مدارات

في الذكرى التسعين لميلاد الرفيق والصديق الأعز الفقيد صفاء الحافظ / كاظم حبيب

ستبقى في ذاكرتي أيها الرفيق والصديق الغالي ما دمت حياً, ولكنك ستبقى في ذاكرة العراق والشعب العراقي أبناً باراً ومناضلاً شجاعاً في سبيل قضية الشعب والوطن, وشيوعياً واعياً ومدركاً تبعات هذا الفكر في بلد لا يحترم حكامه الفكر الحر والعقل المتنور.
عرفتك عبر العمل الحزبي رفيقاً جاداً وإنساناً رائعاً ونبيلاً ومدافعاً أميناً عن قضية الكادحين والمحرومين، كنت دوماً حافظاً للود وساعياً له، كريم النفس ومتواضعاً مثل أي عالم يحمل في صدره وعقله حب منح الآخرين ما يملك من علم ومعرفة وخبرة، فكنت بذلك مثالاً للحكمة المندائية القائلة "ويل لعالم لا ينفتح على غيره وجاهل منغلق على نفسه" وكنت في ذلك قدوة لمن عمل معك أو عملت معه.
عرفتك صديقاً عزيزاً وفياً وقريباً إلى نفسي, عرفتك ونحن نعمل سوية في هيئة تحرير الثقافة الجديدة فكنت المستمع الجيد والمتحدث الهادئ واللبق والكاتب اليساري الموضوعي الذي يزن كلماته بدقة ويلتزم قضايا الشعب والوطن والحزب.
كنت أستاذا واسع العلم وعميق الفهم في اختصاصه ومثقفاً من طراز جديد. عملنا سوية في لجنة ومعنا الأستاذ الفقيد والصديق الفاضل عبد الرزاق زبير، وفيها تعمقت علاقاتنا الصداقية ووعينا المشترك لما يواجه العراق في ظل البعث المجرم.
حين خرجت من المعتقل دعوتني وأم سامر إلى بيتكم فالتقينا بزوجتك وشريكة حياتك، تلك الإنسانة النبيلة أم عمار التي منحتنا من ودها ودفء إنسانيتها وإنسانيتك ما جعلنا نشعر وكأننا في بيتنا وبين أحبتنا, وأدركنا في حينها عمق الحب الرفيع الذي يجمع بينكما والاحترام الكبير المتبادل بينكما. وفي حينها وحتى الآن كنا سعداء بهذه العلاقة العائلية الودية التي لم تدم طويلاً. لقد تشبعت بمبادئ الثورة الفرنسية في فترة دراستك بفرنسا والتزمت بتلك المبادئ النيرة التي أعلن عنها ثوار أكتوبر 1917 ودافعت بحرارة عن مبادئ ثورة العشرين والتزامت بقضايا الأخوة العربية الكردية وحق الشعب الكردي في تقرير مصيره ودافعت بقوة ووعي عن الحقوق الكاملة للمرأة ومساواتها بحقوق الرجل وعن مكانتها في المجتمع.
رجوتني أن أروي لك ما جرى لي في جهاز الأمن البعثي. رويت لكما ما جرى لي وللمئات الذين حشروا حينذاك في بيت الذئاب المتوحشة. رأيت الحزن الذي ارتسم على وجيهكما، حاولت التخفيف والتقليل من اللوحة القاتمة، ولكنها كانت قاتمة جداً لمئات الشيوعيين والديمقراطيين الذين حشروا في مواقف جهاز الأمن في البتاوين وغيره من مدن العراق. ولكني نبهت في ذات الوقت إلى ما ينتظرنا جميعاً وينتظر الشعب كله في ظل البعث المجرم، ونبهتك بالذات لأنهم حاقدون على الحزب الشيوعي العراقي وكارهون لمبادئه وغاضبون لنشاطه ودور المثقفين الشيوعيين والديمقراطيين على نحو خاص. لقد كان صدام حسين قد كتب بخط يده ما ينبغي أن يجري لي أثناء وجودي في أقبية أجهزة الأمن. أراني إياها فاضل البراك، مدير الأمن العام، وكانت تحوي على 12 فقرة تعذيب. شعرت بفرحتك حين علمت أن البعث لم ينجح في إسقاطي سياسياً ولم ينتزع مني كلمة ضد الحزب أو دفاعاً عن البعث أو أن أكتب مقالاً وأنا في المعتقل لتنشر في جريدة الثورة أو حتى في طريق الشعب ليكسر الحملة المطالبة بإطلاق سراحي.
أنا واثق تماماً, رفيقي العزيز, من أنك كنت رافع الرأس شامخاً ومقداماً أمام جلادي وصعاليك وأقزام البعث المجرم، هؤلاء القتلة الذين تربوا على الجريمة والقتل والتعذيب، هؤلاء الذين يجن جنونهم حين يواجهون شيوعياً أو مناضلاً صامداً بوجه أساليبهم الفاشية في التعذيب النفسي والجسدي. إنهم الدراگولا، إنهم مصاصو دماء الشعب، وهم الذين كانوا وراء ما يعاني منه الشعب في المرحلة وتسببوا في غزو العراق وسقوطه في أحضان الطائفية والإرهاب والفساد والموت اليومي الراهن.
أعرف أن أخي وصديقي ورفيقي صباح الدرة قد واجه نفس المصير الذي واجهته أنت، وأعرف يقيناً وبقناعة تامة أنه لقي نفس المصير الذي لقيته, وكان مثلك بطلاً صامداً بوجه الطغاة والمجرمين، وكلاكما ومعكما عائدة ياسين حافظتم على شرف وكرامة الإنسان أولاً وقبل كل شيء.
بُلّغنا في العام 1985 أن صفاء الحافظ وصباح الدرة وعائدة ياسين ما زالوا على قيد الحياة، فأدركنا مباشرة أن المجرمين قد ارتكبوا جريمتهم النكراء، وفي حينها لم استطع حبس الدموع ومنع الاختناق الذي ألم بي، فخسارتنا بكم فادحة. لقد كان المجرم صدام حسين يريد أن يساوم الحزب حين أرسل خبراً إلى الرفيق عزيز محمد بذلك. ولكن كانت كل الدلائل تشير إلى إن القتلة الأوباش قد ارتكبوا جريمتهم النكراء بالتصفية الجسدية بحق هؤلاء الأبطال الثلاثة وبغيرهم حينذاك وبعد ذاك.
كم أنا حزين لاستشهادك أيها الإنسان النبيل والصديق الحميم، وكم أنا حزين لما عانته الإنسانة الرائعة أم عمار لبعدك عنها وعن أطفالكم الذين اصبحوا الآن كباراً ولهم أطفال ولكما أحفاد يفتخرون بأبيهم وجدهم والعزيز الغالي الذي فقدوه.
لقد فقدتك عائلتك الطيبة، وفقدك حزبك المناضل والكثير من رفاقك وأصدقائك، وأنا منهم، وكذلك طلابك ومحبي كتاباتك وقراء كتابك عن القطاع العام في العراق، كما فقدك شعبك، الذي كان وما يزال بأمس الحاجة لأمثالك. لتبقى ذكراك خالدة أيها الصديق والرفيق العزيز, ولتبقى شعلة الفكر الذي اخترته وقادة تنير طريق الأحرار في كل مكان.