مدارات

لنتذكر محاسن عراقنا قبل أن يدمره (الأبطال) فيصبح في عداد الأموات / أحمد الواسطي

جثث وحرائق وطواويس
أنا حزين صباح هذا اليوم. في فمي مرارة العلقم وعدت أشم من جديد رائحة جثث عراقية كما كنت أشمها قبل سنوات. كان نومي البارحة سلسلة كوابيس لم تنقطع إلا عندما استيقظت من النوم في الرابعة فجرا: سيوف مشهرة ودماء تغطي الشوارع العراقية وجثث ملقاة على الأرصفة وفي المزابل وثكالى يغتسلن بدماء الأبناء وأطفال ينوحون. شاهدت الفضائيات العراقية فلم أر سوى حشود نادبة وبعدها تظهر ديكة تتفاصح وتتعارك وتتصايح، وطواويس منفوخة الريش تلقي خطابات برطانة لا يفهمها أحد، عن الوطن ووحدة العراق وضرورة الحفاظ عليه ورفض تقسيمه. وعندما تنتهي الخطابات تظهر من جديد أشلاء القتلى وركام السيارات المفخخة المتفحمة والجثث الملقاة على الأرض ومسدسات كاتمة الصوت وقوافل النادبات والنادبين.
وحالما تختفي هذه المشاهد تظهر من جديد صور الديكة المتعاركة والطواويس منفوخة الريش وكلها تتحدث، مرات بصخب وآخرى بأصوات خافتة، عن البطولة والكبرياء والشمم والإباء والحق والعدالة والعادات والتقاليد. وحالما تنهي الطواويس خطبها وأحاديثها بالقول: نحن نحب (أخواننا) الشيعة، نحن نحب (أخواننا) السنة تظهر من جديد مشاهد الرعب إياها. وهكذا، وهكذا، وهكذا تدور ذات الحلقة المفرغة. وأسأل نفسي: هل سرحنا، نحن العراقيين، العقل في إجازة مفتوحة لا نهاية لها؟ هل كتب علينا أن نرفع صخرة سيزيف من أسفل الجبل إلى أعلاه ثم تتدحرج فنعود نرفعها ثانية إلى الأعلى فتعود تتدحرج مرة آخرى إلى الأسفل، ونظل نعيش في عذاب أبدي؟ هل ضاق العراق بنا أم نحن الذين ضقنا به ذرعا ونريد أن نتخلص منه بأي ثمن؟
من هو البطل وماذا تعني البطولة؟
أما حان الوقت فعلا أن نعيد، نحن العراقيين، النظر في معاني مفرداتنا القاموسية المستخدمة؟ أن نعيد النظر في مفردات الشجاعة والبطولة والكبرياء والكرامة والشرف والعار والغيرة والرجولة والعزة والإباء ..؟ من هو البطل؟ ذاك الذي يعترف بخطأه فيندم ويبكي كالطفل، أم ذاك الذي تأخذه العزة بالإثم فيتمادى في أرتكاب الإثم؟ من هو الورع التقي العفيف الشريف الطاهر الغيور الأبي؟ الذي يهرق دم ضعاف الناس وبسطائهم بأسم الدفاع عن الفضيلة والأخلاق والشرف، أم ذاك الذي يغمى عليه وينهار عند رؤيته لقطرة دم بشري مراق؟ من هو العاهر الحقيقي؟ ذاك المختلس الراشي الذي ينهب المال العام، أم تلك الشابة التي أضطرها حظها العاثر وظروف العراق البائسة أن تبيع جسدها للعابرين، بعد أن فقدت أباها، أي مركز توازنها النفسي وهي في المهد، أو زوجها وهي في عز الشباب؟
هل نحن شعب (عظيم) كما تقول قصائدنا وأغانينا وهوساتنا وخطبنا وأناشيدنا، أم نحن كما شعوب العالم الأخرى، لنا عيوبنا ولنا محاسننا؟ لو كنا شعبا (عظيما) فكيف ولماذا (نورد الرايات بيضا ونصدرهن حمرا قد روينا) بدماء بعضنا البعض، والغالبية العظمى من هولاء (البعض) هم من ضعاف الناس الذين لا حول لهم ولا قوة؟ لماذا يقول الواحد منا ويتعهد، لا لنفسه، إنما لرئيس قبيلته وطائفته أو حزبه أو كتلته: (لا تعجل علينا وأنظرنا نخبرك اليقينا)؟ واليقين ليس مراجعة الأخطاء والعيوب، وإنما مزيد من سفك دماء الذين لا حول لهم ولا قوة؟
أكلة الأكباد
تركت تلك الأسئلة معلقة في الهواء ورحت أعيد تصفح جرائد الأسبوع الماضي الفرنسية. يبدو أن رعبا حقيقيا بدأ يسيطر على قلوب وأذهان الأوربيين أثر مشاهدتهم للشريط الذي يعرض صورة (مجاهد في سبيل الله) وهو يلتهم كبد جندي سوري. وحتى قبل عرض هذا الشريط كانت الصحافة الفرنسية والأوربية عموما، قد عادت من جديد، مثلما كان شأنها أيام اشتداد الصراع المليشاوي المذهبي في العراق عقب تفجيرات سامراء، لنشر مقالات وتقارير عن ظاهرة تجنيد مواطنين أوربيين من أصول عربية ومسلمة وإرسالهم من قبل تنظيمات إسلامية وبتمويل من دول عربية، للمشاركة في القتال على الجبهات السورية جنبا إلى جنب الجماعات الإسلامية (المجاهدة). وكانت أسبوعية (جون أفريك) الفرنسية قد ذكرت في عددها الصادر بتاريخ 12/04/2013 معلومات تقول أن قطر تمول منظمات (إنسانية) مهمتها تجنيد متطوعين للقتال في صفوف الحركات الإسلامية المقاتلة في سوريا.
الدول الأوربية بين الصدمة والحرج والهلع
وإذا كانت أجهزة الاستخبارات الأوربية ووسائل الإعلام فيها تعرف جيدا أي عنف قاس يتعلمه مواطنوها الذاهبون إلى سوريا، وتخشى من عودتهم إلى أراضيها مع خبراتهم القتالية التي يحصلون عليها هناك، فأن شريط الفيديو المذكور جعلها تعيد التفكير خصوصا التي تدعم حكوماتها المعارضة السورية المسلحة بدافع قيام نظام ديمقراطي. الشريط سبب للديمقراطيات الغربية الداعمة للمعارضة السورية المسلحة حرجا شديدا، إذ كيف توفق بين مطالبتها بقيام نظام ديمقراطي في سوريا وبين دعمها لجماعات متطرفة تأكل أكباد الشر؟ وكيف توفق بين دعمها للمعارضة ال?ورية المسلحة وهي تعرف أن الجماعات الإسلامية المتطرفة لها فيها حصة الأسد وترفض، من جهة أخرى أن يلتحق مواطنوها الأوربيون بتلك المعارضة ! وجاء مقتل العسكري البريطاني في الثاني والعشرين من الشهر الجاري ليعزز من هلع الأوربيين لأنه نقل إلى الشارع الأوربي نسخة طبق الأصل، لما يحدث على جبهات القتال السورية من قبل (المجاهدين). (ف المجاهدون) الذين قتلوا الجندي البريطاني نفذوا العملية ببرودة أعصاب تشبه تماما تلك العمليات التي نفذت وما زالت تنفذ في العراق من قبل مجاميع (جهادية) تنتمي لهذا المذهب أو ذاك، وتشبه عمليات الذبح التي تحدث الآن على الجبهات السورية. والذي يثير رعب الأوربيين أن المنفذين من مواطنيها لعمليات كهذه هم من فئة الشباب الذين يحملون جنسيات أوربية وعاشوا وترعرعوا في أوربا ودرسوا في مدارسها حتى لو كانوا من أصول أجنبية عربية ومسلمة. ورأت مصادر فرنسية أن (الجهاديين) الفرنسيين الشباب بدأوا يغادرون إلى سوريا بعد أن كانوا سابقا يتوجهون نحو أفغانستان وباكستان والصحراء الأفريقية. ونقلت صحيفة (لوموند) الفرنسية في عددها الصادر بتاريخ 27/05/2013 معلومات عن دوائر المخابرات الفرنسية تقول إن عدد من التحق من الفرنسيين بالجبهات السورية وصل نحو 200 شخص حتى بداية شهر آيار/ مايس الجاري. وتتخوف السلطات الفرنسية من عواقب عودة هؤلاء (المجاهدين) إلى فرنسا.
وهزني وأنا أتابع هذه الأخبار كيف أن رئيس الوزراء البريطاني قطع زيارته لفرنسا فورا وحال سماعه بمقتل الجندي وعاد مسرعا لبلاده ليترأس خلية أزمة فوق العادة حضرها الوزراء المعنيون وكبار مسؤولي الأجهزة الأمنية والاستخباراتية أثر وقوع الحادث. ترى ، كم خلية أزمة عقدت في بغداد والعراق ينام ويصحو على أصوات الانفجارات !!
أبو نواس شاعر التسامح والسلم الأهلي والوحدة الوطنية العراقية
لم يخطئ من قال: (لو ضاقت بك الدنيا تذكر أيام عرسك). وعرس كل عراقي في هذه الضائقة السوداء التي نعيشها هو تلك اللحظات المشرقة في تاريخنا العراقي وفي ثقافتنا. بالطبع، لكل واحد منا لحظات يراها مشرقة وقد يراها غيره كالحة السواد. ولأن التاريخ أو الماضي هو من يقف، إلى حد كبير، وراء إراقة دمنا العراقي هذه الأيام، فالأفضل أن نختار لحظات مشرقة من ذاك الماضي حتى نتأكد (لأن واقعنا المعاش يكشف الشك وليس اليقين) أن العراق الذي نسكنه ليس صنيعة البارحة، ولا هدية قدمتها لنا بريطانيا بعد الحرب الأولى، وأن (أخوة) العراقيين ليست وهماً من الأوهام، وأن الفرح الحقيقي الآدمي ليس أمنية مستحيلة إذا تكسرت أو صدأت السيوف وبارت أشعارها وثقافتها، وارتفع صوت صرير الأقلام المبشرة بحياة آدمية تحكمها القبلة والابتسامة واليد المبسوطة، لا شريعة الغاب. قلت لكل منا لحظاته المشرقة. أنا أخترت أبو نواس الحسن بن هانئ الأكثر تسامحا، إطلاقا، ذاك الذي قال عنه الإمام الشافعي: (لولا مجون أبي نواس لأخذت منه العلم.) وقال عنه ابن خالويه: (لولا ما غلب عليه من الهزل لاستشهد بكلامه في كتاب الله تعالى.) أخترته لأنه عراقي أكثر منا جميعا.
أبو نواس ضمن (مقيلا) بغداديا دون منة من أحد
أبو نواس يضع خارطة العراق أمامه، ولكن ليس الجغرافيا الطبيعية فحسب، إنما الجغرافيا البشرية والجغرافيا السياسية والجغرافيا الانثروبولوجية. ثم يختار من خارطة العراق عاصمته بغداد. وإذ ظل الجواهري يتوسل (مستجم النواسي)، أي دجلة بغداد أن (تضمن) له (مقيلا سواسية بين الحشائش أو بين الرياحين) فأن أبا نواس (الغاسل الهم في ثغر وفي حبب) كان قد انتزع انتزاعا ذاك (المقيل). بغداد كانت قد ضمنت (لملبس العقل أزياء المجانين) الحسن بن هانئ (مقيلا) في كل مكان على امتداد مساحتها وأكثر من مساحتها، مرة باختيارها هي، أي بفضل أجواء الحريات السائدة فيها، وثانية باختيار أبي نواس نفسه وبحرية تكاد أن تكون مطلقة، وهي حرية قدمت بعضا منها أجواء بغداد القائمة وقتذاك، وقسما آخر انتزعها الشاعر انتزاعا. بغداد فتحت أبوابها على مصاريعها (لراهن السابري الخز في قدح) وقبلته واحدا من أبنائها بدون شروط ولا قيود، حتى دون أن (يتبغدد) وكأنه وصلها (متبغددا) أصلا، أو كأن أمه ولدته (متبغددا)، فهو بطبعه يزدري البادية وأعرابها بكل ما عندهم من قسوة وجلف: (ولا تأخذ عن الأعراب لهوا ولا عيشا فعيشهم جديب). ومنذ أن شرب أبو نواس من ماء بغداد أعلن انحيازه: (فهذا العيش لا خيم البوادي) وبعد ذلك طلق الدنيا، كل الدنيا، بعد أن سلبت بغداد عقله وهام عشقا بها وخدر سحرها ذاكرته وكاد أن يلغيها، بل ألغاها، فلم يعد يتذكر أبو نواس، أو لا يريد أن يتذكر حتى ملاعب صباه وصداقات شبابه حتى في البصرة الأثيرة على قلبه:
أيا من كنت بالبصرة
أصفي لهم الودا
شربنا ماء بغداد
فأنساناكم جدا
ولا تشكوا لنا فقدا
فما نشكو لكم فقدا
جنان الكرخ
ثم يختار أبو نواس من أماكن بغداد (كرخها) التي تبدو في شعره وكأنها مقر العمليات التي منها ينطلق وإليها يعود سواء في مجالسه الرسمية النهارية في درب القراطيس وفي معسكر المهدي في الوراقين، أو في مجالسه الليلية. الكرخ هي المبتدى والمنتهى. مرة تجده في (جنان الكرخ المونقة تشدو فيها من الطير أصناف مشتتة في مجلس يضحك تفاحه بين الرياحين إلى خضرته)، ومرة ينتقي جلاسه وكلهم (إخوة صدق من خير هذي العباد / شريف ابن شريف، جواد ابن جواد) ويقضي وإياهم ليلة كرخية (يا ليلة بالكرخ كم لذة سيقت إلينا ليلة الكرخ). الكرخ عند أبي نواس ينبوع للفرح لا يعرف النضوب، وهي حصنه وملاذه الأخير. كلما رغب أبو نواس أن يرتاح ويبعد عن ذهنه بذاءات بغداد وغدرها وظلمها وحروبها ومكرها السياسي ومؤامرات قصورها السلطانية، وجبروت أصحاب القرار ومعاركهم الجانبية واختلاساتهم وتدينهم المزيف، فأنه يختار عينة من أشرف الناس (إخوة صدق) ولا يجد مكانا يذهب بهم إليه غير الكرخ: (ألا قوموا إلى الكرخ).
هو آدمي من خلق الله وهذا يكفي
وعندما يضيق أبو نواس ذرعا بالكرخ فأنه يختار قرى الكرخ (ولي بقرى الكرخ مصيف). ولأن أبا نواس ولد من بطن أمه حضريا ومتحضرا ومتمدنا وأمميا ومسالما فأنه لا يذهب إلى قرى الكرخ ليلتقي ( قبيلات وأفخاذا) ،فهو لا شأن له بالقبائل والأفخاذ رغم أنه يذكرها ويعرفها بالتفاصيل ويبدي احتراما لبعضها، وإنما يبحث عن مجالس جلاسها (بشر) وكفى، ففي مجالس كهذه لا يسألك أحد عن أصلك وفصلك ولا (لا ترى قائلا من ذا ولا ماذا). أما إذا ظل في الكرخ فأنه أيضا لا يرتاد تلك المجالس التي يسأله أصحابها (ممن الرجل؟ / من أي عمام أنت؟) لأنه، ببساطة لا يعرف كيف يجيب، إنما يتوجه نحو تلك التكتلات والتجمعات البشرية الهامشية المتمردة الملعونة والمرفوضة من المجتمع والتي تقبل في صفوفها البشر، ليس وفقا لهوياتهم، وإنما لأنهم أبناء آدم وحواء، ليس إلا، ولأنهم يعشقون التمرد: (فالصالحية، فالكرخ التي جمعت/ شذاذ بغداد، ما هم لي بشذاذ). هم شذاذ طبقا للمقاييس الاجتماعية الرسمية القائمة، لكن أبا نواس لا يعتبرهم شذاذا، لأنه يرفض أصلا تلك المقاييس.
حروب ولكن من نوع آخر
وإذا ضاق أبو نواس ذرعا بالكرخ والصالحية وسئم (غوغائية) شذاذي بغداد وعياريها وذي التبطل ومل عشرتهم ورغب بمجالسة النخب أمثاله فأنه يصطحبهم متقدما عليهم وييمم شطره باتجاه ( أكناف بغداد) و(أكناف كلواذ) حيث (قطربل) و(طيزناباذ)، بل وأبعد من ذلك حيث عقرقوف والمدائن: (طرقت صاحب حانوت بهم سحرا ). هنا فقط، وليس في ميادين القتال التي يتقزز من ذكرها ولا في ساحات المعارك التي يصيبه ذكرها بالغثيان، يصبح أبو نواس قائدا مقداما، يخطط ويصدر الأوامر، لكن لمن؟ لمعارفه البسطاء من أصحاب الحوانيت التي تقدم اللذة لطالبيها:
لما قرعت عليه الباب أوجله وقال بين مسر الخوف والراجي
"من ذا؟ فقلت: "فتى نادته لذته فليس عنها إلى شيء بمنعاج
أفتح ! " فقهقه من قولي وقال: لقد هيجت خوفي لأمر فيه إبهاجي
البصرة وذي قار وواسط
وبعد العاصمة بغداد يشرق أبو نؤاس ويغرب في أرجاء العراق. ومن الطبيعي أن تكون البصرة في مقدمة المدن العراقية التي يذكرها ويتحدث عنها كأنها ملكه الخاص أو كأنها أمه: (أيها القادم من بصرتنا أهلا ورحبا) ، ويتذكر لياليه في منطقة (السيب)، وغابات النخيل الممتدة من قرية (جوخى) في واسط (إلى شط الأبلة فالفرات)، هناك حيث يجتمع مع أصدقاء له هم صفوة الناس خلقا وأدبا: (تحية بينهم "تفديك روحي! " وآخر قولهم "أفديك" هات).
وعندما يصل أبو نواس (ذي قار) ويشاهد ما فيها من بدو رحل فسرعان ما ترد (الأنبار) إلى ذهنه ويبدأ المقارنة فيفضل الثانية على الأولى، ليس لأي سبب سوى أن ما شاهده في ذي قار من شظف العيش وجد عكسه في الأنبار، فراح يقارن وفقا لما يسميها (غريزة العقل) فيستنتج:
أحسن من منزل بذي قار
منزل خمارة بالأنبار
وشم ريحانة ونرجسة
أحسن من أينق بأكوار
بعيدا عن المواقف المتعصبة
و(غريزة العقل) يعتمد عليها أبو نواس في إصدار جميع أحكامه على الأشياء، بعيدا عن الأراء الجاهزة والكليشهيات، وبعيدا عن التحيز القبلي والعرقي والطائفي والمناطقي. وكيف يعرف الحسن بن هانئ التحيز ومؤرخو الأدب يجدون حيرة في التأكد من أصله وفصله، وهو نفسه لا يعرف أصله وفصله ! وهكذا، فعندما يقارن أبو نواس، مثلا، بين ما يراه أمام عينه من حياة البدو وزرائبهم وبين الحضارة الفارسية فأنه لا يتردد أن يقول: (فأين البدو من إيوان كسرى وأين من الميادين الزروب؟) لكن هذه المفاضلة لا تنطلق من مشاعر شوفينية متعصبة بقدر ما هي مقارنة موضوعية لا تنسي أبا نواس عشقه للعرب وتفاخره بمزاياهم:
إنما العيش يا أخي
حب خشف من العرب
فإذا ما جمعته
فهو الدين والنسب
كل من قال غير هذا
فاصفعوه فقد كذب
شط الفرات
وعلى أي حال، وسواء كان أبو نواس في ذي قار أو في الأنبار فأنه لا ينسى (الفرات) وينصح من يريد أن يبدد همومه بهذه النصيحة: (أقصد إلى شط الفرات). ولكن أبا نواس لا يتذكر الفرات مكانا للهو فقط، وإنما مصدرا للرخاء خصوصا عندما تفيض مياهه وتحول الوديان اليباب إلى جنان خضراء ( وخاضت كتيار الفرات بواد). وعندما تجتمع مياه الفرات مع مياه دجلة فأن العراق يضحى جنة الله على الأرض وتصبح البلاد (منازه) خضراء بعد أن حباها الرحمن بهذا الخير العميم وأبعدها عن قسوة البادية وما ينبت فيها من طلح وصبير وشوك وعاقول:
منازه بين دجلة والفرات تفيأت شجرا
بأرض باعد الرحمن عنها الطلح والعشرا
الكوفة
والفرات ومدنه لا تقترن عند أبي نواس براحة البال واللهو فحسب وإنما بالمدن الواقعة على شاطئه المتسمة بنشاط العقل واستنباطاته والمدارس اللغوية والفقهية، كمدينة الكوفة، بل خصوصا مدينة الكوفة، أولا لأنها شهدت ولادته الشعرية، وثانيا لجمالها وتحضرها، فالكوفة كما يقول هو (هي أعذب وأطيب من أن تمل)، وثالثا، لأن الكوفة مركز ثقافي لها رموزها كما للبصرة رموزها الثقافية:
ما ذاك إلا أنني رجل
لا أستخف صداقة البصري
ذهبت بنا كوفان مذهبها
وعدمت عن ظرفائها صبري
وعندما تذكر الكوفة فلا بد أن تذكر الحيرة و(أصوات النواقيس) في كنائسها وظرف أهلها وعندها يستبد الشوق بأبي نواس حالما يغادرها فيقسم: (أنا والله مشتاق إلى الحيرة).
تكريت
ومن الحيرة والكوفة يتجه أبو نواس صعدا مع الفرات متتبعا منبعه فيتخطى حدود العراق ويصل الشام. وفي طريقه يزور (عقرقوف) ومنها ينطلق:
رحلن بنا من عقرقوف وقد بدا من الصبح مفتوق الأديم شهير
وفي الطريق يمر على (تكريت) حيث يجالس في ربوعها (فتية كمصابيح الدجى غرر)، يتسامرون داخل (حديقات ملففة بالزند والطلح والرمان والتوت) ويقول:
نادمتهم قرقف الإسفنط صافية مشمولة سبيت من خمر تكريت
هيت وعانة والأكراد
ومن تكريت يتجه أبو نواس نحو (هيت) فيتوقف كثيرا عند ظرف أهلها وحلاوة معشرهم وأريحيتهم حتى أنه يسمح لنفسه أن يمازحهم:
من أهل هيت، سخي الجرم، ذي أدب له أقول مزاحا: هات يا هيتي.
ومثلما تقترن الكوفة بالحيرة فأن هيت تقترن بعانة أو (عانات) ربما لقربهما الجغرافي أو لما تتمتع به المدينتان من ثروة نباتية حيث الأعناب والأرطاب وما تنتجه من ملذات (جلبن من هيت ومن عانات) أو (منسوبة لقرى هيت وعانات).
ومن الجنوب والفرات الأوسط والمنطقة الغربية يتجه أبو نواس نحو كردستان ويتذكر مجالسه مع أهلها:
عتقها الكردي في مجلس بين بساتين وأجبال
ثم أتانا ناكسا رأسه منحدرا من مرقب عال
وعندما يغادر العراق نحو الشام فلا يفوته أن يذكر (أهل الغوطتين) و( كنائس تدمر) و(الجولان) و(بيسان) و( البيت المقدس) وصولا إلى (فسطاط مصر) و(مياه النيل) دون أن ينسى لبنان وتفاحه الشهير (فاحت كما فاح تفاح لبنان).
مختلسو المال العام
وفي كل ما ذكرناه أعلاه فأن أبا نواس لا يكتفي برسم أطلس أصم لجغرافيا العراق إنما يستنطق الجغرافيا فيفصل أسماء القبائل والديانات المسيحية واليهودية جنبا إلى جنب الإسلام وحضارات الدول المجاورة. ويتحدث عن الظلم الأجتماعي بتعاطف مع الطبقات الفقيرة والمعدمة، ويشتم ويلعن مختلسي المال العام (السارقون جهارا) ويفضح موظفي الدولة الفاسدين:
أعيذك بالرحمن من شر كاتب له قلم زان وآخر سارق
وينبه إلى ما يلحق العباد والبلاد من ويلات إذا تسلط على رقابهم (إمام جور فاسق). ويطالب دون وجل ولا خوف بتوزيع الثروة وتحقيق العدالة الاجتماعية: (لنخمس مال الله من كل فاجر)
إاليك المشتكى تيه الطواويس
أما الأدعياء المتبخترين الممتلئين زهوا فارغا فأنه يحتقرهم وربما يخافهم لأنهم يملكون قوة المال أو قوة السلطة السياسية أو الأثنين معا، فلا يملك هو إلا أن يشكوهم إلى الله: (إليك المشتكى تيه الطواويس). ونفس الموقف يتخذه إزاء المرائين المتجاسرين على الدين والمتاجرين به الذين يعتمدون على المظاهر في خداع الناس وتسويق أنفسهم فيراهم يحملون (المسابيح) ويضعون (المصحف مكان القلادة) ويجهدون أنفسهم في رسم (سجادة) على جباههم لتبدو وكأنها من أثر السجود، وهذه كلها مظاهر (لو رآها بعض المرائين لاشتراها يعدها للشهادة) أمام ال?خرين ليوهمهم بورعه وبتقواه.
تعبد وخشوع
وهو، أبو نواس؟ هل ينزه نفسه من الذنوب؟ أبو نواس لا يعرف التواضع المجاني والتمسكن. هو يعرف قدر نفسه ويصنف نفسه مع (الفلاسفة الكبار) الذي تؤرقه الأوجاع ( خليون من أوجاعنا يعذلوننا)، وهو ليس بحاجة أن يخادع نفسه والناس. هو كما هو. أما أن يقبله الأخرون كما هو أو يرفضونه كما هو:
ما لي وللناس كم يلحونني سفها ديني لنفسي ودين الناس للناس
فما دام لا يصادر حق أحد ولا يقتل ولا يسرق ولا يعتدي ويرحم الناس فهو على ثقة بأن الخالق الجبار سيرحمه لأن (لا يرحم الله إلا راحم الناس). وكما المؤمنين الحقيقيين فأن أبا نواس لا يطلب الصفح والعفو والمغفرة من أحد، بل من رب العباد فهو ينادي ربه بخشوع صادق:
أيا من ليس لي منه مجير
بعفوك من عذابك أستجير
أنا العبد المقر بكل ذنب
وأنت السيد المولى القدير
فإن عذبتني فبسوء فعلي
وإن تغفر فأنت به جدير
أفر إليك منك وأين إلا
إليك يفر منك المستجير