مدارات

12 عاما على أحداث 11 سبتمبر 2001 وتداعياتها/ د. صالح ياسر 1- 7

12 عاما على أحداث 11 سبتمبر 2001 وتداعياتها

بعض معالم  التحولات في التفكير الاستراتيجي للولايات المتحدة

    في الحادي عشر من أيلول/سبتمبر 2013 تكون قد مرّت اثنتا عشر عاما على أحداث 11 سبتمبر 2001. وبداية، لابد من إدانة التفجيرات التي حصلت في ذلك اليوم في كل من نيويورك وواشنطن، بصرف النظر عن أي دوافع أو خلفيات سياسية وغيرها. ويمكن القول أن هذه الأحداث وتداعياتها شكلت منذ لحظة وقوعها ربما الحدث الأهم في المشهد السياسي العالمي حينذاك وتلتها العديد من الترتيبات والتبدلات الاستراتيجية الاقليمية والعالمية. وقد أحدثت تلك الاحداث عدة آثار في العلاقات الدولية الى درجة دفعت بعض المحللين للقول بأن معالم " علاقات دولية جديدة " بدأت تتشكل منذ تلك اللحظة وأن عمقاً جديداً لـ " النظام الدولي الجديد " بدأت غماره وتداعياته على نحو مفصلي وتاريخي ونوعي ! ومن الواضح أن الظاهرة الأكثر خطورة في أحداث 11 سبتمبر 2001 تلقّي الولايات المتحدة، التي تعتبر " القطب الأوحد "، ضربة قوية في تاريخها المعاصر ليس من طرف بلد أو مجموعة بلدان بشكل مباشر بل من طرف مجموعات إرهابية، مما طرح على العقل الاستراتيجي الأمريكي أسئلة خطيرة وعصيّة حول التحديّات غير المسبوقة وما يرافقها من تصدّعات واختلالات قد تكون بنيوية الطابع. ومن هنا ضرورة فهم هذا الحدث/الزلزال ليس في لحظة وقوعه وإنما في ما حمله من تداعيات وما ارتبط به من استحقاقات إقليمية وعالمية البعد، إضافة الى تعجيله ببلورة معالم إستراتيجية جديدة للولايات المتحدة. وقد كان خطاب " حال الاتحاد " الذي ألقاه الرئيس الأمريكي بوش في بداية عام (2002) قد وضع الإطار العام للوجهة الجديدة، حيث لوحظ بروز عده مفاهيم من قبيل: " محور الشر "، و" الدول المارقة "،  و " الحرب على الإرهاب " لتعبر عن البيئة الاستراتيجية الجديدة، علما أنه وبعد وقوع تلك الاحداث تم اتخاذ جملة الاجراءات شكلت عناصر ومرتكزات استراتيجية جديدة.

    هكذا إذن وفي اطار مواجهة التحديات جرى صناعة مفهوم للأمن القومي يأخذ بأكثر رؤى الأمن القومي الأمريكي جنوحا وتطرفا، وجرى إنتاج هذه الأفكار والمفاهيم - وفق ما روج منظروها من المحافظين الجدد - لا لتسود لعقد أو لجيل، وإنما لـ "تبشر" بما يقارب نصف قرن من المواجهة مع "الإرهاب". حاكت عقلية "الحرب على الإرهاب"، سيناريو لحرب أيديولوجية وميدانية ممتدة مع هذا "العدو" الجديد تماثل المواجهة مع المعسكر الاشتراكي خلال النصف الثاني من القرن العشرين، وجرى وضع خريطة لأحلاف عائمة وأعداء فى دائرة تدور رحاها، وتحدد خلاصة ونتائج كل حرب فيها العدو التالي، ويحكمها مبدأ "من ليس معنا فهو ضدنا". في ظل هذه الموجة جرت عسكرة شبه كاملة لمفاهيم الأمن القومي الأمريكي، وسادت الرؤية بأن القوات المسلحة تشكل رأس الحربة في المواجهة مع "الإرهاب"، و برز ذلك على نحو خاص فيما أُسمي بـ "مبدأ بوش" أو عقيدة بوش. وتماشيا مع هذه الرؤية "المعسكِرة" للأمن القومي شهدت ميزانية البنتاجون والمؤسسة العسكرية زيادة هائلة، وقد ساعد على ذلك وجود وزير دفاع من طبيعة خاصة، وله أيديولوجيا خاصة، تجاوزت كثيرا مواقف قيادات المؤسسة العسكرية الاحترافية، وهو الوزير الشهير (دونالد رامسفيلد)، الذي شهدت المؤسسة العسكرية في عهده مدا كاسحا للأيديولوجيا على حساب المؤسسية (1).

    ومن المفيد التذكير هنا، منعا لأي التباس، بأن هذا الخطاب لم يكن ظرفياً، بل إنه يشكل امتدادا طبيعيا لـ " حركة فكرية " داخل مراكز صناعة القرار في الولايات المتحدة كانت تهدف الى صياغة معالم وعناصر التصور الأمريكي لحقبة " ما بعد الحادي عشر من أيلول " (2) بما في ذلك بلورة العقيدة العسكرية الأمريكية الجديدة، التي تمثل تطورا نوعيا بالمقارنة مع تلك التي تبلورت في بداية التسعينات من القرن العشرين اثر تفكك الاتحاد السوفيتي وانهيار المعسكر الاشتراكي وحل حلف وارشو.

    واستندت هذه الحركة الفكرية الى تراث (المدرسة التدخلية الحازمة) التي ينتمي ابرز مفكريها الى ما اتفق على تسميته بـ "المحافظون الجدد"، الذين وقعوا على وثيقة (القرن الاميركي الجديد PNAC) (3). وينسب إليهم تقديم وجهات نظر متماسكة ومعبرة عن تنميط جديد للعالم مثلما قدم كل من (والتر راسل ميد) في كتابه: "القوة، الإرهاب، السلام، والحرب: خطر محدق باستراتيجية اميركا في العام (2004)"، او (نيال فرغوسون) في كتابه: "ثمن الامبراطورية الاميركية (2004)"، او (روبرت ليبير): "العصر الاميركي: القوة الاستراتيجية في القرن الواحد والعشرين (2005)".

    ويتقاطع هؤلاء في نظرتهم الى ان التهديد الاخطر الذي يواجه الولايات المتحدة هو ما يمكن تسميته "حزام الفوضى الجنوبي" من الكرة الأرضية والإرهاب، ولا يعلقون اهمية كبرى على دور التحالفات والشراكات، ويؤمنون بأحقية التدخل العسكري المنفرد للولايات المتحدة بحسب رغبتها، ولا يقيمون وزناً فعلياً لدور الامم المتحدة، او حتى لحلف الناتو، اذا لم يتفقا – أي الامم المتحدة وحلف الناتو- مع ما يعتبرونه المصلحة الاميركية الخاصة. ويعتبر هؤلاء ان استخدام القوة العسكرية الاميركية والعقوبات الاقتصادية وسائل مشروعة دائماً للاستخدام بصورة منفردة، وبهدف القضاء على التهديدات، وترويج الافكار و "النماذج الديموقراطية"، داعين الولايات المتحدة للعب دور قيادي مع حلف الراغبين وبصورة انتقائية بحسب الطلب في مواجهة كل حالة معينة، ولا يكترثون لمن يعتقد بحدود أو ضوابط للقوة العسكرية والاقتصادية الاميركية، ويمكن وصفهم فعلا في ضوء التجربة الميدانية خلال عهد بوش الابن ـ الذي نفذ رؤيتهم ـ عمليا بـ "حلف المكابرين".

معالم العقيدة العسكرية الأمريكية الجديدة بعد 11 ستمبر 2001

    إستنادا الى مايكل ت. كلار، الاستاذ في جامعة هامشر ومؤلف كتاب Resource Wars: The New Landscape of Global Conflict, Metropolitan Books, 2001  الصادر عام 2001 (4) تقوم الهيكلية الاستراتيجية للدفاع الاميركي على ركائز ثلاث:

اولاً، المركزية الاميركية، أي العقيدة القائلة باستخدام القوات لما فيه اقصى المراعاة للمصالح الوطنية، بما في ذلك ابان العمليات المشتركة مع الحلفاء.

ثانياً، السيطرة العالمية او القدرة على ايصال قواتها الى أي مكان وفي أي زمان وضمن مطلق الظروف. ثالثا، التفوق الدائم، بمعنى آخر اللجوء الى العلم والتكنولوجيا والموارد الاقتصادية تأمينا للغلبة الدائمة للقوات المسلحة الاميركية.

    ومنعا لأي التباس لابد من الاشارة الى أن هذه الافكار ليست في مجملها جديدة. فهناك ادارات اخرى سعت الى تفضيل هذه الركيزة او تلك. لكن الشيء المهم هنا هو انه لم  يصل التفكير الاستراتيجي قبل 2001 الى بلورة هذه الركائز بهذا القدر من التماسك والوضوح والحماسة، الى درجة يمكن معها القول بحدوث انقلاب في التفكير الاستراتيجي في الولايات المتحدة الاميركية.

    ومن متابعة التفكير الاستراتيجي يلاحظ أن العقيدة العسكرية الاميركية سعت على الدوام الى جعل استخدام القوات المسلحة في الخارج متوافقا مع مصالح الولايات المتحدة الامنية الاساسية. لكن الاهداف الاستراتيجية كانت تكتسي في السابق طابعا أخلاقيا وتروج لمفاهيم من قبيل : " الدفاع عن الديموقراطية ومكافحة الشمولية والحفاظ على السلام ….. الخ ". واذا لم يصبح مصير هذه الاهداف الزوال التام في عهد جورج بوش الابن، فانها باتت مرهونة بدقة للدفاع عن " المصالح الوطنية ".

    ويمكن ملاحظة ابرز معالم التغيرات في الإستراتيجية الجديدة التي تبلورت بعد أحداث سبتمبر، في المحاور التالية (5):

    أولا: الانفراد بالتفوق العسكري المطلق بما يحقق السيطرة الإستراتيجية الكاملة. إن قراءة متفحصة لجوهر العقيدة العسكرية الجديدة، تكشف لنا أنها لا تطول فقط إحداث ما يسمى بـ  "الثورة في المسائل العسكرية" بل توظيف هذه التقنيات الجديدة لتحقيق " تفوق نوعي على الخصم " يتيح ضمان مبدأ " السيطرة الإستراتيجية " بالمطلق. ومن المعلوم ان (رامسفيلد)، وزير الدفاع الأمريكي في حينه، كان قد حدد في حديث له أمام طلاب جامعة الدفاع الوطني، جوهر العقيدة العسكرية الجديدة بأنه يتمثل في:

* امتلاك قوة ردع فوق أربعة مسارح معا؛

* الانتصار على قوّتين تهاجمان الولايات المتحدة، ( أي مسرحين للحرب)؛

* خوض هجوم مضاد قوي؛

* احتلال عاصمة بلد معاد وإقامة نظام جديد فيها.

    ويعني هذا إضفاء تعديل هام على العقيدة العسكرية التي ظلت سارية المفعول لحد هذا الوقت.

    وطبيعي أن ما قاله (رامسفيلد) بشأن " امتلاك قوة ردع فوق أربعة مسارح معا " له دلالته في كونه سيحرر الأمريكيين على ما يبدو من الاعتماد على الحلفاء الأوربيين. ولاشك أن كلام (بول وولفويتز)، نائب وزير الدفاع الأمريكي آنذاك، كان شديد الصراحة حين قال في (مؤتمر ميونيخ الأمني) في آذار 2003 بما معناه أن المعارك هي التي ستحدد التحالفات.

    وقبل ذلك كانت أهداف السياسة الدفاعية الرئيسية قد مرت بثلاث مراحل أساسية، حسب بول ماري دولا غورس (6):

•  قبل السبعينات من القرن العشرين كانت سياسة الدفاع الأمريكية تضع نصب أعينها الاستعداد لخوض "حربين ونصف "، بحسب المذهب ( Doctrine) الذي تبناه آنذاك الرئيس الأمريكي الأسبق (ريشارد نيكسون). ففي إطار "الحرب الباردة" حيث كانت البلدان الاشتراكية تشكل كتلة واحدة، كان من المفترض – بحسب هذه العقيدة - الاستعداد لحرب محتملة ضد الاتحاد السوفيتي وأخرى من الصنف نفسه ضد الصين وثالثة في الوقت نفسه لكن بحجم إقليمي ضد بلدان عدوة لا تقاس قدرتها العسكرية بالقوتين العظميين. ومن هذه النزاعات مثلا الحرب الكورية والفيتنامية أو الحملات العسكرية في لبنان وغواتيمالا .... الخ. وقد دفع النزاع الإيديولوجي بين الاتحاد السوفيتي والصين، والذي توج بقطيعة سياسية – اقتصادية، الرئيس (ريتشارد نيكسون) الى تبني مبدأ "الحرب ونصف الحرب" الذي يتحسب لمواجهة رئيسية مع الاتحاد السوفيتي أو مع الصين إضافة الى نزاع إقليمي من النوع المذكور آنفا.

• مباشرة بعد انتهاء " الحرب الباردة "، أصدرت إدارة الرئيس بوش الأب (رئيسا خلال الفترة 1989-1993) عام 1991 وثيقة بعنوان " نظرة الى القدرة العسكرية الأساسية" تضمنت مبدأ جديدا بات يتوقع حدوث "نزاعين إقليميين كبيرين" والتهيؤ لهما.

• وحين انتخب (بيل كلينتون) رئيسا للولايات المتحدة خلال الفترة (1993-2001) أكدت إدارته التوجه السابق وذلك في تقويمها الشمولي عام 1993، وعام 1997 في وثيقة حول "سياسة الدفاع الرباعية" (أربع سنوات) حيث أطلق على هذه النزاعات اسم "حروب رئيسية في مسرح عمليات".

    لم يكتف رامسفيلد، في الخطاب المشار إليه أعلاه، بتوسيع احتمالات النزاع من اثنين الى أربعة "رئيسية تدور في مسرح عمليات" بل حاول صياغة تعريف جديد للأخطار التي يتعين على الولايات المتحدة مواجهتها. فجمع في " معسكر الأعداء " نفسه  " المنظمات الإرهابية " ذات "التطلعات الدولية" والدول التي تساندها وخصوصا تلك التي يمكن أن تمدها بأسلحة الدمار الشامل (النووية والبيولوجية والكيميائية) والتي تقوم هذه الدول بتطويرها. فالخطر – بحسب رامسفيلد - لا يتحدد فقط بمصدره بل أيضا بطبيعته. ولاشك أن قراءة متفحصة لجوهر هذه العقيدة تكشف لنا أنها لا تطول فقط إحداث ما يسمى بـ  "الثورة في المسائل العسكرية" بل توظيف هذه التقنيات الجديدة لتحقيق " تفوق نوعي على الخصم " يتيح ضمان مبدأ " السيطرة الاستراتيجية ". وطالما شدد واضعو الخطط العسكرية الأمريكية على ان نظريتهم في "السيطرة الاستراتيجية" وجدت استجابة لكل أشكال النزاع. ويجري تطبيقها بحسب طبيعة الخصم وعدده وقوته الصناعية وبنيته التحتية وحجم مدنه ولا سيما نظامه السياسي وما المطلوب القيام به لقلبه أو تحييده. فالنظرية تترك المجال واسعا أمام التجريبية في تطبيقها. وهو ما حدث مثلا عند تنفيذها خلال حروب الخليج والبوسنة ومن بعدها في كوسوفو.

    ولم يتوقف (رامسلفيد) عند تحديد مسارح الحرب التي ستنشط فوقها قوة الردع، والتي يتعين امتلاكها في إطار العقيدة العسكرية الجديدة، بل إنه حدّد أهداف تلك القوة بما يلي :

"- حماية الأرض الوطنية والقواعد العسكرية في العالم؛

-  الانتقال الى مسارح عمليات بعيدة؛

- تدمير معاقل العدو؛

-ضمان أمن أنظمة المعلومات والاتصال؛

- تطوير استخدام التكنولوجيا الخاصة بالتنسيق بين القوات؛

- حماية الفضاء والترسانة الفضائية الأمريكية ".

ثانيا: التخلي عن " إستراتيجية الردع والاحتواء " التي حكمت السياسة الأمريكية إبان "الحرب الباردة " وتبني إستراتيجية " الهجوم الوقائي ".

    في البداية، ثمة حاجة للتمييز بين مفهوم الحرب الوقائية ومفهوم الحرب الاستباقية. فالحرب الوقائية  هي الحرب التي تُخاض "الآن" لتجنب مخاطر حرب "لاحقة" بظل ظروف أسوأ. وهذه الحرب بالنسبة لهانز مورغانثو (أحد أبرز منظري النظرية الواقعية في العلاقات الدولية)، هي وسيلة ضرورية لحفظ التوازن في النظام الدولي أو الإقليمي حتى. أما الحرب الاستباقية فهي تقع كرد على خطر داهم متحقق ومباشر. وبهذا المعنى فان علامة التمييز الأساسية بينهما هي في عامل «الوقت»، فالحرب الاستباقية تقع كرد على خطر داهم متحقق ومباشر، فيما الحـرب الوقائــية تهــدف لمواجــهة تهــديد ممكن، مستقبلي وغير متحقق لحظة الحرب. .

    لم تكتف الولايات المتحدة بالحديث عن " اطر عامة " لإستراتيجيتها الكونية الجديدة بعد احداث 11 يبتمبر 2001 بل بدا أنها كانت عازمة على مواصلة جهودها لبلورة قواعد محددة لعقيدتها العسكرية الجديدة تنص على الحق في توجيه الضربة الاولى الى الدول التي تملك اسلحة دمار شامل. وتحدث الرئيس الاميركي السابق (جورج دبليو بوش) في 1 حزيران (يونيو)/2002 عن ضرورة القيام بعمليات عسكرية "احترازية" في اطار "الحرب الشاملة ضد الارهاب"، بحسب ما اوردت صحيفة (واشنطن بوست) يوم (10/6/2002). وفي حديثه هذا، أعلن الرئيس بوش صراحة ان الولايات المتحدة على وشك الانتقال من استراتيجية (الردع والاحتواء)، إلى استراتيجية (الهجوم الوقائي). وقال: (إذا ما انتظرنا كي تنضج التهديدات، سنكون انتظرنا طويلاً. إن أمننا يتطلب من كل الاميركيين أن يتّحلوا ببعد النظر والتصميم، وان يكونوا مستعدين للقيام بهجمات وقائية استباقية حين يكون الأمر ضرورياً للدفاع عن حريتنا وعن أرواحنا).

    ترتكز استراتيجية الهجوم الوقائي (الحرب الوقائية) علي قاعدتين أساسيتين‏ :‏

القاعدة الأولى ، أنها تعتمد علي الضربات المباغتة دون انتظار انكشاف "الأدلة العدوانية" للطرف الآخر المقصود‏ .‏ فقد أوضح وزير الدفاع الأمريكي الاسبق (دونالد رامسفيلد) لوزراء الدفاع في حلف شمال الأطلسي‏‏ أثناء اجتماعهم في بروكسل يوم‏ 6‏ يونيو/حزيران 2002 أنّ "‏ الحلف لا يمكن أن ينتظر الدليل الدافع "‏ حتى يتحرك ضد المجموعات الإرهابية أو يهدد الدول التي تملك الأسلحة الكيماوية والبيولوجية والنووية ‏.‏

القاعدة الثانية، أنّ استخدام السلاح النووي في هذه الضربات الوقائية مسألة محتملة، ليس فقط السلاح النووي التكتيكي ولكن ربما السلاح النووي الاستراتيجي‏ .‏

     ويمكن القول ان المبدأ الاستراتيجي الجديد هذا يبتعد كثيرا عن سياسة "الحرب الباردة" التي كانت تقوم على الردع والاحتواء. وكما معلوم فقد كانت الولايات المتحدة تعتمد، حتى الاعلان عن العقيدة الجديدة، على عقيدة "الردع"، القائمة على اقناع العدو، ولا سيما الاتحاد السوفياتي ابان " الحرب الباردة "، بانه قد يتم القضاء عليه اذا ما بادر الى ضربها. وأثار التغيير الجديد مناقشات وجدل بين الخبراء العسكريين والستراتيجيين، فهو لا يستبعد اللجوء " في نهاية المطاف" الى الاسلحة النووية، ولا سيما لاختراق مواقع محصنة شديدة المقاومة ومخبأة تحتوي على مخزون من الاسلحة البيولوجية او الكيميائية. وضمن هذه الاستراتيجية اضيف للمرة الاولى تعابير من قبيل : " الوقائي " و " التدخل الدفاعي " بإعتبارها خيارات رسمية لضرب " دول معادية " او جماعات " تبدو " عازمة على استخدام اسلحة الدمار الشامل ضد الولايات المتحدة.

    وعاد الرئيس بوش ليؤكد على نظرية او سياسة الضربة الاستباقية او الوقائية في خطاب له امام الحزب الجمهوري بتاريخ 15 يونيو 2002  حيث اوضح ان عنصري الردع والاحتواء اللذين قادا سياسة اميركا الخارجية منذ طرحها في اطار مبدأ ترومان عام 1947م ، لم يعودا كافيين، وبعد يومين من هذا الخطاب، شرحت وزيرة الخارجية انذاك (كونداليزا رايس) مبدأ بوش الاستباقي او الوقائي بقولها "انه يعني منع اعمال تدميرية معينة ضدك، ومن خصم لك وان هناك اوقاتا لا تستطيع فيها الانتظار حتى يقع عليك الهجوم، ثم ترد ..". ومن الواضح، مقارنة بمبدأ ترومان ان الضربات الاستباقية وفقا لعقيدة بوش وعلى هذه الصورة، تقوم على دلائل غير مؤكدة وليس رداً على هجوم فعلي، لذلك فهو سلوك هجومي في اساسه بينما مبدأ ترومان للردع والاحتواء يبقى دفاعيا في مفهومه.

    ويعني التطبيق العملي لهذه الاستراتيجية، بإختصار شديد، أن الولايات المتحدة ستمنح لنفسها حرية اتخاذ القرار وتطبيقه ضد اي دولة او جماعة دون الرجوع للشرعية الدولية، الامر الذي يعرض الامن والسلم العالميين للخطر. ان هذه الاستراتيجية تتعارض تماما مع ميثاق  الامم المتحدة وتعطّل دورها كلية‏، ذلك لأنها تعطي الولايات المتحدة حق العدوان تحت زعم أو غطاء الدفاع عن النفس، كما أنها تعطّل دور الأمم المتحدة في كفالة الأمن والسلم الدوليين .‏

    ويعد هذا تحولا مهما في الفكر الاستراتيجي الأمريكي، فهذه الإستراتيجية تبتعد عن مبدأ عمره أكثر من نصف قرن في السياستين الدفاعية والخارجية الأمريكية هو الاحتواء والردع، وتقترب من نظرية (التدخل الدفاعي) و(الهجوم الوقائي). وقد اعتبر العديد من المحلّلين هذا التوّجه أكبر تغيير في الإستراتيجية الأمنية - العسكرية منذ حقبة أربعينات القرن العشرين حين أسس الرئيس الامريكي (هاري ترومان) المخابرات المركزية الأمريكية (CIA) ومكتب التحقيقات الفيدرالي (FBI) والبنتاغون. وطبيعي أن مثل هذه النقلة النوعية اجبرت المؤسستين العسكرية والاستخبارية الأمريكية على تنفيذ تبدلات واسعة في تركيبتهما وسياساتهما. وذلك على مستويين:

-  الأول، مستوى المفاهيم، حيث سيتطلب الأمر تغيير العقلية العسكرية الأمريكية التي تعتبر الهجمات المفاجئة عملية (غير مشّرفة).

-  والثاني، مستوى العتاد، لأن الهجمات الوقائية – بحسب الاستراتيجية الجديدة - تحتاج الى أنواع جديدة من الأسلحة لجعل القوات الأمريكية أكثر مرونة في الحركة وأكثر قدرة على " الفتك السريع ".

    لقد طور الباحثون الاستراتيجيون الأمريكيون ستيفن كزياك وأندرو كربيمفتش ومايكل فيكرز مبدأ (الحروب الاستباقية) أو (الوقائية) بصفته الوجه الآخر لهذه الاستراتيجية السياسية. وفي الولايات المتحدة، يحدد هذا المفهوم بأنه (ذلك النوع من النشاطات العسكرية الهادفة إلى تحديد، وتحّييد أو تدمير أسلحة الدمار الشامل التي يمتلكها الآخرون، قبل أن يتمكنوا من استخدامها).

ويصف أنصار هذا المفهوم الحرب التي يبشّر بها هذا التعبير بأنها (دفاع وقائي) أو (ردع متمدد). لكن خصومه يقولون إنه مجرد نسخة جديدة من ديبلوماسية البوارج الحربية !

ويقول الباحثون الاستراتيجيون المشار إليهم أعلاه أنه (يمكن تحديد المصلحة القومية في هذا العصر الجديد على مستويات ثلاثة:

•  مصلحة البقاء، التي من دونها تتوقف أمريكا كما نعرفها عن الوجود؛

• المصالح الحرجة والتي أبعد بخطوة عن مصلحة البقاء؛

• والمصالح المهمة التي تؤثر على العالم حيث مجال عمل الولايات المتحدة ).

    والأهم من هذا وذاك، ان الإستراتيجية الجديدة ستلغي مفهوم شن حربين إقليميتين في وقت واحد (على نمط حرب الخليج الثانية)، لمصلحة مفهوم أوسع بكثير: القدرة على الحركة العسكرية في 60 دولة في آن (وإن بمستويات منخفضة الوتيرة).

    بيد ان هذا التوّجه الجديد، أثار جدلاً واسعاً في الولايات المتحدة وقسم المخططين والمحللين وواضعي السياسات الى معسكرين:

•المعسكر المؤيد لانقلابية بوش - رامسفيلد. وقد جادل انصار هذا المعسكر بأن سياسة الردع - الاحتواء التي طبقت طيلة حقبة "الحرب الباردة" لم تعد مفيدة الآن في حقبة ما بعد هذه الحرب. إذ كيف يمكن ردع شبكة إرهابية لا أرض لها، ولا مواطنين لديها قد يتعرّضون الى الخطر, وأعضاؤها يعتبرون الموت استشهاداً مجيداً؟ كيف يمكن احتواء أنظمة (متشرّدة) في عصر حيث التكنولوجيات والمواد الخطرة يمكن ان تتسلل عبر الحدود إلى أيدي الإرهابيين؟.

•المعسكر الثاني، ويمثله معارضو الإستراتيجية الجديدة فهم، ومع قبولهم فكرة الهجوم الوقائي كخيار، فإنهم حذروا من تحويلها الى إستراتيجية متكاملة لأنها قد تضع الولايات المتحدة أمام مخاطر عدة أهمها وأبرزها خطر التمدد الاستراتيجي الزائد الذي طالما حّذر منه الباحث بول كيندي.

وبالملموس، مالت الكفة لمصلحة المعسكر الأول.

 ثالثا: صياغة تعريف جديد للأخطار التي على الولايات المتحدة مواجهتها. فجمع في " معسكر الأعداء " نفسه " المنظمات الإرهابية " ذات "التطلعات الدولية" والدول التي تساندها وخصوصا تلك التي يمكن أن تمدها بأسلحة الدمار الشامل (النووية والبيولوجية والكيميائية) والتي تقوم هذه الدول بتطويرها. فالخطر لا يتحدد فقط بمصدره بل أيضا بطبيعته.

    وارتباطا بذلك باتت الولايات المتحدة تدرس احتمال استخدام السلاح النووي ضد دول غير نووية، أو ردا على هجمات بأسلحة كيمياوية وبيولوجية أو عند حدوث " تطورات عسكرية مفاجئة " ذات طبيعة غير محددة. والخلاصة أن المبدأ النووي الأمريكي الجديد لا يستبعد إمكانية لجوء الولايات المتحدة قبل غيرها إلى استخدام السلاح النووي إذا ما نشأ خطر صنع سلاح إبادة جماعية من قبل خصومها.

    فلم تعد الولايات المتحدة تكتف بالحديث عن " اطر عامة " لإستراتيجيتها الكونية الجديدة بل أنها أصبحت عازمة على مواصلة جهودها لبلورة قواعد محددة لعقيدتها العسكرية الجديدة تنص على الحق في توجيه الضربة الأولى الى الدول التي تملك أسلحة دمار شامل. وتحدث الرئيس الأمريكي جورج دبليو بوش في 1 حزيران(يونيو) 2002 عن ضرورة القيام بعمليات عسكرية "احترازية" في إطار "الحرب الشاملة ضد الإرهاب"، بحسب ما أوردت صحيفة واشنطن بوست يوم (10/6/2002). وفي حديثه هذا، أعلن بوش صراحة ان الولايات المتحدة على وشك الانتقال من إستراتيجية الردع والاحتواء، إلى إستراتيجية (الهجوم الوقائي).

رابعا: " إعادة تقييم الوضع النووي

من جهة أخرى عاد شبح الخطر النووي من جديد، بعدما توصل " العمالقة النووييون "، في فترة سابقة، الى حقيقة أن استخدام هذا السلاح يؤدي الى نتيجة واحدة : لا يوجد منتصرون. وقاد ذلك الى تغيير مجرى الصراع، فقد أدى نظام الثنائية القطبية وما ارتبط به ما أطلق عليه بـ " توازن الرعب " الى عدم اندلاع أي حرب شاملة على المستوى العالمي، والذي استبدل الى حروب إقليمية محدودة لحل التناقضات بين العمالقة بالواسطة. وبعد تفكك الاتحاد السوفيتي وانهيار المعسكر الاشتراكي والتداعيات التي تلته فقد انهار نظام الثنائية القطبية ليحل محله "نظام القطب الواحد" حيث بدأت الولايات المتحدة تلعب في هذا " النظام " دور القطب الأوحد الذي يعيد إنتاج العالم وفق " المقاسات " الأمريكية لضمان الهيمنة على العالم بآليات اشد قوة، باستخدام توليفة من وسائلها وبتجلياتها المختلفة، بما في ذلك العودة مجددا الى التهديد باستخدام السلاح النووي. 

    شهدت بداية عام 2002 تسريبات مقصودة كانت بمثابة بالون اختبار لقياس ردود فعل العالم فيما لو تم استخدام هذا السلاح الفتاك. فقد ذكرتا صحيفتا (لوس أنجلوس تايمز) و (نيويورك تايمز) أن وزارة الدفاع الأميركية كُلفت في حينه بوضع خطط طارئة لاستخدام الأسلحة النووية ضد سبع دول على الأقل هي " روسيا والصين والعراق وإيران وكوريا الشمالية وليبيا وسوريا ". وقد وردت هذه المعلومات في تقرير سري أعده البنتاغون وقدمه للكونغرس في 8 يناير (كانون الثاني) 2002. والتقرير، الذي اعد بعنوان " إعادة تقييم الوضع النووي " (7) يكشف أيضاً أن الولايات المتحدة تعتزم استخدام أسلحة نووية لمواجهة 3 أنواع من التهديدات:

-  ضد أهداف قادرة على الصمود أمام هجمات غير نووية.

-  رد على هجمات بالسلاح النووي أو البيولوجي أو الكيميائي.

- حصول تطورات عسكرية مفاجئة.

    وقد برّر بوش قراره هذا في 13 آذار 2002 قائلا : " إنها طريقة لنقول للذين يريدون إيذاء أميركا: لا تفعلوا ذلك ".

    ويبدو أن تقرير " إعادة تقييم الوضع النووي " الذي تم الكشف عنه  في حينه يبيّن مدى التحولات النوعية في الفكر الاستراتيجي الأمريكي التي تركتها أحداث الحادي عشر من سبتمبر 2001، ويوضح في الوقت ذاته بعدا مخيفا جديدا لتأثيرات تلك الأحداث على حروب المستقبل.

    لقد أشار التقرير أن البنتاغون يستعد لاستخدام الأسلحة النووية في حرب محتملة بين الصين وتايوان، أو في حال تعرضت كوريا الجنوبية الى هجوم من جارتها الشمالية. وصنف التقرير في حينه كلاً من كوريا الشمالية والعراق (في حقبة صدام حسين) وايران وسورية وليبيا بأنها " دول يمكن أن تشارك " في الأنواع الثلاثة من التهديدات المذكورة آنفا. وبرر صائغو التقرير هذا الموقف من هذه الدول بأنها " كلها ذات عداء طويل المدى ضد الولايات المتحدة وشركائها. وكلها ترعى أو تؤوي الارهابيين، ولديها برامج ناشطة لأسلحة الدمار الشامل وللصواريخ ". أما الصين، فرأى التقرير أنها " دولة يمكن مشاركتها في حالات طوارئ مباشرة او محتملة " بسبب ترسانتها النووية وتطويرها لأهداف استراتيجية. أما بصدد روسيا الاتحادية فرأى التقرير بأنها لم تعد رسميا "عدوا "، الا ان ترسانتها الضخمة، التي تشمل ما بين 6 آلاف الى 10 آلاف رأس نووي " لا تزال تثير القلق ".

    وإذا تفحصنا مجموعة الدول التي تعتبر أهدافا نووية محتملة لتبين لنا " المفارقة الطريفة " التالية : أن من بين هذه الدول هناك اثنتان فقط تملكان السلاح النووي (روسيا الاتحادية والصين) وبالتالي ليس مستغربا ان تدرس الولايات المتحدة سيناريوهات مختلفة لاحتمال استخدام السلاح النووي اذا نشبت مواجهة معهما. غير أنه، وإستنادا الى تقرير " اعادة تقييم الوضع النووي "، نلاحظ تطورا جديدا يسترعي الإنتباه وهو ان الولايات المتحدة باتت تدرس احتمال استخدام السلاح النووي ضد دول غير نووية، بل انها تضع الخطط لمثل هذا الاحتمال. وكما هو معلوم فقد دأبت الماكنة الاعلامية الامريكية وعلى مدى فترة طويلة للترويج لموقف يقول إن الأسلحة النووية أسلحة هي بمثابة قوة رادعة ضد هجمات محتملة من جانب الاتحاد السوفيتي السابق خصمها في الحرب الباردة. ورفضت استخدام الأسلحة النووية ضد أي دولة غير نووية ما لم تتحالف هذه الدولة مع دولة أخرى ذات قدرات نووية. وطرح (وليام أركين) الكاتب بصحيفة (لوس أنجلوس تايمز) وزميل كلية الدراسات الدولية المتطورة بجامعة جونز هوبكينز ملاحظة لماحة حين اشار  إلى أن خطة بوش المصاغة في  تقرير " اعادة تقييم الوضع النووي "، هي بمثابة تغيير اتجاه قائم منذ نحو عقدين لإرجاع الأسلحة النووية إلى مرتبة أسلحة الملاذ الأخير.

وبهذا الصدد أشار أركين  الى إنه يبدو أن الإدارة الأميركية " تتطلع لأسلحة نووية يمكنها أن تلعب دورا في مواجهة تحديات مثل التي تواجهها الولايات المتحدة من تنظيم القاعدة بزعامة أسامة بن لادن والذي تلقى عليه مسؤولية تدبير هجمات 11 سبتمبر/ أيلول ".

    والخلاصة، أن المبدأ النووي الأميركي الجديد لا يستبعد إمكانية لجوء الولايات المتحدة قبل غيرها إلى استخدام السلاح النووي إذا ما نشأ خطر صنع سلاح إبادة جماعية من قبل خصومها، أي أن أميركا أعطت نفسها " فرمان " استخدام السلاح، بما فيه ترسانتها النووية الضاربة ضد البلدان الأخرى. ويمكن الاستنتاج بأن المبدأ النووي الأميركي الذي تم الإعلان في التقرير المشار إليه سابقا، ورغم تضمنه قليلا من العناصر الجديدة، إلا أنه يعقّد الوضع الدولي تعقيدا شديدا، خصوصا وأن اعتماده تم في أعقاب إعلان الولايات المتحدة انسحابها من معاهدة الدفاع المضاد للصواريخ. وهذا الأمر نجم عنه خطر إضعاف، وربما ضرب كل نظام السيطرة على التسلح والأمن الدولي الذي تكون في سني "الحرب الباردة" الذي لم يقابله نشوء نظام جديد يأخذ في الحسبان واقع العلاقات الدولية الحالية حيث لم يعد هناك لاعبان اثنان فقط، بل بات اللاعبون كثراً، وهنا تكمن الخطورة الجدية. ويبدو أن انسحاب الولايات المتحدة من معاهدة الدفاع المضاد للصواريخ كان مخططا له للتحلل من أية التزامات تفرضها هذه المعاهدة، الأمر الذي فتح الأفق لإقدام الولايات المتحدة للإعلان عن تقرير " إعادة تقييم الوضع النووي " بكل ما يحمله من مغزى خلق حالات من الرعب الجماعي في العلاقات الدولية.

    ارتباطا بالملاحظة السابقة فإن ثمة سؤال مهم يطرح نفسه وهو أن تسريب التقرير المذكور كان عبارة عن رسالة؟ ولكن لم يراد توجيهها ؟

    للإجابة على هذا السؤال لا بد من التقاط ملاحظة (كونداليسا رايس) مستشارة الأمن القومي في حينه قبل أن تصبح فيما بعد وزيرة الخارجية الأمريكية في عهد ادارة بوش الابن. فقد دافعت رايس عن خطة وزارة الدفاع قائلة إن إدارة بوش " تريد توجيه إشارة قوية للغاية لكل من تسول له نفسه استخدام أسلحة الدمار الشامل ضد الولايات المتحدة ".

    إذا تجاوزنا العموميات وانتقلنا الى الملموس، في اللحظة التاريخية، وإرتباطا بالتحضيرات التي كانت جارية على قدم وساق للإنتقال للمرحلة الثانية من " الحملة العالمية ضد الارهاب " فإنه يمكن الاستنتاج بأن الذين وجهت لهم هذه الرسالة، في هذه المنطقة الملتهبة، هم حينذاك: نظام صدام حسين والفلسطينيين والايرانيين، إضافة لسوريا المعروف موقف الامريكان منها بإعتبارها مصنفة ضمن مجموعة " الدول المارقة ". ويمكن التساؤل: لماذا ؟ الاجابة على ذلك تكمن في ما يلي :

1.حصر المواجهة العسكرية المتوقعة، بين نظام صدام حسين والولايات المتحدة، في حال اقدام الاخيرة على إعتماد خيار الحرب، ضمن إطار استخدام الاسلحة التقليدية،  وتحذير النظام العراقي من مغبة اللجوء الى استخدام اسلحة كيمياوية او غيرها تحت طائلة تهديد الولايات المتحدة باستخدام السلاح النووي، سواء كان تكتيكيا أو أبعد منه. وقد برهن مجرى الاحداث اللاحق، وتحديدا عند اندلاع العمليات الحربية على الاراضي العراقية في اذار 2003 على هذه المطلب.

2. إبقاء الصراع العربي – الاسرائيلي في إطار الحدود المرسومة له بإعتباره مواجهة مسلحة بين الفلسطسنيين والاسرائليين فقط. وبسبب التوتر الخطير في المنطقة، انذلك، والناجم عن تصاعد المواجهات بين الفلسطينيين والاسرائيليين وسياسات حكومة شارون المتطرفة والدموية، الذي يمكن ان يتطور الى مواجهة شاملة مما دفع الولايات المتحدة الى إستباق التطورات هذه ليس باللجوء الى لغة الديبلوماسية لإطفاء هذه البؤرة المشتعلة بل فرض " سياسة الرعب النووي " لإجبار الاطراف العربية على البقاء في الحدود التي تريدها الولايات المتحدة لهذه اللعبة التي تستفيد منها لضمان ديمومة تواجدها وتعاظم تأثيرها على اللاعبين الإقليمين والمحليين في هذه المنطقة القابعة على بحيرة بترول. هنا يتم توظيف عامل  " الرعب النووي " للحفاظ على المصالح الاستراتيجية. وإذا ما معنى وضع المنطقة الملتهبة هذه في دائرة " الخطر النووي " خصوصا عندما دعا صائغو التقرير البنتاغون لان يكون مستعدا – وبخطط تفصيلية -  لاحتمال استخدام السلاح النووي في الصراع العربي ـ الاسرائيلي، وهو استخدام يتم بالطبع لمصلحة اسرائيل. وطبيعي أن مثل هذا الاحتمال يرفع من عدد الدول العربية المتضررة، وفي مقدمتها سوريا بسبب وضعها الجيوسياسي الاقليمي المتميز، من تقرير "اعادة تقييم الوضع النووي"، كما انه يضع المنطقة كلها في دائرة الخطر النووي.

3.تحجيم الدور الايراني وجعله ضمن الحدود المرسومة، وإرسال رسالة قوية الى القيادية الايرانية تنص وبالفم المليان الى أن طموحاتها للتحول الى قوة نووية اقليمية لن يسمح بها، وان البرنامج النووي الايراني يجب ان يظل مدنيا فقط. ويبدو ان الاشارة الى اسم ايران ضمن تقرير " اعادة تقييم الوضع النووي " والاعلان عنه في تلك الفترة بالذات، كان بمثابة رسالة قوية للقيادة الايرانية لجهة عدم التدخل في التغيرات اللاحقة في العراق، سواء بشكل مباشر أو غير مباشر ، ويتعين عليها أن تعي حجمها وحدود دورها في اللعبة التي تدور حول العراق.

    خامسا: توظيف المفاهيم والشعارات الإيديولوجية واعتمادها كأدوات أساسية في خدمة الإستراتيجية الأمريكية في الخارج. وهذا التوجه بدا واضحاً في التقرير الذي رفعته في حينه (اللجنة الأمريكية للأمن القومي في القرن الحادي والعشرين) إلى البيت الأبيض. فقد قالت اللجنة المذكورة ان الإستراتيجية الأمريكية الجديدة ينبغي ان تراعي التوازن بين هدفين أساسيين:

• الأول هو قطف ثمار العولمة " بهدف " توسيع نطاق الحرية والأمن والازدهار للأمريكيين ولغيرهم.

•  والثاني يجب ان تسعى الإستراتيجية للقضاء على القوى المسببة لفقدان الاستقرار العالمي, بحيث يمكن المحافظة على الفوائد التي يتم جنيها.

    وساد في كتابات العديد من منظري الإستراتيجية الأمريكية الكبار، إشارات واضحة الى ضرورة "زرع" الديمقراطية وبناء علاقة طردية وثيقة بين التقدم المحرز على صعيد "التحولات الديمقراطية" وحجم المعونات الاقتصادية المقدمة للبلدان التي تعاني من مشاكل اقتصادية. وفي حال ضعف التقدم المحرز في الحقل السياسي يجب تكون مطرقة الضغوطات الاقتصادية جاهزة لمعاقبة "المترددين "!.

    سادسا: استكمال بناء أدوات السيطرة العسكرية على مراكز الطاقة في العالم بدأً من الشرق الأوسط وصولا إلى نفط آسيا الوسطى وغاز بحر قزوين الواعد. وبهذا تستطيع الولايات المتحدة الأمريكية التحكم في السياسة العالمية عبر الهيمنة الاقتصادية.

    هنا لابد من التذكير بأن هذه الأفكار ليست في مجملها جديدة. فهناك إدارات أخرى سعت إلى تفضيل هذه الركيزة أو تلك. لكن الشيء المهم هنا هو أننا نشهد انقلابا في التفكير الاستراتيجي في الولايات المتحدة الأمريكية.

    ومن المفيد الإشارة الى ان وزير الدفاع الأمريكي الاسبق (غيتس) طرح في شهر تموز 2008  إستراتيجية دفاع قومي جديدة تدعو فيها المؤسسة العسكرية الأميركية لإتقان " حرب غير عادية " بدلا من التركيز على الحروب التقليدية ضد دول أخرى، واكد غيتس على ان " الأمة يجب أن تسخر مصادر القوة العسكرية والسلطة اللينة لدحر عدو معقد ومتحول ".

وبدون الدخول في تفاصيل هذه الإستراتيجية إذ سبق وان عالجتها في مقالة أخرى (8) أود الإشارة هنا فقط الى ابرز معالمها وهي:

- يعتنق (غيتس) مصطلح "الحرب الطويلة" الذي اعتمده سلفه (رامسفيلد) لمعادلة القتال ضد ما أسماه " الإرهاب مع النضالات ضد الشيوعية السوفيتية والفاشية النازية ". ومع ذلك تختلف إستراتيجيته غيتس، عن إستراتيجية رامسفيلد في أنها لا تركز على العمل العسكري الاستباقي، وبدلا من ذلك تشجع القادة الأميركيين الحاليين والمستقبلين للعمل مع الدول الأخرى على " محو الظروف المعززة للتطرف ". ان الاستنتاج بسيط من هذا الاختلاف: فشل الإستراتيجية التي راهن عليها بوش و " صقور " المحافظين الجدد والبحث عن مخرج من المأزق الذي كانت تعيشه الإستراتيجية التي هندسها رامسفيلد وفريقه.

- العراق وأفغانستان: الجبهتان المركزيتان للصراع. نظرا لأن الإستراتيجية الجديدة تجسد محاولة لتطبيق الدروس المستخلصة من الحربين اللتين كانت تخوضهما القوات الأمريكية في العراق وأفغانستان، فان هذين البلدين – بحسب إستراتيجية غيتس - يظلان الجبهتان المركزيتان في الصراع، وأن الحرب في هذين البلدين تمثل نوعا من القتال الذي سيواجهه الولايات المتحدة في السنوات المقبلة. ولهذا فان النجاح في هذين البلدين تعتبره الإستراتيجية الجديدة عاملا حاسما " في كسب هذه الحرب " رغم انه " لن يأتي وحده بالنصر ".  علما أن الوثيقة تستدرك قائلة : " لكننا لا يمكن أن نغفل عن المفاهيم الضمنية لخوض حرب طويلة الأمد وعرضية ومتعددة الجبهات والأبعاد، أعقد وأكثر تشعبا من مواجهة الحرب الباردة مع الشيوعية".

- أولوية الأولويات: القتال ضد تنظيم "القاعدة". بحسب هذه الإستراتيجية فإن القتال ضد "القاعدة" والإرهابيين الآخرين يجب أن يكون أولى أولويات المؤسسة العسكرية الأمريكية في العقود القادمة، ذلك أن كسب المعارك في العراق وأفغانستان لن ينهي "الحرب الطويلة" ضد " التطرف العنيف ". ويعني ذلك ان " الانتصار في الحرب الطويلة ضد الحركات المتطرفة والعنيفة " سيشكل في المستقبل المنظور الهدف المحوري للولايات المتحدة. ويمكن الاستنتاج من الملاحظة السابقة ان " البيئة الإستراتيجية" التي تواجهها الولايات المتحدة في المستقبل المنظور ستحددها " مكافحة شاملة لأيديولوجية متطرفة وعنفية تسعى لقلب النظام العالمي".

- إتقان الحرب "غير النظامية" بدلا من التركيز على الصراعات التقليدية مع دول أخرى. تدعو هذه الإستراتيجية المؤسسة العسكرية الأميركية لموازنة مخاطرتها بين التهديدات غير التقليدية والحرب التقليدية التي تتضمن جيوشا متنافسة ومواجهات بأسلوب الحرب الباردة. ولهذا تدعو الوثيقة الجيش الأمريكي الى إتقان الحرب "غير النظامية" بدلا من التركيز على الصراعات التقليدية مع دول أخرى. هنا تدعو الوثيقة الجيش الأميركي إلى " الاهتمام بطريقة نشوء الحركات المتطرفة وسلوكها ".

- الرهان على تكتيكين: العصا والجزرة مع إعداد وكلاء محليين لانجاز المهمة!. ومع إقرار الوثيقة بان  استخدام القوة " يلعب ..... دورا " لكنها تستدرك مشيرة الى ان " من المحتمل ان تكون الجهود العسكرية لاعتقال الإرهابيين أو قتلهم ثانوية بالنسبة للإجراءات لتشجيع المشاركة المحلية في الحكومة والبرامج الاقتصادية لحفز التنمية وأيضا الجهود لفهم ومعالجة الشكاوى التي غالبا ما تكمن في قلب التمرد ". وتضيف الوثيقة انه ولهذه الأسباب، " قد يكون المكوّن العسكري الأكثر أهمية في الصراع ضد المتطرفين الذين يستخدمون العنف، ليس القتال الذي نخوضه نحن، وإنما كيف نسهم في إعداد شركائنا لحماية وإدارة أنفسهم ". وتعني هذه الأطروحة ان (غيتس) ابتعد عن تركيز سلفه رامسفيلد على العمل العسكري الاستباقي ويشجع بدلا من ذلك " التعاون مع دول أخرى لإزالة الظروف التي يتولد عنها الإرهاب"، حسب ما جاء في الوثيقة.

- روسيا الاتحادية والصين ما زالا " عدويين محتملين " !. بغض النظر عن كل ما جرى من تحولات على الصعيد العالمي فان إستراتيجية غيتس بقيت وفية للايديولوجيا معتبرة أن روسيا الاتحادية والصين تمثلان تهديدًا محتملا للولايات المتحدة. ولهذا أكدت هذه الوثيقة على أن الولايات المتحدة يجب أن تكون مستعدة لمواجهة قدرات عسكرية متزايدة لروسيا والصين. ويوصي (غيتس)، في الوثيقة الجديدة، بإبرام شراكة مع هذين البلدين ليس بهدف خلق فضاء جديد في العلاقات معها بل للحد من بروزهما كخصمين محتملين، ولمنع تعاظم قوتيهما كـ "عدوين محتملين ".

- تعتبر الوثيقة أن إيران وكوريا الشمالية تشكلان " تهديداً " للنظام الدولي. ويعني ذلك ان مفهوم " محور الشر " بقي في قلب الإستراتيجية الدفاعية.

    ولعل سؤال يطرح نفسه ويتعلق بأسباب هذه التغيرات في الإستراتيجية. دون الدخول بالتفاصيل يمكن القول ان هناك طائفة من الأسباب، من بينها:

- فشل فرضية الرهان على الحرب كخيار للانتصار وفرض الهيمنة العالمية وتعزيز " نظام الأحادية القطبية " وأيضا كخيار لإنعاش الاقتصاد الأمريكي وتوظيفه لإملاء الشروط على الآخرين في المنافسة الاقتصادية العالمية وخصوصا مع أوربا واليابان وغيرها من القوى الاقتصادية الصاعدة. على العكس من ذلك فقد بلغت تكاليف الحرب في العراق وأفغانستان أرقام فلكية (الحديث يدور عن تريليون دولار أي ألف مليار) ومن دون ان تحقق الأهداف المعلنة لها، لذا نجد ان الإستراتيجية الجديدة تطرح بدائل اخرى.

- تفاقم جملة من الصعوبات الاقتصادية وانفجارها في أزمات عديدة تمثلت بانهيارات كبيرة في أسواق الأسهم والسندات، وتعمق أزمة القروض والرهونات العقارية،  وإفلاس كبريات المصارف، وصناديق التمويل وغيرها من المؤسسات المالية، هذا إضافة الى حالة الركود التي يعاني من الاقتصاد الأمريكي منذ فترة، والمؤشرات الإحصائية التي صدرت في الفترة الأخيرة تؤكد ذلك. 

- والى جانب العوامل والتحولات الداخلية، حدثت جملة من التغيرات في البيئة الإستراتيجية العالمية وتوازنات القوى يبدو أنها ألقت بثقلها عند بلورة معالم إستراتيجية غيتس وهي:

* حدوث تحولات في المشهد الجيو – سياسي العالمي تمثل في تنامي دور كل من روسيا الاتحادية والصين والهند وإمكانية نشوء تحالفات إقليمية جديدة يمكنها ان تهدد أسس الهيمنة الأمريكية.

* حصول تغيرات في توازن القوى في أمريكا اللاتينية مما أفضى الى تقلص ملحوظ للهيمنة الأميركية في هذه القارة. فقد شهد المشهد السياسي في أمريكا اللاتينية خلال السنوات الأخيرة تحولات مهمة تمثلت بصعود قوى اليسار هناك ووصولها الى السلطة في العديد من البلدان من خلال الانتخابات وصناديق الاقتراع. إن هذه النتائج تبين انه لم تعد أمريكا اللاتينية هي "الفناء الخلفي" للولايات المتحدة، كما كان سابقا. ويبدو ان صعود قوى اليسار والقوى التقدمية الأخرى يأتي ردا على مشاريع وسياسات التكييف الهيكلي التي طبّقها صندوق النقد الدولي والمؤسسات الدولية الأخرى. فقد قادت وصفات " الليبرالية الجديدة " ليس الى التغلب على الأزمة البنيوية العميقة التي كانت تواجهها بلدان هذه القارة بل على العكس فان تلك الوصفات المقطوعة الجذور عن الواقع المجتمعي في تلك القارة، كما في القارات الاخرى، تسببت في تفاقم تلك الأزمة وأكسبتها مديّات جديدة وساهمت في تعميق التبعية للبلدان الرأسمالية المتطورة.

* تعاظم نشاط القوى المناهضة للعولمة الرأسمالية. فقد نشأت في مواجهة العولمة الرأسمالية المتوحشة وتطورت حركة عالمية البعد تضم طيفاً واسعاً من القوى المناهضة لها على امتداد العالم، وانطلقت في نضال مباشر ضد الإجراءات الجائرة لأرباب العولمة الرأسمالية، وسعيها لسلب العاملين والشغيلة من المكاسب الاجتماعية والحقوقية التي أحرزت بفضل نضالاتهم، مثل تقليص وإلغاء الحقوق والضمانات التي تنص عليها قوانين العمل وطرد الفلاحين من أراضيهم وتقويض الخدمات الاجتماعية. إن حصيلة التطورات على المستوى الدولي تشير إلى الاتساع المضطرد لآفاق النضال العالمي في سبيل الديمقراطية والعدالة الاجتماعية.

* انفجار أزمة الغذاء العالمية (9) التي مثلت أكبر تهديد راهن ومحتمل لاستقرار المجتمع الدولي، فقد طالت هذه الأزمة الجزء الأعظم من شعوب وبلدان العالم بدرجات متفاوتة، علما أنها كانت تمثل القسم الظاهر من جبل الجليد الذي يخفي أزمات حادة متفجرة، أو على طريق الانفجار وقد يترتب عليها تغيير جوهري في الدول النامية، قد تمتد تأثيراته السلبية لتصيب بشكل مباشر حتى الدول المتطورة.

* تعاظم المخاطر التي تواجه عمليات التنقيب عن النفط والمعادن، في القارة الأفريقية الحبلى بالتناقضات والصراعات، بين " الضواري الاستعمارية "حول مناطق النفوذ والثروات الطبيعية. وبالمقابل  شهدت هذه الفترة أيضا تزايد نشاط تنظيم "القاعدة" في القرن الأفريقي، الأمر الذي دفع الولايات المتحدة إلى اتخاذ جملة من التدابير والإجراءات توجت بإنشاء قيادة عسكرية أمريكية جديدة للقارة الأفريقية بدلا من الوضع الذي يقسم القارة بين ثلاثة قيادات عسكرية.

* الإصرار الإيراني في الرهان على " الخيار النووي السلمي" وما يحمله ذلك من تداعيات ومخاطر على عموم الهيمنة العالمية للولايات المتحدة وحلفائها الإقليميين والدوليين نظرا للقناعة السائدة عند الولايات المتحدة واوربا وبلدان اخرى بان إيران تطمح لحيازة سلاح نووي وبالتالي فان خيارها النووي ليس سلميا بل لأغراض عسكرية واحتمالات توظيفه لبناء معادلات جيو – سياسية إقليمية جديدة.

    ملخص القول، ان إستراتيجية غيتس تمثل محاولة للخروج من المأزق الذي عانته إستراتيجية رامسفيلد " وصقور المحافظين الجدد "، ويتمثل مضمون تلك المحاولة في إعادة تنظيم الوجود العالمي وتحديث أدوات السيطرة الأمريكية وإعادة ترتيب الأولويات. ويبدو ان هناك محاولة للمزج بين  استراتيجيات الاحتواء المزدوج، واستخدام سياسات الحوافز والعقوبات ولكن طبعا من دون التخلي النهائي عند العمل العسكري و " الحروب الوقائية " ضد " القوى التقليدية " و " القوى غير النظامية ".

    وهذا يطرح السؤال التالي: هل ان التوقيت الذي طرحت فيه وثيقة غيتس  مناسبا( طرحت قبل شهور من انتهاء ولاية بوش وانتخاب رئيس جديد هو اوباما) أم انه يمثل محاولة أخيرة لإحراج للرئيس الجديد، خصوصا وان العديد من الدلائل كان تشير الى انه سيكون ديمقراطيا هذه المرة وليس جمهوريا ؟ أي القيام بـ " هجوم استباقي " من طرف الجمهوريين!.

تحولات استراتيجية على الجبهة الاقتصادية كذلك

إنه الاقتصاد .. ياغبي!

خطاب بوش أمام مؤتمر مونتيري كنموذج

إعلان " ميثاق عالمي جديد للتنمية " تحت الحراب الامريكية !

    امتدت المحاولات لتنميط العالم على وفق رؤية "صقور" المحافظين الجدد لتمتد الى الاقتصاد. ففي 21/مارس/2002 افتتح في مدينة مونتيري المكسيكية (المؤتمر الدولي للأمم المتحدة لتمويل التنمية) والذي تحول الى "قمة عالمية لمحاربة الفقر" طالبت الدول الغنية بزيادة مساعداتها لتلك الاشد فقراً لان الدول النامية ستصير ارضاً خصبة للارهاب من دون مساعدات اضافية، كما يعتقد منظمو هذه الفعالية.

    وقد وصف المدير العام للبنك الدولي انذاك (مايك مور) الفقر بانه " قنبلة موقوتة في قلب الحرية "، بينما قال رئيس الجمعية العمومية للأمم المتحدة (هان سونغ – سو) إن الدول الاشد فقراً " ارض خصبة للعنف واليأس ". وأشار الى انه بعد 11 أيلول، باتت المطالبة ملحة بعدم الفصل بين التنمية والسلام والأمن.

    أما الزعيم الكوبي (فيديل كاسترو) فقد قال في خطابه امام القمة هذه ان " النظام الحالي للاقتصاد العالمي يشكل نظاماً للنهب والاستغلال لم يسبق له مثيل في التاريخ". وأضاف كاسترو قائلا " لقد أصبح الاقتصاد العالمي اليوم ناديا ضخما للقمار، وأن التحليلات الاخيرة تشير الى أن مقابل كل دولار ينفق على التجارة العالمية، ينفق مبلغ يزيد على مئة دولار على عمليات مضاربة لا علاقة لها بالإقتصاد الحقيقي ".

    ومن جانبه ألقى الرئيس الأمريكي في حينه (جورج دبليو بوش) خطابا طرح فيه وبوضوح شديد الرؤية الأمريكية لـ " المشكلة الاقتصادية " التي تعاني منها الدول الفقيرة وكيفيات حلها، والتي يجب على الجميع التقيّد بها.

    ماذا قال الرئيس الامريكي في كلمته، وما هي الرسالة التي كان يريد توجيهها الى الجميع، والتي يتعين التقيّد بها من دون لف أو دوران ؟ في خطابه في مونتيري نقل الرئيس المواجهة الى الحقل الاقتصادي بتوظيف نتائج العمليات العسكرية في افغانستان لصالح النموذج التنموي الرأسمالي بطبعته الامريكية. ولا ننسى أن لـ " الحملة العالمية لمكافحة الارهاب " جذورا إقتصادية، فالمعارك التي دارت في افغانستان لا تتعلق بطالبان و "القاعدة" وبن لادن فقط، بل كانت عيون الامريكان موجهة نحو بحر قزوين الواعد الذي يسيل اللعاب، حيث يعد هذا الحقل واحدا من اهم الاحتياطيات العالمية الواعدة جدا في النفط والغاز. فالمعطيات الاحصائية تشير الى ان حجم احتياطيات النفط المؤكدة تبلغ (40)  مليار برميل، والمحتمل بـ 300 مليار. ويبلغ حجم الغاز المؤكد 17 تريليون متر مكعب، وقد يصل إلى 40 ترليوناً. هكذا تتشابك مصالح السياسة بمصالح الاقتصاد في كل موحد ومتناغم.

    وتاكيدا لهذا الاستنتاج لابد من وقفة تفصيلية. فمن المعلوم انه مع تفكك الاتحاد السوفيتي عام 1991 بدأ التنافس على حوض بحر قزوين بين ثلاث قوى دولية وإقليمية كبيرة: الولايات المتحدة الأميركية وروسيا الاتحادية وإيران. وغاية كل من هذه الدول نيل حصة أكبر من كعكة النفط والغاز، وملء الفراغ الإستراتيجي في الجمهوريات السوفيتية السابقة. وقد اشتد هذا التنافس بعد هجمات الحادي عشر من سبتمبر/أيلول 2001، بسبب زيادة الطلب على الطاقة من الدول الصاعدة كالصين والهند البرازيل، ومعاناة الدول الأوروبية من توقف إمدادات الغاز من روسيا بسبب أزماتها مع دول الجوار.

    وفيما يخص الولايات المتحدة فانها خاضت الصراع في هذه المنطقة مع اطراف عدة وفي مقدمتها روسيا الاتحادية وايران على عدة جبهات (10):

• فعلى على الجبهة الاقتصادية وبهدف السيطرة على ثروات بحر قزوين قامت ببناء شبكة من الأنابيب لنقل النفط والغاز إلى أوروبا، دون المرور بالأراضي الروسية أو الإيرانية. وقد موّلت الولايات المتحدة إنشاء خط أنابيب جديد لنقل الطاقة لا يمر بالأراضي الروسية. يبدأ هذا الخط من باكو بأذربيجان مرورًا بتبليسي في جورجيا ليصب في ميناء جيهان التركي على البحر المتوسط. وقد بدأ هذا الخط بالعمل في العام 2006.

ومن المفيد الاشارة الى انه قد شارك فى مد خط باكو – تبليسب – جيهان الذي يبلغ مداه 1762 كيلومترا، بتكلفة أربعة مليارات دولار، كونسورتيوم من الشركات الغربية، ومن هنا أصبح الوجود الأمريكى فى مواجهة مباشرة مع إيران وروسيا، حيث حققت الولايات المتحدة الأمريكية أهدافها الرامية إلى منع مرور خط الأنابيب عبر أراضى إيران وروسيا، مما يحد من الاعتماد الحالى على نفطى الخليج وروسيا وإيران، أو حتى منطقة الشرق الأوسط. وتعتبر الولايات المتحدة خط أنابيب باكو - تبليسى - جيهان طوق النجاة للهروب من الاعتماد الغربى على نفط الخليج، وإنهاء للسيطرة الروسية والإيرانية الطويلة على إمدادات النفط القادم من بحر قزوين، وبالتالى إضعاف نفوذهما الاقتصادى والسياسى فى المنطقة. ومن ناحية أخرى، لعبت السياسة الأمريكية دوراً رئيسياً فى جعل هذا الخط يسلك هذا الطريق بدلاً من بلوغ ميناء نوروسيسك الروسى المطل على البحر الأسود، أو السواحل الإيرانية الخليجية الأقصر طولاً، والتى تلبى الطلب الآسيوى أيضاً. ثم إن هناك هدفاً آخر لعله الأكثر أهمية، حيث أن أى تدمير لنقطة ما فى الخط سوف يكون عذراً مقبولاً لدى حلف شمال الأطلنطى للتدخل عسكرياً بحجة الدفاع عنه، وهو ما يمثل تهديدا عسكريا مباشرا لكل من روسيا وإيران (11).

•اما الجبهة الثانية فهي سياسية وتمثلت باستخدام ورقة السياسة والدبلوماسية، بالاضافة للاقتصاد طبعا، لبناء التحالفات مع الدول الثلاث الجديدة التي ظهرت على شواطئ بحر قزوين بعد انهيار الاتحاد السوفيتي (كازاخستان وأذربيجان وتركمانستان)، مستفيدة من التناقضات والمشاكل بين القوى المتنفذة في هذه الدول وروسيا الاتحادية من جهة وايران من جهة اخرى.

•الجبهة العسكرية وتمثلت بالحضور العسكري المباشر؛ حيث أقامت الولايات المتحدة تحت عنوان "مكافحة الإرهاب" قواعد عسكرية في المنطقة الممتدة ما بين البحر الأسود مرورًا ببحر قزوين وصولاً إلى حدود الصين. ويذكر تقرير لوزارة الخارجية الأميركية صدر في مارس/آذار 2011 أن "الولايات المتحدة تُدخل بحر قزوين في قائمة أولويات سياستها، وتستمر في مساعدة دول المنطقة على تأمين بحر قزوين من خلال تقوية جيوشها، وعلى الأخص أذربيجان وكازاخستان وتركمانيا .

    فما ان بدأت الولايات المتحدة حربها على افغانستان حتى وضعت قدمها بقوة في آسيا الوسطى، هذه المنطقة التي طالما عملت للسيطرة عليها ان لموقعها الاستراتيجي بين روسيا والصين وايران او لكنوزها النفطية والغازية. وطبعا تضاءل حجم الجهود التي بذلتها الدول المحيطة بالمنطقة لمنع امتداد اليد الاميركية اليها امام هول احداث 11 ايلول والحرب على "الارهاب" وكذلك اقرار الجميع بأن آسيا الوسطى تحولت في السنوات الاخيرة ملاذا آمنا لما يسمى بـ " المقاتلين الاسلاميين المتطرفين " والمتعاونين احيانا كثيرة مع "القاعدة". وبدأت القوات الاميركية تصل الى اوزبكستان وقرغيزستان.

    وقد شيدت الولايات المتحدة قاعدتها الجوية (ماناس) قرب العاصمة القرغيزية لتؤوي ثلاثة آلاف جندي وطائرات دعم للعمليات في افغانستان واقامت مركزا آخر في اوزبكستان يؤوي ايضا الفي جندي وعملت سريعا على تحسين الطرق والاضاءة وانظمة الاتصالات.

    ولم يكن هذا ليدل على نية للانسحاب قريبا، بل ان مسؤولين دفاعيين كبارا ابلغوا الى "الواشنطن بوست" مثلا في شباط من 2002 ان هذا الوجود في آسيا الوسطى لا يهدف الى تنفيذ عمليات جوية فوق افغانستان في المستقبل المنظور فحسب، بل الى الحفاظ على وجود عسكري قوي في المنطقة بعد الحرب، يؤمن نقطة انطلاق لعمليات كمكافحة الارهاب في كل انحاء العالم الاسلامي اذا اقتضى الامر.

يضاف الى هذا طبعا تحسين العلاقات السياسية والامنية مع جمهوريات آسيا الوسطى التي ترغب في ذلك. فالقيادة القرغيزية مثلا اعتبرت الوجود الاميركي في اراضيها منجم ذهب لأنه كلما هبطت طائرة في قاعدة ماناس تدفع اميركا سبعة الاف دولار، فضلا عن ايجار القاعدة نفسها والمساحات المحيطة بها. ويعني أن المسألة هي هنا، من طرف القرقيزيين، تحقيق منافع اقتصادية. إذ تكفي الاشارة هنا الى انه في شهري كانون الاول 2001 وكانون الثاني 2002 خلال اعداد القاعدة، أنفقت اميركا 4.5 ملايين دولار على الطعام والنقل والمحروقات.

    واذا كان الوصول الى آسيا الوسطى نتيجة مباشرة للمرحلة الاولى من الحرب الاميركية على الارهاب، فان التمدد الاميركي الى القوقاز كان في رأس اولويات ما سمي المرحلة الثانية. وتحت شعار "مهمة التدريب" نفسه كان الاتفاق بين واشنطن وتبيليسي (العاصمة الجورجية) على ارسال مئة خبير اميركي وقد يصل عددهم احيانا الى 150 خبيرا لتدريب الفي جندي جورجي من الوحدات الخاصة على مكافحة الارهاب. ووصلت طلائع الفريق الاميركي آخر نيسان، ثم اكتمل وصوله لينطلق البرنامج الذي تبلغ تكاليفه 64 مليون دولار وليبدأ رسميا في 27 ايار على ان يستمر 70 يوما. وبعد فرصة قصيرة، بدأ الاميركيون اربعة برامج تدريب متتالية مدة كل منها مئة يوم لأربع وحدات جورجية خاصة.

    وخلاصة القول ان الرئيس الامريكي بوش لم يحضر لقمة مونتيري ليلقي كلمة احتفالية ويذهب، فهذا المؤتمر ليس كرنفالا امريكيا لاتينا. بل جاء وهو يحمل مشروعا محددا يعدُ بمثابة "ميثاق جديد للتنمية ". ففي الخطاب الذي القاه امام القمة أكد بوش أنه يتعين على الدول الفقيرة التي ترغب في الحصول على مزيد من المعونات من الولايات المتحدة القيام بإجراء إصلاحات ديمقراطية واقتصادية ومكافحة الفساد !.

    هذا الكلام جميل، ولكن الرئيس بوش غير معني بالجانب الجمالي لهذه الاشكالية، بل انه كان يريد توجيه رسالة محددة. والرسالة التي يريد ايصالها للجميع واضحة وضوح الشمس : لا معونات بالمعنى المطلق بل بالمعنى المحدد. وبعبار أكثر تبسيطا لا معونات دون " اصلاحات " على الطريقة الامريكية بطبعتها البوشية. وبدون رطانه، فإن التنمية المطلوب إعتمادها هنا هي التنمية الرأسمالية في صيغتها النيوليبرالية طبعا. والرئيس بوش يريد تنمية رأسمالية في البلدان الفقيرة لمكافحة الفقر الذي تعاني منه هذه البلدان. وطرحه لهذه القضية وبهذه الصيغة مثير للإلتباس بالنسبة لمن يعرفون تاريخ اشكالية الفقر. إن بحث الجذور الحقيقية للفقر خلال القرون التي تلت إنبثاق الرأسمالية كتشكيلة جديدة يدلنا على أنه نتاج سيرورات الاستقطاب طيلة هذه القرون، على صعيد العالم الرأسمالي، تلك السيرورات التي انتجت الفقر من جهة والثروة من جهة اخرى (12). ولهذا فان القبول بطرح بوش لحل مشكلة الفقر وفقا لوصفته " الساحرة" لن يؤدي الى التغلب على الفقر بل إعادة انتاجه، ولكن هذه المرة بمديات اوسع وأعمق.

    وبالمقابل فقد اشار بوش الى أن المساعدة التي تقدمها الدول الصناعية ليست بالضرورة هي المصدر الوحيد والافضل لتمويل التنمية، مشيرا إلى التجارة الحرة والاسواق المفتوحة هما أفضل وسيلة لتحسين اقتصاديات الدول الفقيرة.

لهذا الكلام نتيجتان مهمتان :

1. يجب على البلدان الفقيرة أن تبحث عن مصادر اخرى لتمويل التنمية، ذلك لأن " المساعدة التي تقدمها الدول الصناعية ليست بالضرورة هي المصدر الوحيد والافضل ". ويعني ذلك ان على البلدان الفقيرة الاعتماد على ذاتها للتغلب على مشكلات الفقر. ومعنى كلام بوش يبدو وكأنه يريد القول هنا ان الفقر في هذه البلدان نتاج ظروفها الداخلية وليس منتوج منطق التطور الرأسمالي العالمي وقوانينه الناظمة. هكذا بقليل من لوي أعناق الكلمات يتم قلب حقائق التاريخ، وبالتالي شطب العلاقة التي تربط هذه البلدان بالبلدان الرأسمالية المتطورة وقواها المسيطرة والتي انتجت الفقر والثروة كقطبين متقاطعين لكنهما ينتميان لعالم واحد هو عالم الرأسمالية ببعديه العالمي والمحلي (13).

2. "تشجيع التجارة الحرة والاسواق المفتوحة" بإعتبارهما أفضل وسيلة لتحسين اقتصاديات الدول الفقيرة، أي إعتماد التنمية الرأسمالية لتحسين اوضاع هذه البلدان. وها هو بوش يعود من جديد الى ذات المقاربة الخاطئة وكأنه بذلك يريد تأبـــيد هذا النمط التنموي وفرضه على كل بقاع العالم بما يؤبد السيطرة من جهة والفقر والتبعية الاقتصادية من جهة اخرى. ومع كل هذا يتحدث بوش في خطابه عن " تشجيع المصادر التي تنتج الثروة والحرية الاقتصادية والحرية السياسية وحكم القانون وحقوق الانسان ".

    ولكن الرئيس الامريكي لم يكتفِ بذلك بل إنه كان ينافح بنبرة واثقة جدا حين قال: " كي نكون جادين في مكافحة الفقر، يجب أن نتحلى بالجدية في توسيع التجارة ". ويبدو أن السيد الرئيس لا يعرف حتى الاليات الناظمة للتجارة العالمية التي تقوم على التبادل اللامتكافيء ونتيجته المعروفة وهي أن البلدان ذات الانتاجية الاعلى ( وهي هنا وبدون رتوش البلدان الرأسمالية المتطورة) تربح من التبادل التجاري على حساب البلدان ذات الانتاجية الاوطأ ( وهي هنا وبدون رتوش ايضا البلدان الفقيرة) (14). وبعبارة اكثر تبسيطا فإن توسيع التجارة – حسب وصفة بوش – في ظل النمط الناظم لهذه التجارة على الصعيد العالمي - يفضي الى نتيجة واحدة لا غيرها وهي : تعميق الفقر وليس مكافحته، كما كان يعتقد السيد الرئيس !

    ولا يكتفي بوش في عرض افكاره "العلمية" بل ينتقل في عرضه لمكونات ميثاق التنمية الذي يريده، وذلك حينما يشير الى القطاعات التي يجب أن تحضى بالأولوية في الاستثمار. وهنا يقول في خطابه ما يلي : "عندما تحترم الدول شعوبها وتفتح أسواقها وتستثمر في قطاعي الصحة والتعليم، فإن كل دولار من المعونات وكل دولار من عائدات التجارة ورأس المال الوطني سيتم استغلاله بفعالية أكبر".

    كلام بوش على " بلاغته " يثير سؤالا ملتبسا وفحواه هل أن الخروج من الفقر المدقع الذي تعانيه هذه البلدان يمر عبر تطوير قطاعي الصحة والتعليم، على اهميتهما القصوى لأي تنمية، أم ان الامر متعلق بتغير الموقع المتخلف وغير العادل الذي تحتله البلدان الفقيرة في قسمة العمل الدولية الراسمالية المعاصرة ؟ أي ما هي الفروع الصناعية التي يجب اقامتها لكي يكون ممكنا خلق ممكنات النمو التي تتيح التغلب على المشكلات التي تواجهها هذه البلدان، ومن بينها مشكلة الفقر؟ 

    ولأن بوش أكد في خطابه على " تشجيع المصادر التي تنتج الثروة والحرية الاقتصادية والحرية السياسية وحكم القانون وحقوق الانسان "، فإنه كان منسجما تماما مع ما يقول ! فقد أكّد أنه يريد من الكونغرس الامريكي الموافقة على زيادة المساعدات إلى الدول التي تطبق "الاصلاحات"، مشيرا إلى أن "الميثاق الجديد للتنمية" سيكافئ الدول التي تطبق مثل هذه الاصلاحات، وهنا بيت القصيد. الكلام واضح ولا يحتاج الى أي تعليق : المكافئة لم يطبق " الإصلاحات "، وبعكسه فإن " العصى لمن عصى " ! علما بأن ما يقصده الرئيس بوش بـ " الاصلاحات "المطلوبة هو تطبيق وصفة صندوق النقد الدولي السيئة الصيت وعواقبها الإجتماعية المعروفة للجميع. وبالعودة الى التجارب التي تراكمت في بلدان عديدة، وهي كثيرة، يمكن الاشارة الى  أن  وصفة صندوق النقد الدولي، التي طُبقت في العديد من البلدان باعتماد مبدأ " الكفاءة الاقتصادية " والتوازنات الماكرو/اقتصادية، قادت في الواقع الى عدة نتائج فعلية من بينها: ازمات اقتصادية عميقة، بطالة وافقار شامل، تهميش اجتماعي واستقطاب عميق (15).