مدارات

ذكريات المنشورات الأولى / إحسان شمران الياسري

هي الساعةُ الخامسةُ عصرا من يومٍ تموزيٍّ لاهب.. والموقعُ بيتٌ طينيٌ في ريف الكوت ضمن مشروع الدجيلة، وتحديدا ضمن (الشاخة 8) وهي نهر متوسط يتفرع من نهر الدجيلة المرتبط بنهر دجلة العظيم عند مقدم سدة الكوت الرائعة.
يجلس أبوگاطع وأذنه على المذياع يستمع لإذاعةٍ مشوشةٍ يغطُ فيها صوتُ المذيعِ ويعلو.. لأن البثَ على الموجةِ القصيرةِ، يتطلب الأمر تحريك موقع المذياع وتعديل وضع الهوائي (الأريل) ليلتقط ما أمكنه من البث البعيد..
ما أتذكره الآن، ليس صوت المذيع، ولا ما يُذاع، بل ذلك العرق الذي يتصببُ منا ونحن نجلس حابسي الأنفاس، في جوٍ خانق بالحرارة، وهواء غائب، حتى تنتهي نشرة الأخبار، فننتشر بين الأشجار أو في (الحوش)بحثا عن ظلٍ، أو قيلولة.
كان هذا منتصف الستينيات من القرن الماضي، ربما بعد شباط الاسود عام 1963 وحتى عام 1966 حيث غادرنا بعدها هذه الدار وانتقلنا الى دار أخرى ضمن مشروع الدجيلة أيضا (شاخة 10)..
الدار الطينية الجميلة، والبستان الكبير الذي تتوسطه، والفقر الشديد، والعائلة البسيطة الجميلة المترابطة بالحب والعوز والثقافة المتوازنة، كانت أركان البيئة التي مارس فيها الأديب والصحفي الراحل شمران الياسري أبوگاطع عمله الصحفي مراسلا لإذاعة صوت الشعب العراقي ولعدد من الصحف والمجلات السرية، وربما العلنية ولكن بأسماءٍ مستعارة. وقد علمت لاحقا أنه كان يرسل تسجيلات بصوته الى الإذاعة التي كانت تذيعها في يوم معين من الأسبوع، وربما كان هذا سبب تحلقنا حول المذياع.
كان شمران الياسري متخفيا عن أعين السلطة، يمارس عمله الصحفي والتنظيمي في ريف الكوت وفي مدن وأرياف الوسط والجنوب عموما، متنقلا مع رفاقه على ظهور الخيول، تلك الحيوانات الجميلة التي سطرت مع المناضلين قصصا لا تنسى عن قوة تلك الكائنات ووفائها، وحمايتها أحيانا للمناضلين عندما تحيق بهم المخاطر، وعن قدرتها على التفاهم معهم بالإشارة أو الصوت أو حتى بلغة العيون.
وكنا نتصرف مع (الفرس) وكأنها أختنا، نتحدث معها ونلعب، نطعمها ونسقيها ونسرح (معها !) أحيانا في المرعى عندما تأخذ استراحة من صاحبها..
وفي عيد الصحافة الشيوعية، ترد إلى ذاكرتي تلك الساعات التي ينفقها أبي في البستان وهو يكتب بيده (مُحرَرا) في صيغة نشرة حزبية أو ثقافية، لم أكن أفقه، ثم يسحبه على جهاز اسمه (الرونيو)، على شكل انبوب يعيد طبع المكتوب.. ثم يكلف أخواني (جبران أو رياض أو فائز) بإيصال المطبوعات الى مكان ما (كانت طبيعة عمله السرية لا تسمح بكشف بعض الأمور لي باعتباري (زعطوط !))، رغم أني كنت ألازمه وهو يكتب أو يسحب الرونيو في إحدى زوايا البستان والعرق يتصبب منا نحن الأثنين.. وكان يحب أن يدندن إحدى الأغاني وهو يعمل، ثم بين وقت وآخر ينظر الي ويبتسم أو يغمز لكسر الرتابة التي يعتقد أنها أصابتني، بينما أنا في غاية السرور والشد مع ما يقوم به. وكانت أمي تبعث غداءه إليه في البستان أحيانا.
بعد ذلك، حدث تطور مهم في وسائل عمله، وفي آلية النشر والكتابة، فقد وصلت (طابعة) إلى ريف الكوت قادمة من الاتحاد السوفيتي، كما علمت لاحقا.. لقد حدث الانقلاب في التكنولوجيا، وولّت الكتابة اليدوية وأصبح السحب بالرونيو يتم لحروف مطبوعة وجميلة، وأصبحت النشرات أكثر إناقة وأصغر حجما.
بعد انتقالنا الى مكان آخر من ريف الكوت، الشاخة 10، بدأت أكبر، وأرى رفاق أبي يحضرون على خيولهم الى بيتنا، يشقون صمت الليل بحفيف قلوبهم التي تلامس تربة الأرض وزرعها ودبيب كائناتها.. كانت الأرض والزرع يأنسان بهم ويشتاقان اليهم.. وما أن يصلو ويتناولوا أي شيء متاح من الطعام، يبدأ العمل والمناقشات.. يتحاورون في قضايا التنظيم، وفي الصحافة والمنشورات، والمواد المطلوب إيصالها للجماهير.. وهناك متسع من الوقت قبل الفجر ليقرأ أبوگاطع أجزاء من مسودة روايته، ويستمعون ويصوبون، وهو يدون الملاحظات..
لم يكن هذا العمل الإبداعي بعيدا عن القلق اليومي، بل القلق في كل ساعة. ومع أني كنت صغيرا لأنشغل بها، إلا أن واجبات المراقبة والحراسة و(النطارة) الليلية كانت قائمة من كل العائلة، والدتي بالدرجة الأولى ومن أعمامي وأخوالي ومن أخوتي الذين كانوا شبابا وربما يافعين.. كان رجال الأمن ومخبروهم موجودين في الأنحاء، لكن الريف كان مكانا مفتوحا للتخفي والمناورة والخداع، والإنسلال حتى من (خرم الأبرة) إن اقتضى الأمر ذلك.
ومن أجل هذا، كان لابد من إيجاد آليات وترتيبات لتغيير مكان الراحل أبوگاطع في أية لحظة، ونقل أدوات عمله ومعداته، خصوصا الطابعة، وكنا نسميها (المطبعة)، والرشاشة (السمينوف) التي لم تكن تفارقه.
وقد تحدّث الراحل عن الطابعة في إحدى الندوات، بعد أن غادر العراق، وكيف كان الحزب مضطرا الى تغيير مكانها عدة مرات لحمايتها من دهمات الأمن.
يقول أبوگاطع: كنا نتلقى المعلومات من أصدقائنا عن تحركات الأمن وجواسيسهم قبل وقت مناسب، فنرتب الأوضاع وننقل الطابعة والمنشورات بالوسائل المتاحة، ومنها التراكتورات التي كانت متوفرة لدى بعض رفاقنا أو أصدقائنا، وأحيانا نستخدم حمارا قويا كان يملكه أبو حسين، وهو أحد أصدقاء الحزب والمتعاطفين معنا، ولم يكن شيوعيا، رغم أن كل أخوته كانوا شيوعيين منظمين.
ويضيف أبوگاطع: أن «أبو حسين» لم يكن يبخل علينا بـ(المطي)، غير أنه (المطي) يكون عزيزا في أيام الحصاد، لأن (ربطة المطايا) تستند اليه في (المِدار) فوق البيدر لقوته وذكائه.. لذا نحرص على أن لا نطلبه منه في تلك الأيام.. غير أن يوما أسود حل بنا في موسم الحصاد، وأُبلغنا أن هجمة (زرگة) كبيرة للأمن ستدهم المنطقة، و(مطبعتنا) الثقيلة لا يحملها إلا (عبيّان) وهو (مطي) أبو حسين الأثير. وأرسلنا على عجل من يبلغ «أبو حسين» بأن (الحزب) يرجوه أن يقوم (عبيّان) بهذه المهمة المقدسة!..
وعندها صاح أبو حسين مستغيثا (الله أكبر.. حتى المطي ما خلص من الحزب!!).