مدارات

التحولات المزدوجة: فكرة اجتماعية جديدة لإستراتيجية يسارية / بقلم: ديتر كلاين */ ترجمة: رشيد غويلب

يمثل عنوان البرنامج الانتخابي لحزب اليسار الالماني لخوض الانتخابات العامة (22 ايلول 2013- المترجم) "100 في المائة عدالة اجتماعية"، يمثل جوهره. ولكن في اوربا البنوك، الا يرقى تحقيق هذا البرنامج ببساطة الى الثورة؟ والآن: من يعتقد بحدوث الثورة في وقت منظور؟ ومن جانب آخر: من يعتقد بان الاصلاحات التقليدية وحدها قادرة على تحقيق التغييرات العميقة المطلوبة؟ وماذا لو، ان لا الاصلاحات، ولا الثورة بحد ذاتها تعد بالمجتمع الافضل؟ المساهمة التالية تركز على اعتماد شعار"100 في المائة عدالة اجتماعية" في سياق عملية تفكير وسعي الى ما نسميه بـ "التحولات المزدوجة"، التي تمثل عنوانا لعرض نظري لإستراتيجية يسارية في ظل الظروف الحالية.
لقد اختفت العقود الذهبية لعصر دولة الرفاه التي اعقبت الحرب العالمية الثانية، الذي مثل عصر دولة الرفاه الرأسمالية المصحوبة بارتفاع الدخل والإصلاحات الاجتماعية. ومع انتهاء عقود الظروف التاريخية المواتية للنمو، دخلت اصلاحات الاشتراكية الديمقراطية ايام ضعفها. وأثبتت أنها غير صالحة لمواجهة تحديات الابعاد الاجتماعية الجديدة ،الثورة التكنولوجية الفائقة، الفردية وعمليات العولمة ، والأزمة البيئية والفقر في المناطق الكبيرة من العالم. لاسباب اقلها انها لم تمس جوهر حكم الرأسمالية، علاقات الملكية والسلطة.
ان النخب الحاكمة وظفت هذا العجز الاساسي بقوة وفرضت عملية تحول محافظة، الانتقال من الرأسمالية الاجتماعية المنظمة الى رأسمالية الليبرالية الجديدة. وكان معيار الاصلاح الخضوع لمقتضيات السوق،التقنيات العالية، وأيضا تعدد الانماط الجديدة للحياة،ازدياد مسؤولية الافراد، ازدياد حقوق النساء، وعمليات العولمة، التي أسست للأرباح الفاحشة. والنتيجة هي الأزمة العميقة المتعددة الحالية. وبعد الاصلاح الاشتراكي الديمقراطي، قاد الاصلاح الليبرالي الجديد البديل الى طريق مسدود. وعلى الرغم من الاعلان المستمر لحكاية السوق الجذري لليبرالية الجديدة، إلا انها وصلت الى نهاية المطاف. وهو ما يشكل في الواقع تحديا وفرصة لليسار الذي يقف على يسار اكثرية الاشتراكية الديمقراطية.
ان برنامج "100 في المائة عدالة اجتماعية" يلامس جوهر الصراعات الحالية، وهموم الناس ، الذين يتحملون اعباءها. ويقوم البرنامج على مشاركة اليسار مع المواطنات والمواطنين المعنيين في مشاريع ملموسة لتحسين اوضاعهم.
ولكن عندما تكون اسس المجتمع البرجوازي الرأسمالي غير مناسبة للتعامل مع مشاكل عصرنا، فان العديد من مشاريع الاصلاح المنفردة لا تكون كافية لبناء مستقبل مستدام. ولهذا يصبح ضروريا طرح الكل في سؤال. واذا كان المقصود بالبرنامج اكثر من تحذير، فان "100 في المائة عدالة اجتماعية" هو مشروع لإعادة تشكيل، او تحول اجتماعي. لقد وصف كارل بولاني (مؤرخ اقتصادي وعالم اقتصادي-اجتماعي نمساوي هنغاري ت عام 1964 المترجم) في عمله "التحول العظيم" المرحلة الانتقالية الطويلة من ما قبل الرأسمالية الى الرأسمالية بالتحول العظيم. وعليه فيمكن رؤية الانتقال من المجتمع البرجوازي الرأسمالي الى مجتمع سلام عادل تضامني متوائم مع الطبيعة، وهو محتوى يستحق السعي اليه ، على انه التحول العظيم الثاني. ان تحولاً كهذا يشكل افقاً مستقبلياً للقرن الحادي والعشرين. وهو ما يأمل طيف من اليسار الوصول اليه من خلال الثورة، فيما مازال الطيف الآخر من اليسار يراهن على الوصول اليه بواسطة الاصلاحات. ولكن الثورة التي تسقط كل شيء سوف لا تحدث على الارجح في اوربا في وقت قريب. وعلاوة على ذلك فان نوع المهام التي يتعين القيام بها ضخمة ومركبة ومعقدة. بعبارة أخرى سوف لا تخلف رأسمالية الليبرالية الجديدة في اوربا مباشرة اشتراكية ديمقراطية خضراء. ان الاصلاحات المعتدلة بمفردها، التي تحاول استعادة رأسمالية الدولة الاجتماعية، التي سادت في عقود ما بعد الحرب العالمية الثانية، غير قادرة على درء رأسمالية الليبرالية الجديدة، ومن الواضح ان فرض حقوق الانسان غير كاف لمواجهة التحديات، وتجنب التهديدات العالمية. ان المجتمع الاوربي وصل الى طريق مسدود، لعدم توفر الشروط لإيجاد حلول جذرية ومستدامة للمشاكل القائمة.ولذا يجب على السياسة اليسارية ان تكون قادرة، على مواصلة تحسين الاحوال الآنية للشعب من ناحية ، و من ناحية أخرى ان تكون مستعدة لتوفير الظروف لإجراء تغييرات أكثر جذرية، لتعزيز وتكامل وتعبئة القدرات الذاتية لليسار، لاقامة تحالفات واسعة،التي تفتح خيارات السلطة للسياسة اليسارية، ولتطوير الوعي الاجتماعي بأن البدائل ممكنة، ولتطوير كل المقاربات لتشكيل أغلبية لا تقبل بالانقسامات الاجتماعية الفاضحة، التي تنتجها الكتلة القابضة على السلطة. ان استراتيجية التحولات المزدوجة تتوافق مع ما هو مطلوب، لأنها تربط بين خطوات الاصلاح الممكنة وتوفير هذه الظروف. ان سياسة يسارية جذرية وواقعية تتطلب اساساً نظرياً ومفاهيمياً جديداً. وهذه المساهمة ترى ان مصطلح التحولات المزدوجة يحقق هذا الأساس.التحولات المزدوجة، كتوجه إستراتيجي لليسار في اوربا للعقود القادمة، تضم عمليتين متداخلتين في بعضهما البعض. يمكن ان يكون جانبها الاول، تجاوز الليبرالية الجديدة، اي تحول ما بعد الليبرالية الجديدة الى مجتمع الرأسمالية البرجوازية الاجتماعية البيئية المنظمة. يمكن ان يحقق اعادة تنشيط الديمقراطية التمثيلية، ومشاركة اقوى للمواطنات والمواطنين، واقامة دولة الرفاه مجددا في الظروف المتغيرة، وإعطاء وزن كبير للرعاية العامة، وسياسة امن- وحماية بيئة اكثر مسؤولية. وهذا من شأنه ان يفتح فرصاً جديدة للتحالف مع القوى التى لا تريد اكثر من رأسمالية محسنة. وهذا يشترط تعزيزاً فاعلاً لقوى اليسار، وعمقها المجتمعي، على اساس اجندتها الخاصة. وان المهمة الرئيسة تتمثل في تحريك توازن القوى المجتمعية نحو اليسار. وانطلاقا فقط من هذا الموقف الواعي يمكن السعي لإقامة تحالفات مع الاوساط البرجوازية الاجتماعية المدافعة عن البيئة، لاحداث تغيير أساسي في الاتجاهات السياسية. ويجب ان نعي اخطار سعي جزء من الكتلة الحاكمة للحفاظ على سلطتها وأساسها الرأسمالي، ولهذا ستظل التحسينات الاجتماعية والبيئية الممكنة محدودة. وحتى في فترة ما بعد الليبرالية الجديدة المحسنة،تستمر اعادة انتاج جذور تناقضات الرأسمالية وكوارثها.ولهذا يجب ان تشمل التحولات المزدوجة، كتوجه إستراتيجي لليسار أكثر من تحول جوهري داخل نظام ما بعد الليبرالية الجديدة. وهي تتضمن في جانبها الثاني، وفي سياق التحولات داخل النظام بالفعل اتجاهات مناهضة للرأسمالية واشتراكية محتملة، عناصر، مؤسسات وممارسات يتم تطويرها وتعزيزها. ويجب ان تنفذ الاصلاحات المجدية بالترابط مع تعزيز الافكار الثورية، فبدون تغيير جوهر الملكية، وتوازن القوى في السلطة، سوف لا تتمتع الاصلاحات بنجاحات دائمة.وحيث تكون سلطة الملكية فوق المجتمع، وتؤدي الى تفكيك الديمقراطية، يجب ان تحل محلها ملكية مجتمعية. وهذا يشمل على سبيل المثال المراكز المالية، وشركات الطاقة. وفي كل المجالات المتعلقة بالمساواة الاجتماعية، و في المجالات المعيشية الاساسية، مثل نظام التعليم والرعاية الصحية، يجب فرض الملكية العامة. ان اعادة البناء الاجتماعي البيئي يحتاج الارتباط مع خطط لديمقراطية واضحة المعالم مع اليات سوق جديدة منسقة. يجب الانطلاق من وجهة نظر يسارية جذرية وواقعية خلال تحولات ما بعد الليبرالية الجديدة، تتيح الدخول الى مرحلة تجاوز الرأسمالية، اي بداية التحول الثاني العظيم.
وتهدف هذه الفكرة الى ربط عمليات الاصلاح المصحوبة بإحداث عمليات ثلم عميقة مع ملامح ثورية. ويمكن ان يتيح ذلك حوارا يتجاوز التقاطعات بين احزاب الطيف السياسي. ان الافتراض هو ان لا تبدأ بعد الرأسمالية اشتراكية نظيفة منفصلة عنها. بل يمكن في سياق الاخيرة بدء الدخول في عملية تجاوز الرأسمالية. ويشترط ذلك ان تكسب القوى الديمقراطية الجذرية تطوراً كهذا. ان حكاية يسارية حديثة تكتسب واقعيتها من ان الغد يبدأ فعلا الرقص في اليوم. وينعكس هذا في حركة "الغاضبون" في جنوب اوربا، وتحتويه ايضا حركة "لنحتل"، وحركة حماية البيئة، وفي المبادرات في سياق النضال للمساواة بين الجنسين، وفي تعميق الحريات الشخصية المنفتحة للأفراد.ويظهر جليا في المناقشات من اجل عمل جيد، وفي توسيع رعاية العمل خارج عملية الانتاج. ويستمر في المطالبات في الاعتراف بمشاركة المواطنين في اتخاذ القرار بشان المشاريع الكبيرة، وقضايا الحياة اليومية. ويكون مرئيا فيه قطاع غير ربحي للخدمات العامة، في البرمجة الحرة وحرية الوصول للمعلومة، في المقاومة ضد العداء للاجانب، العنصرية، والنازية الجديدة، وليس اقل من ذلك في نمو تعاونيات الطاقة، والنجاح في اعادة مرافق الخدمات العامة، التي تمت خصخصتها الى البلديات. واذا كان ممكنا ان تتضمن حكاية مختلفة لليسار الربط التضامني بين جميع هذه التعبيرات المستقبلية، امكن للجديد ان ينتقل من حافات المجتمع الى مركزه.سواء كان ذلك بحدود التوجه لتحقيق خطوات فعلية لتحول تدريجي في اطار المجتمع البرجوازي أو وسيلة للوصول الى أبعد من ذلك: التنمية الشخصية لكل فرد وللجميع وتهيئة ظروف المشاركة الاجتماعية على قدم المساواة لأن ذلك يمثل نقطة أرخميدس في حكاية اليسار الحديث بشان معالم متماسكة، لمجتمع تضامني عادل. وهيمنة ثروة بشرية بدلا من ثروة الرأسمال وهيمنة الارباح.
* استاذ الاسس الاقتصادية للسياسة في معهد العلوم الاجتماعية في جامعة هامبولدت حتى عام 1997 . عضو مؤسس مشروع "النظرية الحديثة للاشتراكية" قبل انهيار النظام الاشتراكي في المانيا الديمقراطية.عضو لجنة البرنامج في حزب اليسار الالماني.