- التفاصيل
-
نشر بتاريخ الثلاثاء, 29 آذار/مارس 2016 20:09
عمر الشيخ علي
وقعت الهزة الاجتماعية – السياسية العنيفة، في آذار 1991، في ارض العراق التي تميزت تاريخياً بكثرة الهزات السياسية والاجتماعية، والتي بدت منذ سنوات في اكثر اجزائها وبحكم الارهاب والقمع والكبت الناجم عنهما، منطقة خامدة.
واهتزت جراء الزلزال مؤسسات النظام القمعي واركانه، وانهارت بفعله مفاهيم وآمال وتعززت الى جانبها مفاهيم اخرى، وانتعشت آمال غيرها. وألقت الاحداث درساً بليغاً لا ينسى على قادة النظام الذين لم يشاؤوا ان يتعلموا او يتعظوا، رغم ان شبح تلك الاحداث ظل يرعبهم ويلاحقهم في تأملاتهم وتصرفاتهم كل لحظة وحتى يومنا هذا.
بدأت الهزة اواخر شباط من قرية صغيرة في الجنوب حيث الاهوار وحشود العسكريين الهاربين وحشود المعارضين المناضلين، وانتقلت موجاتها الى قرى وبلدات اخرى حتى مدينة البصرة، ثم راحت تتسع لتشمل مناطق واسعة من البلاد وبسرعة مذهلة وعنف يعادل شدة وطول أمد الكبت وعواقب الارهاب المتراكمة. فاكتسحت في ساعات قلائل غالباً، مؤسسات القمع والبطش في المدن والقصبات بكل ما تتميز به من كثرة وتنوع وامكانات ووحشية الامن والاستخبارات والمخابرات والجيش الشعبي والشرطة ومنظمات حزب السلطة، وسائر مراكز مؤسساته والمنظمات الاجتماعية التابعة له. وكانت الموجات البشرية الزاحفة على هذه المراكز المدججة بالسلاح، تقتحمها وهي عزلاء تقريباً.
لماذا الانتفاضة؟وكان للهزة دوي هائل تجاوزت اصداؤه حدود البلاد وبلغت انحاء المعمورة كلها. وتزاحم المراسلون والساسة والمعلقون على متابعة احداثها وتطوراتها، وعلى تحليلها وتفسيرها، كل من زاويته ومن منطلقاته الخاصة، في وقت لم تكن فيه " عاصفة الصحراء " قد انتهت بعد. ويمكن القول انها احدثت منذ اللحظة الاولى ارتباكاً وحيرة في اوساط قادة دول التحالف وفي مقدمتهم جورج بوش، وتركت آثارها على مواقفهم اتجاه صدام.
وطبيعي ان من غير الممكن النظر الى احداث الانتفاضة بمعزل عن الاحداث الكبيرة التي سبقتها، والتي تشكل هي (الانتفاضة ) ذروة في مسلسلها المترابط: الحرب العراقية – الايرانية، الاعداد لحرب الكويت واحتلالها، وعاصفة الصحراء. لكن المجال لا يتسع هنا لغير الاشارة السريعة الى ابرز احداث هذا المسلسل.
اشعل صدام حسين الحرب ضد ايران وهو يستهدف في المقدمة تصريف ازمة نظامه ومؤسساته، وإلهاء الشعب عن معاناته الناجمة عن نهج النظام نفسه في الاستبداد والاستهتار. وكانت الحرب مع ايران التي دامت 8 اعوام فتاكة مدمرة. وحين توقفت في النهاية ظهرت للعيان الكوارث البشرية والمادية المريعة التي سببتها، فبدأت أزمة النظام تشتد، والتناقضات الاجتماعية تتعمق، ومعاناة الشعب تزداد.
وبعد توقف الحرب واستخدام النظام السلاح الكيمياوي واطلاقه حملة الانفال الوحشية، جاءت انتكاسة الحركة الانصارية المسلحة في كردستان، وبلغت مأساة الاقليم قمتها، ودخلت البلاد مرحلة ادراك فواجعها وفواجع الحرب، والاقتراب من حالة التفجير والهزات الاجتماعية.
من جهة اخرى وغداة انتهاء الحرب، بدأ قادة النظام يتحدون مشاعر ابناء الشعب وارادتهم من جديد، بالاعداد لحرب اخرى اشد هولاً واكثر تأجيجاً للوضع الداخلي المضطرم. وحين احتلوا الكويت في 2 آب 1990، تأزم الوضع بصورة لا سابق لها. لكن وضعاً جديداً على صعيد المجتمع عموماً أخذ يتبلور بعد بدء الهجوم الشامل على العراق في 17 كانون الثاني 1991، وما ادى اليه من شل القدرة العسكرية وتحطيم القاعدة الاقتصادية للبلاد. اذ فقدت الدكتاتورية سلطتها في بعض المواقع والشوارع في المدن، حتى لساعات في النهار، ولم تعد الاجهزة الامنية تتجرأ على اعتقال المناضلين بالسهولة السابقة. ودخلت البلاد مرحلة الانتفاضة الفعلية في اواخر شباط.
ويتضح من متابعة المسار التاريخي للاحداث ان الانتفاضة كانت ستقع عاجلاً او آجلاً، بغض النظر عن "عاصفة الصحراء". وايضاً بصرف النظر عن ساعة انفجار الشعب، وشكل الانفجار، وكيفية تطوره اللاحق، وعن العامل الخارجي الذي ازدادت اهميته دون ريب في الظرف التاريخي المعاصر. ذلك ان نهج النظام، وحروبه، وما آل اليه وضع البلاد، وتفاقم ازمتها، وازدياد معاناة الشعب وحرمانه، وبالتالي ازدياد استيائه وتذمره، كل ذلك كان لا بد ان يؤدي في النهاية الى الانفجار والانتفاض.
وكان الكثير من شروط الانتفاضة قد نضج حتى قبل "عاصفة الصحراء".
الحزب الشيوعي والانتفاضةتشير وثائق الحزب الرسمية منذ زمن بعيد وحتى عندما كان الحزب يركز جهداً استثنائياً على حركة الانصار المسلحة، الى ان اسقاط النظام الدكتاتوري واحلال البديل الديمقراطي يتم كاحتمال رئيس عن طريق الانتفاضة.
لكن هذا لم يكن يعني في نظر الحزب تجاهل الاساليب الاخرى في النضال، ولا امكانات التطور العفوي للاحداث.
وكان الاعداد للانتفاضة يتطلب تنظيماً حزبياً معافى في عمق البلاد، حيث الجماهير صانعة الانتفاضة. كما يتطلب تحالفاً سليماً بين الاحزاب وقوى المعارضة الوطنية، يوفر قيادة مدركة حكيمة نسبياً، بمقدورها استنهاض الجماهير وتوحيد طاقاتها وتعبئتها وتوجيهها وجهة سليمة نحو الهدف المنشود.
وبعد انتكاسة الحركة الانصارية المسلحة، اصبحت مهمة اعادة بناء الحزب داخل البلاد وتركيز الجهد الاساسي عليها اكثر اهمية من ذي قبل.
وكان الحزب آنذاك، في مناطق هيمنة النظام، يتألف من خطوط تنظيمية عديدة. منفصلة عن بعضها. ومرتبطة بمركز حزبي قيادي في منطقة الانصار. وتطلب الوضع الجديد بالحاح نقل هذا المركز الى داخل البلاد وتسريع عملية اعادة البناء في مجال التنظيم.
وقد خطا الحزب خطوات ملموسة في هذا المجال ولكن ببطء بالغ. فكان ما تحقق حتى ايام الانتفاضة دون مستوى متطلبات التعبئة المنظمة الكاملة لإمكانات الحزب في الانتفاضة.
وكان من اسباب البطء في اعادة البناء، الاخلال السابق طويل الامد نسبياً بقواعد العمل السري من جهة، وقدرة الدولة متعددة الجوانب لا سيما عبر الارهاب والاندساس واساليب الترويع والتخريب الاخرى على عرقلة الجهد التنظيمي من جهة اخرى.
وقدرت الهيئة القيادية للحزب داخل البلاد، منذ وقت مبكر، وبحكم تواجدها في ساحة المعارك الفعلية وتحسس تطورات الوضع اكثر، ان ساعة وقوع الانتفاضة تدنو بسرعة، وان حركة الحياة لن تخضع إلى أية ارادة في تأجيل موعد انفجارها في انتظار استكمال اعادة بناء الحزب واقامة الائتلافات المطلوبة. وانه ما على منظمات الداخل الا ان تستعد للقيام بواجباتها المنتظرة وفقاً للامكانات المتوفرة، واعلام مكتب لجنة اقليم كردستان في منطقة الانصار وقيادة الحزب في الخارج بتوجيهات ومقترحات الهيئة القيادية في الداخل.
وفي كانون الثاني – شباط بذل المزيد من الجهد للاتصال بقوى المعارضة، ولتعزيز الصلة مع بعض العناصر الحكومية الى جانب تعزيز الصلة بالجماهير وتكوين بعض الفرق المسلحة، والاقدام على بعض الفعاليات التي من شأنها كسر المزيد من جليد الارهاب. كما جرى التفكير في بعض التوجهات في فترة ما بعد الانتفاضة مباشرة، كفتح المقرات والتركيز على بعض الاهداف والمواقع الاساسية للنظام الى جانب الاهتمام بتنظيم الحياة المعيشية والامنية للمواطنين ومنع التجاوزات ..الخ. ولكن التطلعات والامنيات شيء والقدرة التنظيمية والتعبوية على تحقيقها شيء آخر. وتجدر الاشارة الى ان نشاط رفاق الحزب انتقل عموما آنذاك من الجو السري الى اجواء شبه علنية.
وفي اوائل شباط تقرر توزيع بيان يدعو الى الانتفاضة ضمناً على ان يجري لاحقاً اصدار آخر صريح في دعوته وهو ما حالت بعض العراقيل الامنية دون تحقيقه. وبدأ توزيع البيان اواسط شباط في مناطق مختلفة من بغداد والبصرة وبعض مدن الفرات الاوسط وفي كردستان وكان وقعه جيدا ومؤثراً كما بدا ان الوضع يسير حثيثا نحو الانتفاضة.
الانتفاضةوعندما حانت ساعتها اخيراً انفجرت في شكل حركة شعبية عارمة جارفة مليئة بالمفاجآت وسريعة الانتشار. ففي غضون ايام فقط امتدت من الجنوب مرورا بالفرات الاوسط الى منطقة رانية وبقية مناطق كردستان واصبحت من السعة والتنوع بحيث تصعب حتى اليوم تغطيتها تماما واعطاؤها حقها من التصوير والتحليل.
لقد اتسمت احداثها، رغم ملامحها المشتركة في عموم البلاد وطابعها العراقي العام بتنوع مذهل ناجم عن تباين خصائص كل منطقة ومدينة خاصة كردستان. وعن المواقف التاريخية للسلطة تجاهها ودرجة الوعي والتنظيم فيها. ودور الاحزاب المختلفة والعلاقات فيما بينها وتأثير العادات والتقاليد ..الخ.
وفي كل الاحوال كانت الانتفاضة اوسع حركة جماهيرية يشهدها العراق المعاصر، واكبر واعقد من ان تستوعبها تضمينات جميع قوى المعارضة الموجودة في الميدان كما انها جاءت استفتاء شعبيا حقيقياً ومعبراً تعبيرا صارخاً عن الرفض الشعبي للنظام ونهجه.
وكان من ثمارها الجانبية بالغة الاهمية الكشف عن الموقف الحقيقي للقوات المسلحة التي لم تكن جميعا وهي الضخمة عدداً والمتنوعة تشكيلاً بما فيها الحرس الجمهوري ملكا لقيادة النظام او موالية له. فقد هرب عشرات الالوف من افرادها قبل معارك الكويت وابانها. وعندما اندلعت الانتفاضة لم تقاومها الوحدات العسكرية المتبقية في مواقعها الا في ما ندر. بل ان جماهير الجنود والمراتب وصغار الضباط كانوا يقفون في حالات غير قليلة. موقف المترقب ووصول شرر الانتفاضة، لينضم اليها او يتحرر في الاقل من التزاماته العسكرية ولا يغير من هذه الحقيقة شيئا وجود قوات ضاربة مطواعة للنظام. ونواتات موالية في كثير من الوحدات او مراكز الامن والاستخبارات مقاومة ضاربة.
وبالاضافة الى المناطق الواسعة في الجنوب والفرات الاوسط واقليم كردستان امتدت الانتفاضة الى بعض مناطق ومحلات بغداد والكاظمية والحرية والشعلة والثورة ..الخ، ولكن بحدود ضيقة.
لقد تخلفت مدينة بغداد هذه المرة ومعها مدن قليلة اخرى، وهي التي كان لها دوما الدور الطليعي والبارز في احداث العراق الكبيرة. والسبب في ذلك لا يعود اساسا الى السمة الطائفية لممارسات الفئة الحاكمة ولا الى النشاطات ذات الطابع الفئوي الضيق، والشعارات والممارسات الخاطئة في بعض مناطق الشيعة، التي انعكست سلباً لدى اوساط واسعة من الشعب، وانما نجمت قبل كل شيء عن الاهتمام الاستثنائي والمتميز للفئة الحاكمة ببغداد طوال فترة حكمها. وعن ممارستها الارهاب الصامت ضد جماهيرها والسعي الجاد إلى تأطير المجتمع فيها وتركيز قوى القمع والطوارئ..الخ.
ووقعت الانتفاضة وهي تفتقر الى قيادة جامعة موحدة، والى تنظيم بمستوى الاحداث فكان ان جاءت دون تخطيط مسبق ودون تنسيق وربط للخطوات والاحداث في المدن والمناطق الا بحدود ضيقة.
ونظرا الى الفراغ القيادي وضعف التنظيم وانعدام التنسيق والى حالة التشتت والتبعثر اولا، ومع تشوه القيم الاخلاقية والاجتماعية جراء النهج التربوي الفكري والعملي للنظام ثانياً، وتراكم النقمة والحقد لدى ابناء الشعب بسبب العسف والحرمان ثالثاً، كان لا بد ان تقع اخطاء وتجاوزات. ووقعت فعلا اخطاء وتجاوزات مؤلمة وبشعة لا تنسجم مع السلوك النضالي التاريخي لشعبنا وقواه الوطنية. وهي بالاساس من طينة تجاوزات النظام واجهزته القمعية ومن نتاج التربية الرسمية، وقد جاءت ايضاً كردود فعل على ممارسات النظام نفسه. ووقعت احياناً بمبادرة عناصر موالية له تظاهرت بالانضمام الى صفوف المعارضة الشعبية.
وبسبب الثغرات الجدية التي اتسمت بها الانتفاضة وخاصة في وضع المعارضة وتشتتها وتناقضاتها باستثناء حالات شاذة واحيانا في عقلية الاحتكار والانفراد الفئوية الضيقة. بالاضافة الى الموقف الحذر والسلبي لقوات التحالف التي وصلت في زحفها الى بعض مناطق الفرات الاوسط لم يكن من المتوقع ان تحقق الانتفاضة هدف اسقاط النظام واحلال البديل الذي كان ينشده الشعب.
الانتفاضة في كردستانكانت لكردستان ميزاتها الخاصة ففيها مناطق جبلية وعرة لا تسهل السيطرة عليها ويسكنها شعب تعرض إلى ابشع اشكال الاضطهاد ونشطت فيها حركة انصارية مسلحة لسنوات ووقعت انتفاضات عدة في عهد النظام القائم. ولم تكن قيادة النظام تتمتع فيها باي عطف حتى لدى التشكيلات المسلحة الحكومية المسماة (افواج الدفاع الوطني) او الخفيفة والقوات الخاصة. وقد تشكلت فيها منذ عام 1988 الجبهة الكردستانية التي كانت لقواها تشكيلات مسلحة في قواعد انصارية على الشريط الحدودي واحيانا مفارز مسلحة في الداخل. والى جانب هذا كانت الوحدات العسكرية المرابطة في كردستان مزعزعة الولاء للنظام، وكان كثيرون من افرادها وهم من ابناء الجنوب والوسط وينحدرون غالبا من فئات اجتماعية مسحوقة عانت الكثير من عسف النظام وبطشه ومآسي حروبه. يشعرون بالتعاطف مع الانتفاضة منذ سمعوا باندلاعها في الجنوب والوسط. ومن هنا فقد انحصرت المقاومة للانتفاضة على الاكثر في مراكز الامن والاستخبارات.
والى جانب ما قامت به التشكيلات المسلحة لقوى الجبهة الكردستانية من دور ملموس في تسريع وانجاح عملية الانتفاضة وانتصارها. كان لاكثرية التشكيلات المسلحة للافواج الخفيفة والقوات الخاصة نصيب بارز ايضا فيها وفي تحرير مناطق من كردستان وهو ما يجب ان يقدر دون خلط الاوراق.
وكان يجب ان تتوجه الانظار في كردستان الى الاهتمام بالجماهير الواسعة وتنظيمها وترتيب احوالها المعيشية والامنية وتطهير المدن من جيوب النظام وعصاباته. ومع الاستحواذ على ممتلكات مؤسسات الدولة وتهريبها خارج كردستان والحيلولة دون استيعاب قوى كانت بالأمس القريب مع النظام وما زال بعضها يتعاطف معه حتى اليوم. كما كان يجب احتضان المئات من الجنود وضباط الصف والضباط الذين رفضوا مقاومة الجماهير في انتفاضتها. ومقاومة تشكيلات الانصار والبيشمركة وابدوا الاستعداد للتنظيم والانضمام الى قوى الانتفاضة.
قمع الانتفاضةمع انتشار لهيب الانتفاضة واكتساحها اكثرية المدن ومناطق البلاد والتحسس بمخاطر انتقالها الى بغداد سارعت قيادة صدام حسين في حالة من الذعر والتخبط الى تجميع القوى وزج القوات المسلحة الاحتياطية التي لم تستخدم ابان (ام المهالك) في الهجوم على الانتفاضة.
وبدأت هذه القوات بقمع انتفاضات المدن والقصبات واحدة بعد اخرى وبوحشية نادرة ساعدتها في ذلك عوامل ضعف الانتفاضة وثغراتها وبعد ان اكملت قيادة النظام قمع الانتفاضة في المناطق العربية عبئت القوى لكردستان التي ظلت شعلة ثورتها تضيء. وكان يمكن ربما ان تبعث الحيوية من جديد في المناطق التي قمعت فيها الانتفاضة او تحفز التململ في تلك التي لم تنتفض وتفجر الثورة الكامنة.
محاولات قمع الانتفاضة في كردستانبدأ حشد القطاعات العسكرية المسلحة في تكريت ومن هناك دفعت إلى الانقضاض على الانتفاضة في كردستان واقترن الهجوم بمبادرة السلطة الى ارسال مبعوثين الى كردستان يدعون إلى التفاوض معها دون قيد او شرط. وقد تمكنت قوات النظام من احتلال المدن الرئيسة ومراكز القصبات القريبة في مناطق السهول دون مقاومة تذكر وجهت الجماهير الفقيرة دون راع في موكب الرحيل المليوني الى حيث لا تدري نحو الحدود الايرانية والتركية تاركين وراءهم كل ممتلكاتهم ووسائل عيشهم ومتكبدة ضحايا كثيرة وواصلت القطاعات العسكرية خلال ذلك زحفها في الجبهات المختلفة فيما الحديث مستمر حول المفاوضات التي كانت لها اثر سلبي محسوس في بغداد والمناطق الاخرى من البلاد وخلال ذلك امكن اخيراً وقف تقدم القوات الحكومية في معارك جريئة في كوري القريبة من شقلاوة وازمر قرب السليمانية.
ولا بد من الاشارة هنا الى ان قيادة الحزب الشيوعي تحفضت على اجراء المفاوضات آنذاك في موقف رسمي معلن. فقد انطلقت في ذلك من الاعتقاد ان ميدان القوى يميل اكثر واكثر لصالح الشعب وان في بغداد طاقة هائلة كامنة في طريقها للتفجر، كما ان الجماهير التي قمعت انتفاضتها لم تستنفد كل قدراتها. فيما القوات العسكرية الزاحفة ليست موالية بكاملها للنظام وعلى المستوى العالمي كان موقف الرأي العام يتغير بوضوح لصالح القضية الكردية والعراقية.
في المرحلة الاخيرة من المفاوضات التي بدأت تتعثر بعد اشهر من الشروع بها وقعت انتفاضات جديدة في بعض مدن كردستان وتمكنت الجماهير ومعها التشكيلات المسلحة للجبهة الكردستانية من السيطرة على وحدات عسكرية كبيرة بكاملها. وعكس ذلك مزاج الجماهير والجنود والضباط معاً المعارض للنظام والرافض للتفاوض معهم.
لقد انتكست الانتفاضة بسبب ثغراتها واخطائها قبل كل شيء. ومع هذا كانت مجداً من امجاد شعبنا وقواه الوطنية وقد ادخلت النظام في مرحلة الاحتضار وحررت اقليم كردستان من هيمنته.
ويجدر بنا ونحن نحفظ ذكراها ونحييها من جهة، ونتهيأ لجولة جديدة من الصراع ضد الدكتاتورية من جهة ثانية، ان نتعلم من دروسها وعبرها، وفي المقدمة منها:
• ان جبروت نظام يستند الى البطش والسلاح والمال والتضليل والكثرة العددية الشكلية للانصار والمصفقين هو جبروت زائف وان النظام زائل لا محالة.
• ان طاقات الشعب هائلة ولا بد ان تنفجر في لحظة مواتية مهما طال الزمن.
• ان على القوى السياسية الواعية المخلصة ان تركز الجهد على تعزيز تنظيماتها داخل البلاد، وان تجمع صفوفها وتنسق جهودها على اساس برنامج حد ادنى مشترك، وتشكل قيادة مسؤولة تضع مصلحة الشعب فوق المصالح الحزبية والفئوية الضيقة، وتحشد طاقاتها وتعبئها في المعركة الفاصلة المرتقبة مع الدكتاتورية.
• ان يجري الانتباه دائماً الى وجوب الحيلولة دون وقوع اي نوع من التجاوزات على الارواح والممتلكات العامة والخاصة، وتطهير المحتشدات السكانية من عملاء النظام، وقطع طريق نشاطاتهم التخريبية، وبذل كل جهد ممكن لتأمين المستلزمات المعيشية للجماهير، وضمان امنها وتنظيم حياتها، وسد كل الثغرات والسعي الى تجنب الوقوع في الاخطاء السابقة ما امكن.