مدارات

الكلمة الافتتاحية للعدد الأول لمجلة الثقافة الجديدة

في تشرين الاول 1953 ظهرت مجلة "الثقافة الجديدة" الى الوجود
قد يكون تعددُ المذاهب وكثرةُ الآراء من أسباب الأزمة الفكرية الحاضرة التي تجتاح العالم من أقصاهِ الى أقصاه؛ إلا أن باعثَها الرئيس، كما نعتقد، هو تطوّر المجتمع السريع الذي كان من نتائجه أنْ أصبحتْ كثيرٌ من الأفكار والتقاليد لا تتفق وحاجات المجتمع الحديث، ولا تنسجم مع مرحلة تطوره الحاضرة، فإذا الجيلُ الجديد يعزف عمّا لا يستجيب لحاجاته، باحثاً في هذا الحاضرِ المضطرب عن طريقِ المستقبل الصحيح.
إنّ التكوين الاقتصادي للمجتمع، والتكوينين الاجتماعي والنفسي اللذين ينشآن عنه، تساهم جميعها في تكوين أفكار المجتمع ومثله الأخلاقية وآرائه وتقاليده وقوانينه ونظمه التي تعطيه شكله، وتسند العلاقات الاجتماعية التي تربط الأفراد بعضهم ببعض، الى قواعد شرعية يحميها العُرف والقانون.
ولكن ما يحدث بين فترةٍ وأخرى من فترات التاريخ، هو أنْ يتطور التكوين الاقتصادي والاجتماعي والنفسي للمجتمع، وتبقى المُثل الأخلاقية والآراء والأفكار والعرف والقوانين التي نشأت عنه جامدة دون تبديل وتطوير؛ وعندئذ يظهر تناقض واضح بين شكل المجتمع ومضمونه، ويعظم هذا التناقض ويزداد كلما اتسعت الشقة بين هذين القسمين من كيان المجتمع؛ حتى إذا لم يعد باستطاعة شكل المجتمع الجامد احتمال مضمونه المتطور، يبدأ هذا الشكل بالتصدع؛ بل قد يصل به الأمر الى الانفجار، إذا اشتدّ الإلحاح من قبل العناصر الرجعية على حفظ الشكل القديم وتجاهل المضمون الجديد، كما حدث في الربع الأخير من القرن الثامن عشر في فرنسا، حين تناثرت أشلاء النظام القديم فاسحة للمجتمع لكي يتخذ الشكل الذي يُلائم مرحلة تطوره الجديدة. إنّ مثل هذا الانفجار لا يحدث دون كثير من الخسائر والضحايا، يمكن الاستغناء عن قسم كبير منها بالعمل الواعي المدرك.
إنّ تاريخ البشرية لَمليءٌ بالحوادث والدروس التي تؤكد لنا وجود هذه الظاهرة؛ بل إنّ الأزمة الحاضرة نفسها لَمثالٌ واضح يدل على أن كثيراً من الآراء والأفكار والتقاليد في مختلف ميادين الثقافة أصبحت لا تأتلف وحاجات المجتمع، وان الجيل الجديد يبحث عن مُثل فكرية جديدة هو في اشد الحاجة إليها.
إننا نعتقد أن واجب المفكرين في هذا العصر هو بذل الجهود الصادقة للمساهمة في تكوين هذه الأفكار والمُثل الجديدة التي تنسجم مع تكوين المجتمع وتطمئن حاجاته، ومحاربة كل عناصر الجمود التي لا تعترف بأن المجتمع يتطور ويتبدل، وأن من واجب الحركة الفكرية مسايرة هذا التطور والتبدل، بل إسنادهما كل الإسناد.
إنّ «الثقافة الجديدة» ولدت من هذه الحاجة الماسة لتساهم مساهمة فعّالة في سدها، فهي تقدمية لا تؤمن بوجود أفكار رجعية تحاول منعَ تقدّم المجتمع وعرقلة سيره؛ فتحارب هذه الأفكار معتمدةً على دروس التاريخ القيّمة، وعلى التفكير العلمي الصحيح.
إنها تعتقد أنّ الأفكار، وإنْ كانت تنشأ من ظروف اقتصادية واجتماعية ونفسية وتاريخية معينة، فإنها قوة ذات أثر فعال في تقدم المجتمع أو في تأخره؛ لذا نرى من واجبها استخدام هذا السلاح الماضي للتقدم لا للتأخر، وللسير الى الأمام، لا للرجوع الى الوراء.
إنّ «الثقافة الجديدة» مجلة علميّة، لأنها تعتقد أن الوسيلة الصحيحة للوصول الى الأفكار التي يتوق لها المجتمع، هي البحث العلمي، ونقصد به الدراسة الموضوعية لظواهر الحياة المختلفة، ومحاولة معرفة بواعثها الحقيقية، والطريق الذي اتجهت فيه. فهي تحارب النظريات غير العلمية، كالنظريات العنصرية والأفكار الفاسدة المغرضة، وتشجع الدراسات العلمية التي يتوخى فيها الحقيقة دون أغراض. ولذا فسيكون اهتمامها بما تحويه المقالات من أفكار قيّمة، لا بأسماء كاتبيها؛ فقد قاست الحركة الفكرية في الشرق كثيرا من استغلال الأسماء المعروفة ال?فكار الهزيلة السطحية في أذهان القراء.
إنّ «الثقافة الجديدة» مجلة شعبيّة لأنها تعتبر نفسها وسيلة من وسائل الشعب وسلاحاً في يده، فهي تعنى بمشاكله وتبحثها بعمق وبأسلوب علمي لكي تتوصل الى الحلول الإيجابية الصحيحة لها.
إنّ «الثقافة الجديدة» مجلة حرّة لأنها تؤمن بان حرية التعبير حق من حقوق الفرد، وأنها الوسيلة الفعّالة للوصول الى الحقيقة. وان هذه الحرية لا تتجزأ ولا تنقسم، فمن دون فسح المجال لجميع حَمَلة الأفكار المختلفة للتعبير عن آرائهم، لا يمكن التمييز بين الصالح والطالح، وإدراك الصحيح والخاطئ، لا سيما في مرحلة حرجة كالتي نسير فيها اليوم. إن الرأي المصيب لا بد أن ينتصر في معترك الأفكار. إنها تعتقد أن لا حق لأحد، كائن من كان، أن يفرض آراءه على الآخرين، وتعتبر جميع أولئك الذين يمتعضون لأنهم رأوا في المجلة رأياً مخالفاً لرائهم او فكرة لا تتفق وأفكارهم، أعداءً للحقيقة، لا يؤسفها مطلقا أن لا تتعاون معهم ولا تحظى بمؤازرتهم.
إنّ «الثقافة الجديدة» مجلة قومية، لأنها تحسب أن من حق، بل من واجب كل قومية من القوميات أن تعنى كل العناية بتراثها القومي، وتبذل جهدها في تطويره وتنميته وجعله في خدمة الأكثرية الساحقة من أبناء الشعب. إنها تشجع العراقيين – عرباً أو أكراداً – على الاعتزاز بتراثهم القومي، وربط حضارتهم الجديدة ونهضتهم الحاضرة، لا سيّما في الميادين الأدبية والفنية، بالتقاليد القومية العريقة والأسس التي أصبحت تكون جزءا لا يتجزأ من مميزاتهم القومية.
إنّ «الثقافة الجديدة» مجلة إنسانيّة، لأنها تعتقد أن البشر يستطيعون العيش إخواناً على الأرض، إذا احترم كلٌّ منهم حقوق الآخرين في الحياة، وتؤمن بأن الحضارة الإنسانية نتاجٌ ساهمتْ فيه جميع شعوب العالم وقومياته، وأنّ من حق جميع هذه الشعوب والقوميات أنْ تتمتعَ بها وتجنيَ فائدتها؛ فهي تعنى بالثقافات الأجنبية وبترجمة خيرِ ما فاضتْ به قرائحُ الكتاب العالميين.
إننا حين نخرجُ مجلة «الثقافة الجديدة» الى الوجود، مستجيبين لهذه الرغبة الملحة التي يحس بها كل عراقي، بل كل عربي؛ نرجو من صميم قلوبنا أن يساهم القرّاء في تغذيتها وتوجيهها بمقالاتهم وآرائهم، ونؤمل أملاً قوياً أنها ستستطيع الاستمرار في أداء رسالتها النبيلة.
لجنة التحرير