مدارات

حوار مع المبدع صفاء حسن العتابي (ابو الصوف) / الحلاوي عبدالرزاق

منذ فترة غير قصيرة تتملكني رغبة وشوق كبير الى زيارة اخي ورفيقي العزيز صفاء العتابي (ابو الصوف)، في بلد الغربة الذي يبعد عني مسافة ساعة من الزمن،وذهبت سدى الكثير من المحاولات للقاء به،الا إن الاحتفاء بالذكرى الثمانين لصحافة الحزب، دعتنا نحن الاثنين ان نتجاوز مصاعبنا والتزاماتنا العديدة للاسهام في هذه المناسبة، من خلال تسليط الضوء على تجربة (ابو الصوف) الصحفية التي تمتاز انها لاتقتصر على الفترة العلنية من تاريخ الصحافة الحزبية، إنما تعدتها لفترة اخرى أشد ضراوة في مواجهة الدكتاتورية، إذ كان ابو الصوف احد مقاتلي فصائل الانصار مابعد ثمانينيات?القرن الماضي.
استقبلني العزيز صفاء بوده ودفئه الحميمين المعهود بهما، وبمفرداته الصادقة النابعة من القلب والوجدان ( هله... حلاوة.. ياعسل ياريحان , هله برفيق المنظمومة العزيز ).
تبادلنا الهموم والاحاديث،وتطرقنا الى موضوع الصحافة الشيوعية العراقية وهي تدخل عقدها الثامن من العمر في التاريخ السياسي الحديث للعراق،والدور الرائد الذي لعبته الصحافة الشيوعية ولا تزال تلعبه هذه المهنة الشاقة والملتزمة بالكلمة الصادقة والشريفة والحريصة على ايصال الحقيقة الى الناس. وفي تكوين الوعي الطبقي والوطني لابناء شعبنا وفي الدفاع عن مصالح الكادحين واستقلال الوطن من اجل تحقيق الديمقراطية والعدالة الاجتماعية لابناء شعبنا.
واستعادت ذاكرتنا تلك الاسماء التي كان لها دور ارساء اللبنة الاولى في بناء هذا الصرح العظيم،في الكتابة والتحرير والتصميم والطباعة والنشر والتوزيع، والدور الثقافي والوطني والإبداعي الذي ارسته صحافة الحزب.ولايخفى على المتابع ماقدمته عائلة حسن العتابي، بشخص الاب المناضل المعروف، وأبنائه جمال والشهيد الخالد سامي في فترة السبعينيات،ومعهم ابو الصوف، ولاحقا الفنان فلاح مابعد 2003.إذ كان لهم الدور النشيط والمتميز في التحرير والتصميم والخط والطباعة، في طريق الشعب والفكر الجديد ومجلة الثقافة الجديدة،وتذكرت ما قاله ل احد الرفاق، من ان الرفيق فخري كريم مدير تحرير طريق الشعب أنذاك، نبّه جمال مازحا في احدى غرف المطبعة قائلا له ( ليش ما تجيبون امكم تشتغل وياكم حتى تصير الجريدة تصدر بأسم عائلة العتابي). وكانت إشارة تنطوي على مخاوف من مستقبل مجهول لم تدرك حينها.
حاولت ان استعيد حرارة تلك التجربة ودفقها وتوهجها، ببضعة اسئلة حفزت (ابو الصوف) ليشحذ ذاكرته، فكان هذا الحوار:
هل لك ان تحدثني عن البدايات. عن عائلتك.. والدك وعن أخوتك وكيف كان دعمهم لك ببداية عملك في مطبعة الرواد وما هو دورك آنذاك وما هي المؤهلات التي توفرت لديك وما مصدرها خصوصا وانت تقدم على حـمل رسالة انسانية نبيلة ؟
(إحنا والأمن جيران)، الاشارة الاولى، او قل المفارقة التي كانت تلازمنا ونحن نروح ونجيء للمطبعة يوميا، أية مصادفة غريبة أن نجاور دائرة الامن العامة التي لاتبعد سوى امتار قليلة عنا؟. الامر الذي اجبر العاملين في المطبعة على الاحتكاك ببعض رجال الامن من حراس وسواق وغيرهم ممن يتجولون في المنطقة, من تبادل التحية والسلام يوميا مرات عدة في اليوم الواحد الى تبادل الطرائف والنكات اثناء الذها ب الى المطبعة والعودة منها. للدرجة التي جعلت من رجال الامن يتندرون معنا حول بطاقات المرور وطبيعة العمل رغم معرفتهم بنا.
حتى تحولت هذه الاحتكاكات الى اغنية يتداولها رفاقنا في العمل داخل المطبــــعة في فترة (الجبهة الوطنية) بعد تحوير كلمات الاغنية الرائعة (احنا والقمر جيران) لصاحبة الصوت الرخيم المطربة فيروز.
دخلت عالم الصحافة بعمر مبكر حيث كان عمري آنذاك 17 عاما وبالتحديد في منتصف سبعينيات القرن الماضي عندما كنت طالبا في معهد الفنون الجميلة , قسم المسرح في بغداد.
الفضل الكبير يعود الى والدي المربي والصحفي المرحوم حسن العتابي الذي زرع فينا المثل والقيم الانسانية النبيلة و أوقد فينا حب الشيوعية مبكرا. حيث عمل محررا في صفحة التعليم والمعلم في جريدة طريق الشعب.
كما كان لأخي الاكبر الدكتور جمال دور رائع في دخولي الى عالم الصحافة،خصوصا وانه كان يعمل في مطبعة دار الرواد في اصدار مجلة الثقافة الجديدة , فله الفضل في اكتشاف موهبتي في الخط، فعمل على تطويرها وصقلها في هذا الميدان الحيوي من العمل الانساني والجماهيري. هذا الى جانب دور اخي الفنان الشهيد سامي العتابي الذي احتل موقعا مهما في تصميم جريدة طريق الشعب حيث كان واحدا من افضل مصممي الصحافة العراقية.
حينها عملت كمتدرب في اول الامر بالاضافة الى دراستي في المعهد الذي ساهم ايضاوبشكل فعال في تطوير موهبتي في فن الخط وانواعه ومقاسات الاحرف وحجم المساحة ومقاسات الصور والعناوين، وغيرها من الامور التي تتعلق بالعمل الصحفي والطباعي.
كيف كانت بداية مسيرتك الدراسية والفنية، واي انطباع تركه اليوم الاول من تكليفك بمهمة صحفية ؟
حياتي الدراسية لا تختلف عن حياة اي طالب في مقاعد الدراسة من مرحلة الابتدائية الى المتوسطة ثم انتقالي الى معهد الفنون الجميلة الذي مكنني من التعلم بالوسائل والاساليب الاكاديمية للعمل المسرحي , وبنفس الوقت ساهم في تطوير موهبتي في مجال فن الخط والتتلمذ على ايدي نخبة من الاساتذة والاكاديميين الذين لا ازال اجلهم واقدر منزلتهم افضل تقدير.
بعد مرور فترة من الزمن اصبحت اتقن العمل الصحفي الفني بجهدي وجهود كافة الزملاء العاملين في المطبعة , وعملت محررا مساعدا في قسم المحليات , وخلال فترة الكفاح المسلح وانتقال العمل الاعلامي الى كردستان كلفت حينها بأعداد تصميم جديد لجريدة طريق الشعب، وقد حظي اخراج الجريدة الذي قدمته آنذاك بالاهتمام والتقدير واعجاب المعنيين بذلك.
بلا شك ان اي مبدع يرى نتاجه واعماله ماثلة امام عينيه في الصحيفة الاولى واحدى أهم صحف العراق آنذاك التي كانت تطبع ما يتجاوز الــ 27 الف نسخة في اليوم، فانه بالتأكيد يشعر بفرح لا يوصف وبالزهو والاعتزاز بما قدم , ثم لا يمكنني ان اغبن دور ومكانة زملائي في العمل.
حيث عملت مع صحفيين مبدعين وذوي مؤهلات وخبرة مهنية عالية،وفنانين كبار، تعلمت منهم الشيء الكثير، جعلتني اشعر بفخر واعتزاز كبير بما قدمت من اعمال مهنية، وكانت حقا تجربة فريدة وجديدة آنذاك. وللعلم ان طريق الشعب لم تكن جريدة فقط، بل كانت مدرسة استقطبت الكثير من المبدعين من صحفيين ورسامين ومراسلين في العراق، كما كانت هناك دورات فنية وصحفية لمراسلي المحافظات وبشكل منتظم ومتواصل. كانت فعلا مدرسة حقيقية لأعداد كوادر صحفية تمتلك القدرة على ممارسة المهنة بطريقة اكاديمية سليمة.
بودي ان اشير الى ان روحية العمل في المطبعة كانت تتسم بالانسجام والتكافل بين جميع العاملين، وتسود اجواء العمل الحرص والجدية والمثابرة والتنافس الشريف وبنكران عال للذات، فضلا عن العلاقات الطيبة والودية بين العاملين، التي تتخللها (قفشات) البعض ومزاحهم بما لا يفسد للود قضية.كنا خلية نحل دائبة الحركة والانتاج. وبكل تأكيد كان لبعض الرفاق من رواد الصحافة المبدعين،الدور المميز، وخصوصا طيب الذكر المرحوم شمران الياسري (ابو كاطع) الذي كان حضوره يضفي جوا من البهجة والفرح الساخر اثناء العمل.
وهذا ما ترك اثره على كل العاملين في المطبعة، واثر بي شخصيا وبشكل كبير جدا في طريقة تفكيري وعملي واثار روح الفكاهة والسخرية الكامنة في وجداني والتي اغتنت وتواصلت معي بمرور الايام.
ما الصعوبات التي واجهتك في البداية؟
ابرز ما واجهته، كان يتمثل في اختيار مجال الابداع، هل في المسرح، الذي كنت متفوقا فيه ام في مجال العمل الصحفي؟ وحينها كانت الظروف السياسية والاجتماعية والفكرية السائدة آنذاك تميل الى الفكر اليساري وهذا ما دفعني الى التفكير والاهتمام بالعمل الصحفي، الذي وجدت نفسي فيه اكثر ابداعا من العمل في المسرح، وبالاضافة الى ذلك،القيود التي كانت تفرضها السلطة الدكتاتورية القائمة على ميادين الابداع وفي مقدمتها العمل المسرحي والنشاط الاعلامي ( الاذاعي والتلفزيوني) وتسييسها لصالح سلة الاستبداد.
هل هناك حدود فنية لم تتمكن من تجاوزها في هذا المجال وفي مجالك الفني والابداعي ؟
الابداع هو الانطلاق بكل حرية لتقديم منجز ما، وأي تقييد سيعيق المبدع بالتاكيد، لذا يسعى دائما من اجل حريته،في تحطيم كل مايعيق حركته لتأكيد هويته الإبداعية، تهشيم كل ما يعيقه عن العطاء ليكون منجزه قادرا على التوهج بالألق ذاته الذي اراده له. وبالتالي يترتب على المبدع، تطوير ادواته ومعارفه لتعزيز تجربته وخبرته على الدوام، كي يكون قادرا على استيعاب كل ما هو جديد في مجال عمله،وفي الحياة وكي يتمكن من مواجهة التحديات التي تعترض طريقه. ومن اجل ان يقدم الافضل دائما.
ليس بمعنى الوصول الى الكمال فهذه مهمة عسيرة جدا، وانما بهدف الوصول الى منجز يواكب الحداثة والتجديد والمضامين الانسانية في الحياة، الفنان ضد السكون والقيد وضد الجمود.
الصحافة الشيوعية تحديدا كيف تجدها اليوم بشكل عام مهنيا وجماهيريا, مع هذا الكم الهائل من الصحف ؟
الصحافة كما هو معروف إنعكاس لواقع الحياة السياسية والاجتماعية والثقافية في المجتمع. وما يدور في مجتمعنا العراقي بالغ الصعوبة والتعقيد من محاصصة طائفية وقومية، وفشل سياسي واقتصادي وارهاب وفساد على كل المستويات والمجالات،كل هذا وغيره يؤثر على المستوى الاعلامي والصحافي الجاري في البلاد.
وبرغم هذا الكم الهائل لعدد الصحف العراقية اليوم الذي وصل ربما الى اكثر او اقل من 100 صحيفة تصدر يوميا واسبوعيا، لكن ذلك لايمنع من القول إن هناك عددا محدودا جدا من الصحف العراقية تتمتع بمصداقية وبمهنية حرفية، لايمكن ان يغطي بريقها ولمعانها اي رماد او حصار.
اعتقد ان الصحافة اليسارية بشكل عام والشيوعية خصوصا تنشط في ظل ظروف استثنائية شديدة التعقيد موضوعيا وذاتيا،ورغم ذلك فهي تعمل جاهدة على إداء رسالتها. وهذا يعكس مدى الجهد الذي يبذله الصحفيون الشيوعيون العراقيون في متابعاتهم وتغطيتهم لما يدور في البلاد، لكن هذا لا يعني انها تخلو من الثغرات، حيث انها لم ترتق بمستواها الى ما هو مطلوب منها قياسا الى الصحافة والاعلام الاخر, هذا الامر مرتبط بقلة الدعم وضعف الموارد المادية، وايضا بظاهرة عزوف الكثير من الصحفيين في رفدها والكتابة اليها، وبالاضافة الى المغريات التي تقد?ها الصحف والفضائيات الاخرى وواقع الحال في العراق اصبح من يدفع اكثر يجذب اكثر، وبقدر غير قليل السياسة الحزبية المتبعة ودورها غير المحفز للعمل الاعلامي.
كما يجب ان لايغيب عن بالنا ان مهنة الصحافة مهنة محفوفة بالمخاطر خصوصا في بلادنا التي ازهقت ارواح مايقارب الــ 300 صحفي خلال فترة 8 ــــ 10 سنوات الاخيرة وهذا رقم مهول وخطير.
صحيح انه يمثل شهادة تقدير ووسام شجاعة على صدور الصحفيين العراقيين لكنه يعكس حجم المأساة التي يعاني منها المواطن العراقي بشكل عام وليس الصحافة فقط.
في هذا السياق هل تجد ان النقد في الثقافة وفي الادب العراقي قد اخذ مكانته اللائقة به للارتقاء بهذه المجالات الى مستوى يقلل من عيوبها ويكشف عن الابداع الكامن فيها ؟
النقد الموضوعي امر ضروري ومطلوب،من اجل الكشف عن الاخطاء والثغرات في اي منجز ابداعي،ويهدف الى الارتقاء به الى مستوى الاعمال الرصينة، سواء على مستوى الجانب الفني او على مستوى المحتوى والفكرة.
وهذا الامر يتطلب احترام الناقد لكل من المبدع والمتلقي، وان يتمتع بمستوى وعي ثقافي ومهني وتخصصي وحيادية موضوعية، كما يتطلب بصيرة نافذة وسليمة وذوقاً رفيعاً ونزاهة وصدقاً مع النفس.
المؤسف ان الصفة الغالبة للنقد الجاري في ظروف بلادنا الحالية لا يرقى الى مستوى النقد البناء، فالسائد نقد المحاباة والطمطمة على الاخطاء والبحث عن المنفعة الشخصية على حساب الوطن والمواطنة. لكن لا يمكنني ان انفي وجود اقلام ناقدة وضمائر حية تتمتع بحس وبمستوى عال من المسؤولية وهؤلاء من نعقد عليهم الامل في اصلاح الحال.
هل لديك كلمة اخيرة تحب ان توجهها الى القراء ؟
اذا كان لابد من كلمة فلا يسعني سوى الانحناء بكل اجلال وتقدير الى كل زملائي مبدعي طريق الشعب،الذين اكن لهم فائق الود والاحترام لما قدموه لي من دعم واسناد ومشورة،ساعدتني في الاهتداء الى طريق الابداع الصحفي والفني. وكذلك الحال الى رفاقي في قيادة الحزب آنذاك الذين عملت معهم في اجواء من الصداقة والرفقة الحميمة والتواضع والجدية والاصرار على تقديم كل عدد جديد من طريق الشعب بشكل لائق وبمستوى المسؤولية.
وبودي ان اشير الى ان علاقة عائلتي مع صحافة الحزب لا تزال قائمة على العطاء حيث ينشط أخي الاصغر د. فلاح الخطاط، وابنه حسام وكذلك ياسر جمال، في تقديم اية خدمة وبروح من المبادرة الجادة، لما فيه خدمة العمل الصحفي وهذا ما نفتخر ونعتز به،كون جريدتنا طريق الشعب لاتزال تنهل من الابداعية (العتابية) إذا صح التوصيف، واقولها مع احتفاظي بالتقدير لكل الذين عملوا ومازالوا يعملون في صحافة الحزب. فقد احتلت تصاميم الملصقات الحزبية مكانة مميزة بمناسبة العيد الثمانين لميلاد الحزب , حيث فاز الفنان الشاب حسام فلاح بالمرتبة الثالثة على ملصقه الجميل. كما ابدع هذا العام د. فلاح الخطاط بملصق خرج عن المألوف في تصاميم الملصقات الحزبية. كذلك قدم د. جمال العتابي الملصق الاجمل بمناسبة العيد الثمانين للصحافة الشيوعية.
هكذا انهينا الحوار الشيق والممتع على أمل ان تتكرر لقاءاتنا لاحقا.
ختاما لابد لي من القول ان لدى الشيوعيين العراقيين وكل المخلصين من الصحفيين العراقيين الاحرار، الحق كل الحق في الفخر والاعتزاز بكل هذا السجل التأريخي المشرف والمسيرة النضالية الرائدة للصحافة الشيوعية ولتجربتها الغنية وعلى كل المستويات. تلك المسيرة التي اغنت قراءها بمختلف الدراسات العلمية والثقافية والسياسية والفكرية والاقتصادية،وفي كل مجالات الابداع والفن والشعر وفي حياة المبدعين ونتاجاتهم المتنوعة واصبحت وثائق موضوعية للباحثين على صعيد الثقافة والمجتمع ولتاريخ الحركة الوطنية العراقية بشكل عام.
كما لهم الحق ان يتذكروا بكل احترام واجلال تلك النجوم الساطعة رموز الشهامة والاباء شهداء الصحافة الشيوعية العراقية، الذين اصبحوا مشاعل تنير درب الاجيال الجديدة وهي تواصل مسيرتها بكل عزم واصرار على الوفاء للمبادىء النزيهة للصحافة الحرة،والمدافعة عن قيم شعبنا واهدافه وتطلعاته نحو الوطن الحر والشعب السعيد والحياة الكريمة.
ولنجعل من هذا اليوم عيدا وطنيا مجيدا لكل الصحفيين والمجد كل المجد لشهداء صحافة الوطن.