما بعد جريدة (طريق الشعب) وهو الطريق الذي سلكته قوى الشعب ولا تزال، بابا لتحقيق كامل حقوق واهداف هذا الشعب.
وكانت قد صدرت الى جانب طريق الشعب في سنوات المنفى، جريدة (عراق الغد) في لندن، وجريدة (رسالة العراق) بعد انتقالها من دمشق الى لندن لمدة عشر سنوات وهي شهرية وذات مستوى متطور استمرت بالصدور حتى سقوط النظام الدكتاتوري عام 2003 حيث لعبت دورا مهما في تعرية النظام الدكتاتوري وفضح ارهابه، ومد الجسور بين المعارضة الوطنية في الخارج، وقوى الداخل التي تقارع اعتى دكتاتورية عرفها العالم في العصر الحديث.
لقد لعبت الصحافة اليسارية والشيوعية، السرية منها والعلنية، دورا متميزا وهي تزرع الافكار التقدمية والخيرة بين صفوف ابناء الشعب العراقي في معارك الاستقلال والعمل الوطني المتواصل ضد الاستعمار والنظام الملكي، وفي حماية وصيانة منجزات ومكاسب ثورة 14 تموز 1958، والدفاع عن الثورة ضد اعدائها، والوقوف بجرأة وثبات وهي تقارع انقلابيي شباط الأسود عام 1963، ولم تتوان لحظة واحدة في اداء دورها المطلوب لمقاومة حركات الردة، ابتداء من انقلاب تموز 1968 ومرورا بسنوات المنفى الطويلة ابان فترة حكم صدام حسين التوليتاري. وواصل الحزب في اصدار مطبوعاته خلال سنوات الكفاح المسلح في جبال ووديان كردستان العراق، ومن ابرزها جريدة (نهج الانصار).
واليوم ونحن اذ نحتفل بالعيد الثمانين للصحافة اليسارية والشيوعية في العراق، علينا ان ننحني اجلالا لشهداء هذه الصحافة: جمال الحيدري، عبد الرحيم شريف، عدنان البراك، ابو سعيد، نافع يونس، خليل اسماعيل، سامي العتابي، وآخرين.
لقد عرف العراق ثلاث مدارس صحفية طيلة تاريخ الصحافة الطويل، اي منذ منتصف عشرينيات القرن المنصرم حتى يومنا هذا، وهي:
اولا: مدرسة (البلاد) المهنية التي دربت خيرة الصحفيين الذين اصدروا فيما بعد صحف ومجلات عدة، ومنهم من يزاول العمل في ايامنا هذه في مختلف مجلات العمل الاعلامي.
ثانيا: مدرسة (الاهالي) الديمقراطية في اصداراتها الاهالي وصوت الاهالي ونداء الاهالي، والتي تدرب فيها البعض من الصحفيين والكتاب الشيوعيين.
ثالثا: مدرسة (طريق الشعب) التقدمية الاشتراكية، التي تربى في سنين صدورها اكثر من خمسين اعلاميا يشغلون اليوم رئاسة تحرير صحف يومية مهمة كالصباح والمدى وقنوات فضائية مختلفة، بل وفي وسائل اعلامية عربية.