مدارات

الدليل، تجربة ومعاناة! (20) / مزهر بن مدلول

جاءت (المسلّحة) وأخذت (زوج اختي) مقيداً، فخرج (الجرداغ) عن بكرة ابيه يحملق بالمشهد الجديد، وكأنّ العيون تلتقط اخر الصور لـ(هاشم) الذي بدا مستسلما ومحنيّ الهامة كما لو انهُ من كفّار قريش!.
لاأحد يعرف التفاصيل، لكن، وقبل بزوغ الفجر، تناهى الى مسامع (العائلات) وهي نائمة نواح امرأة قادما من الطرف الاخر، ولمّا هروّل الناس الى المكان، وجدوا المرأة تلطم خديّها وتعبّر بطريقة لاتقبل الظنون عن عظيم خسارتها لزوجها (المقتول)!.
في ذلك النهار من شهر آب، وبينما الشمس ابتلعت كلّ الظلال، أُصيب اهل قريتنا بفاجعة، فهاشم الذي يمتلك من الطباع والصفات التي تحظى بمحبة الاخرين، لايمكن ان يقدم على جريمة قتل من شأنها ان تهزّ سلامة اخلاق اهله وتزعزع جدران تقاليدهم، ولأنه يتمتع بكلّ هذه الثقة، فأنّ اتهامه كان سببا كافيا لدهشة الناس وعجبهم!.
حدثت الجريمة في مكان العمل، ومكان العمل هو (الجرداغ) في مدينة البصرة، وقد اعتادت بعض البيوت الريفية بعد ان ينتهي موسم الحصاد ان تنتقل الى هناك للعمل في كبس التمور، ويوفر هذا العمل لكثير من الناس (وخاصة اولئك الذين لاتدرّ عليهم الارض بما يكفي) شيئا مما يسد الرمق لباقي ايام السنة. اما هاشم، فهو رجل في الثلاثين وله وجه وسيم وهندام انيق، وبسبب شخصيته التي تحظى بالاحترام اختير ان يكون المسؤول الاول عن العمل والعمال في (الجرداغ).
تسربت تفاصيل القصة، وعرفنا بعد انتظار طويل، بأنّ المرأة العاهرة خطّطت مع احد القوادين (واخطر الخطط، تلك التي ترسمها العاهرات والقوادون)!!، خطّطت للقيام بهذه الجريمة ظناً منها بأنّها ضربت عصفورين بحجر!، اي انها تخلصت من زوجها الذي لا تحبه اولا، وسوف تتزوج من هاشم الذي أُغرمت به ثانيا، واخبرت (هاشم).. إن لم يلبّ رغبتها فأنها ستدّعي بأنه اقتحم بيتها بعد منتصف الليل وقتل (المرحوم).. وهكذا فعلتْ!. (سبحان اللة، يخلق من الشبه اربعين)!!.
امضى الرجل ستة اشهر في السجن، تحمل فيها الضرب والاهانة كمتهم بالقتل، ثم خرج منه بريئا، فأستقبله اهل القرية بالهوسات والزغاريد والهلاهل ونُحرت الخرفان وزُفّ الى بيته كما لو انه عريسا.
مازلت اتذكر تلك الايام رغم اني كنتُ صغيرا وطري العود آنذاك، وكلما اعتقدت (بأنّ الماضي يعيد نفسه بطريقة كاريكاتورية)!، كلما أُستفزت ذاكرتي وطفحت على سطحها الاحداث بحلوها ومرها، ولهذا السبب اصابتني رعشة غريبة ومربكة عندما نادى عليّ احد العمال قائلا: انّ امرأة في الخارج تنتظرك!!.
كنت في ذلك الوقت عاطلا عن العمل، وانظرُ بعينين خاليتين الى رتابة حياتي، واسكن في غرفة صغيرة مع مجموعة من الاقارب والاصدقاء في مدينة (الاحمدي)، وهي مدينة يكثر فيها العمال الاجانب الغير شرعيين، وتتعرض بين الحين والاخر، وخاصة اثناء الليل الى مداهمات الشرطة ، لذلك كنّا في حالة قلق وخوف مستمر.
خرجت من الغرفة الى الباحة، فشاهدت سيارة اجرة واقفة، ومن داخلها أطلّ وجه امرأة يشبه حنطة اهلي!، وعندما نظرتُ اليهاعرفتها على الفور، فأبتسمتْ وأومأتْ لي بأن اصعد الى جانب السائق.
اخذتني الى شقتها ذات الجدران المطلية باللون الابيض، وكان ضوء القمر يتسرب عبر الستارة البيضاء وينهمرُ على السرير ابيض، اما هي، فقد ارتدت فستانا اسودا لايسترُ ابيض، ورقصتْ حتى حوّلتْ لون ليلتي الى ابيض.
كان كلّ ذلك مثل نسمة باردة في صيف قائظ، حلم مباغت لم افكر به سابقا ولاخطّطت له يوما، ومع ذلك فأنه راح يتكرر لليالي كثيرة حتى ازاحت المرأة عن روحي غبار الوحشة وقلق الانتظار، وكنت في كل يوم قبل غروب الشمس اذهب الى هناك، فأجد بأنتظاري (سمج امطبكَ ، أو تمن ولحم، أو كبة وكباب، أو و أو)!، وانا فرحان واقول مع نفسي (وين لاكَي هاي النعمة ياابو....).
لكنّ (رب العالمين) لم يكتب في صفحتي غير الشقاء!، وطالما وضعني في الشرك!، ففي احد الايام، وعندما وصلت الى مدخل الزقاق الذي يؤدي الى باب شقتها، وجدت نفسي فجأة ووجها لوجه امام خمسة من الشباب!، (دكلها يبو نفس الدنية)!، حاصروني في مكان ضيق وسدّوا عليّ طريق الهزيمة، وبدأوا بالكلام الذي يستفز الكرامة، ومن حسن حظي انهم لايريدون قتلي، وليس عندهم سلاح، ولايعرفون (الكاراتيه) ولا ضرب (البوكسات)، وكانوا يستخدمون (الرفس) اكثر من اي شيء آخر، اما انا، فقد دخلت المعركة في بداية الامر بكلّ طاقتي، (وصرت اهومش بديّ ورجليّ)، لكني عندما رأيت الناس بدأتْ تتجمع، خفت من أن تأتي الشرطة وتصبح قضية، (فعضيت دشداشتي ابحلكَي) واطلقت العنان لساقيّ اللذان راحا يلتهمان الشوارع والارصفة والساحات، ولم اتوقف الى ان شممت رائحة الآمان عندما دخلت في مجمع سكني لعمال احدى شركات البناء، فاسندت ظهري على الجدار، ورحت افكر بالطريقة التي اعثر فيها على (الدليل) الذي ينقذني من المائة جلدة!.