مدارات

الاقتصاد السياسي للاصلاح الاقتصادي في العراق/ 7-7 / د. صالح ياسر

أي اصلاح اقتصادي مطلوب اليوم ؟

   بداية، لا بد من الاشارة الى بعض الملاحظات التمهيدية الضرورية:

- ان الإصلاح الاقتصادي المطلوب وان كان عملية فنية في محتواها ولكنها بالمقابل عملية مجتمعية تحتاج لارادة سياسية واعية وحصول توافق مجتمعي بين القوى و الطبقات والشرائح الاجتماعية التي تتبنى هذه الصيغة او هذا النوع من الاصلاح وتتحقق مصالحها في نهاية المطاف. وكل تردد أو تأجيل للاصلاح يؤدي لانقسامات في الاراء المجتمعية ومن ثم تأجيل الاصلاح أو الاكتفاء بالترميم وتعديل وتطوير بعض التشريعات التي لاتشكل في مجموعها إلا جزءاً من الإصلاح الاقتصادي.

- كما ان الإصلاح ايضا عملية اقتصادية – اجتماعية - سياسية - ثقافية شاملة تشمل جميع القطاعات الإنتاجية والخدمية وتطول كافة الفئات والشرائح الاجتماعية، بحيث يتأثر الجميع بخطوات الإصلاح وان بشكل متفاوت. وإذا لم تكن الخطوات مدروسة ومتكاملة فالنتائج ستصيب البعض على حساب البعض الآخر. ومن هنا نلاحظ تضارب الآراء وتعارضها تجاه الإصلاح ومضمونه، الذي يختلف باختلاف تفسير القوى الاجتماعية المعنية لهذا النمط او ذاك من الاصلاح المنشود وما يجلبه من اثار، سلبية ام ايجابية.

- وانطلاقا من الملاحظات السابقة فانه وعندما تفهم التنمية الاقتصادية باعتبارها عملية اقتصادية- اجتماعية متكاملة، فانه لا بد عندها ان يكون الإصلاح الاقتصادي عملية متكاملة. لذا فان الرهان على إجراء "الإصلاح" في بعض القطاعات دون القطاعات الأخرى، عندها لن تتحقق الاهداف المنشودة من الاصلاح ومن التنمية في الوقت نفسه.

   وفي هذا المجال لا بد من الانطلاق من اشكالية مهمة قوامها الاقرار بأن الأزمة الشاملة للاقتصاد العراقي والاختلالات العميقة التي خلفتها الفترة الماضية وتلك التي افرزها الاحتلال وانهيار مؤسسات الدولة والتناقضات والصراعات الجارية حول اعادة بناء الدولة وحول شكلها ومضمونها واتجاهات تطورها بتكريس الطابع الديمقراطي يستلزم من بين ما يستلزمه الشروع بإصلاحات اقتصادية تهدف إلى توسيع قاعدة الاقتصاد الانتاجية، وتغيير بنيته الاحادية الجانب وطابعه الريعي وتحديثه، وتأمين توزيع أكثر عدلاً للدخل والثروة، وتنمية الموارد البشرية، والعناية بالفئات الاجتماعية الأكثر تضرراً.

   من هذا المنطلق لا بد، إذن، من التأكيد على أن الاقتصاد العراقي بحاجة إلى إصلاح بل وإصلاح جذري، ولكن المشكلة لا توجد هنا بل في مكان آخر، ونعني بها مضمون هذا الإصلاح. فما يروج له من طبعة راهنة للإصلاح، باختلاف " المدارس " التي تطرحها، تشترك في الفلسفة والغايات والأهداف الاقتصادية والاجتماعية والسياسية إذ تهدف إلى اعتماد السوق محورا للنشاط الاقتصادي آلية لممارسته ولتوجيهه، والترويج إلى مفهوم وممارسة الخصخصة من دون أن يسبق ذلك دراسات جدوى حقيقية. وينافح البعض مؤكدا على أن هذه العملية يجب أن تنطلق من تضييق دور الدولة الاقتصادي وإعطاء القطاع الخاص الأولوية في السياسات الاقتصادية دون حساب للوضع المزري الذي يعيشه هذا القطاع، واجتذاب الاستثمارات الأجنبية من دون اية ضوابط. وتؤكد التجربة التاريخية على أن العديد من تجارب الخصخصة تدلل على خطأ النظرة الأيديولوجية التي تعتبر القطاع الخاص خيراً مطلقاً والقطاع العام شراً دائماً والعكس صحيح ايضا.

   تتيح الملاحظات المثارة في مختلف الصفحات السابقة القول بأن الاصلاح الاقتصادي المنشود ولكي ياخذ مداه الحقيقي لا يجوز ان ينطلق من نظرة ايديولوجية مسبقة عند تحديد الموقف المطلوب من القطاعات الاقتصادية المختلفة بل من تعميم التجارب التاريخية وما تضمنته من خلاصات ملموسة ونتائج ملموسة وتداعيات ملموسة. وفي هذا الصدد يمكن بلورة الخلاصات التالية:

- رفض الاحاديات المطلقة أو تناول القضايا بمعيار الاسود والابيض أو الخير والشر. فالعديد من التجارب تشير الى "فشل مشروع التنمية المستند إلى تنظيم الحياة الاقتصادية من قبل الدولة حصراً وكذلك المشروع الذي يعتمد على قوى السوق كليا" (الوثيقة الاقتصادية لحزبنا، كذلك التقرير السياسي للمؤتمر الوطني الثامن/ايار 2007).

- عدم الرهان المطلق على الية السوق كوصفة سحرية لحل كل المشكلات الاقتصادية التي يواجهها أي بلد من البلدان التي تريد الانتقال الى هذا النموذج من التسيير الاقتصادي. وربما يتساءل البعض لماذا؟ الجواب هو ان آلية السوق لوحدها لا تؤدي إلى التخصيص الأمثل للموارد، بل يقود منطق تعظيم الأرباح إلى نمو اقتصادي غير متكافيء، اجتماعياُ وإقليمياً وقطاعياً. فالسوق لا يرسي ذاته بنفسه وهذا يستدعي تدخل الدولة لوضع القواعد والمؤسسات المنظِمة له. وفي تاريخ الراسمالية ذاتها (وليس غيرها) الكثير من الامثلة على هذا القول.

- إن الدور القيادي لأي قطاع لا يقوم على محاججة إيديولوجية صارخة بل على أساس دراسات عيانية ملموسة تنيط بهذا القطاع أو ذاك دوره الفعلي، الحقيقي، وليس المفترض في أذهان صائغي الخطابات المصممة لكل المقاسات. لقد بينت تجارب العقود الخمسة او الستة الاخيرة فشل مشروع التنمية المستند إلى تنظيم الحياة الاقتصادية من قبل الدولة حصراً وكذلك المشروع الذي يعتمد على قوى السوق كلياً. وبهذا المعنى يمكن الاستنتاج بأن النهوض بالاقتصادي العراقي يتطلب إقامة علاقات تكاملية بين القطاعين الخاص والعام والمنافسة في بعض المجالات، فضلاً عن إطلاق شروط المبادرة لانبثاق وتطور مختلف أشكال الملكية: العامة والخاصة والمختلطة والتعاونية وبما يستجيب لحاجات الاقتصاد الوطني وتطوره المتوازن.

   وارتباطا بالملاحظات اعلاه فإن الاصلاح الاقتصادي المطلوب يستلزم توفر طائفة من الشروط، من بينها:

- إن ينطلق من الاحتياجات الفعلية الموضوعية لمجتمعنا في لحظة تطوره الراهنة والتي تكمن في تحقيق التنمية المستدامة والديمقراطية والعدالة الاجتماعية بالاستناد إلى الإمكانات الذاتية من جهة مع السعي لبناء علاقات متفاعلة ومتوازنة ومتكافئة مع الاقتصاد العالمي والاستفادة من الجوانب الايجابية لعملية العولمة، وتجنب الخلط بين مضمونها وطابعها الموضوعي من جهة وتجلياتها الراهنة (العولمة الراسمالية) من جهة أخرى، وخصوصاً وصفات الليبرالية الاقتصادية الجديدة.

- تجاوز الجدل حول دور كل من القطاعين العام والخاص من خلال التغلب على "المسلمات" الشائعة عند البعض بأن القطاع العام يعني الخسارة وأن القطاع الخاص يعني الربح وبالتالي يجب المباشرة بخصخصة فورية، إذ أن الواقع يشير الى وجود أمراض اقتصادية تنتاب كلا القطاعين، ويتعين العمل على تجاوزها بدل الانشغال في "حرب المتاريس" بشأن من يتحمل المسؤولية.

- الحاجة إلى تفعيل التعددية الاقتصادية في هذه المرحلة. إن المطلوب اليوم هو تحسين أداء الاقتصاد الوطني، بقطاعاته المختلفة، انطلاقا من حقيقة أن لكل قطاع دوره المرسوم، فالتنمية المطلوبة في هذه المرحلة تعني من بين ما تعنيه الاستفادة الصحيحة من كافة القطاعات وتحقيق التكامل فيما بينها استنادا الى رؤية استراتيجية تقوم على التعددية الاقتصادية خلال هذه المرحلة الانتقالية الاستثنائية.

- تجنب الصيغ الجاهزة التي تعتمد الحلول المقطوعة الجذور عن واقع اقتصادنا والمهمات الملموسة التي تواجهه، ومن بينها وصفات " خبراء " صندوق النقد الدولي والبنك الدولي.

- توفير إجماع مجتمعي حول الإصلاح المطلوب، ولن يتحقق ذلك إلا من خلال العلنية والمشاركة الفاعلة من مختلف أوساط المجتمع ومفكريه وخبرائه عبر تدشين نقاش عام من اجل بلورة الموقف بشأن القضايا الكبرى أو المفاصل الأساسية للإصلاح المطلوب.

- ضرورة توفر إرادة سياسية حازمة وقوى اجتماعية قادرة على وضع مشروع الإصلاح موضع التطبيق وتحويل مفرداته الى واقع ملموس. وبمقابل ذلك لابد من تجاوز الاكتفاء بخطوات ترقيعية.

- أن يحظى الإصلاح بالمصداقية المطلوبة من مختلف قطاعات المجتمع، وهذا يتطلب أن يرافق الإصلاح الاقتصادي جهود مركزة وحثيثة وصادقة للقضاء على الفساد واليات إنتاجه و " ثقافته" التي ساهم النظام المقبور بزراعتها وتنامت بشكل مثير في الفترة التي تلت 2003 حتى اصبحت واحدة من ابرز العوائق امام تطور الاقتصاد الوطني، وبعكس ذلك لن يحضى الاصلاح بالمصداقية المطلوبة من الشعب ومن القوى الاجتماعية التي يتوجه اليها. ويعني ذلك ان برنامج الإصلاح لن يحض بالدعم والتشجيع الشعبي ما لم يترافق بخطوات جادة للمحاسبة، تستهدف خلق مناخ نظيف ونزيه في معرض أداء الخدمة العامة، ويرتبط وجود هذا المناخ بمحاسبة وإبعاد رموز الفساد والحد من النزيف، وبخطوات جدية لاستعادة الأموال العامة المنهوبة.

- أن يترافق الإصلاح الاقتصادي أيضا بتحقيق إصلاح النظام الإداري والمالي والنقدي بما ذلك النظام الضريبي، بهدف تحقيق العدالة الضريبة المطلوبة.

- إن مظلة اجتماعية مطلوبة في بلادنا الخارجة من سنوات القهر والقمع والحصار الذي تضررت منه قطاعات واسعة من مجتمعنا، وينبغي أن تتوفر لها الشروط الضرورية لتجاوز التهميش وبالتالي الانخراط في الديناميكية الاجتماعية عبر تأمين العمل أو ضمان حد أدنى معقول من الدخل وبما يضمن الارتقاء بنوعية الحياة في البلاد.

   ومع أن مهمات الإصلاح الاقتصادي في العراق اليوم لا تخرج من حيث المبدأ والوجهة العامة عن تلك التي تبرز في الاقتصادات الانتقالية (Transitional Economy)، الا ان العراق يتميز بالحاجة الى التركيز على حزمة من السياسات والإجراءات والتوجهات التي تساعد على دفع عملية النمو مع تحقيق العدالة الاجتماعية.

   ومن جهة ثانية فانه وعند تدشين النقاش حول " الإصلاحات الاقتصادية المنشودة "، في ظروف العراق الراهنة، يتوجب التأكيد هنا على القضايا التالية:

- الإصلاح المنشود يجب ان يكون جزء من إستراتيجية التنمية المنشودة.

- الدولة ينبغي ان تلعب دورا متوازنا ومتكاملا مع السوق.

- القطاع الخاص المحلي في العراق وبسبب أوضاعه المعروفة يحتاج ولوقت طويل الى الدولة ودعمها.

- ان مفاعيل الإصلاحات الهيكلية المطلوبة، جديرة بأن تدرس جدياً من قبل الجهات المعنية، وأن تقدر عواقبها الاقتصادية والاجتماعية والسياسية في صورة دقيقة وموضوعية. ذلك أن الاوضاع العامة في البلاد ما زالت مثقلة بأعباء وملابسات ومخاطر كثيرة، مما يستدعي تقدير الأمور بمسؤولية عالية وبنظرة متوازنة لمتطلبات الإصلاح من ناحية، وحساب عواقبها المتوقعة وكيفية مواجهتها من ناحية ثانية.

   وفي ضوء الملاحظات السابقة يمكن القول انه وبدلا من التركيز على إشكالية الخصخصة بحد ذاتها والترويج للإصلاحات الاقتصادية دون تحديد مضمون مجتمعي دقيق لها، فإن المقاربة الصحيحة لهذه القضية تتطلب التركيز بالاساس على بناء إستراتيجية تنموية متكاملة. وحتى يكتب النجاح لهذه الاستراتيجية لا بد ان تنطلق من اعتماد برنامج للإصلاح الاقتصادي ينطلق من الحاجات الملحة لاقتصادنا ومجتمعنا وليس من وصفات اثبت تجربة العديد من البلدان انها افضت الى تعظيم الاستغلال والتفاوت الاجتماعي والتبعية الى الخارج وتكريس الطابع الريعي او الخدماتي او كليهما للاقتصادات الوطنية. ومن المؤكد ان اصلاحا اقتصاديا ينطلق من الحاجات الملحة لبلادنا في هذه المرحلة الانتقالية الصعبة يشكل واحدة من الخطوات الأولى والأساسية ضمن مسعى الخروج من الأزمة البنيوية والمتعددة الصعد، وان نجاح هذا المسعى يعتمد على طبيعة برنامج الاصلاح ومنهجيته والقوى الاجتماعية التي تطبقه.

   ان هذا يرتبط طبعا بسؤال استراتيجي تتجنب خطابات القوى المسيطرة الإجابة الواضحة عليه، ونقصد بذلك: هل يستهدف برنامج الإصلاح الاقتصادي المنشود استئناف عملية التنمية التي تلكأت لجملة أسباب لا يتسع المجال للخوض في تفاصيلها؟ أم أنه يستهدف إدماج الاقتصاد العراقي بشكل أكبر في السوق الرأسمالية العالمية عبر زيادة "انفتاحه" في اطار "المنافسة العادلة"؟

   ولا بد هنا من تجنب تناول الإصلاح الاقتصادي المطلوب باعتباره قضية فنية بحتة فقط، ذلك لان الإصلاح هذا هو، في نهاية المطاف، تعبير عن خيارات اقتصادية - اجتماعية كبرى.

   وفي كل الاحوال من الضروري تجنب حصر النقاش بشأن قضية الاصلاحات المطلوبة في اطار ضيق في أوساط "النخب" و "مجموعات الخبراء"، بل على العكس ينبغي جعله حوارا مجتمعيا تشارك فيه كل القوى والطبقات والفئات والشرائح الاجتماعية المعنية بتلك الاصلاحات التي ستنعكس اثارها على المواطنين بهذه الدرجة او تلك، بالسلب او بالايجاب طبقا لمضمون الاصلاحات المطبقة ومدى تلبيتها لمطالب الناس وتعبيرها عن الحاجات الملموسة لتطور بلادنا في اللحظة التاريخية الملموسة. وبعكس ذلك تصبح الاصلاحات مجرد هرطقة.

   والخلاصة، نحن شهود مشاريع وخيارات عديدة، متصادمة ومتضاربة، وهذا أمر طبيعي في ظروف مرحلة انتقالية مفتوحة، حيث تتنوع المقاربات والحلول المقترحة. ولهذا فإن الحاجة ملحة اليوم أكثر من أي وقت مضى لتدشين حوار وطني شامل يساعد على تحديد الإطار المطلوب للاقتصاد الذي تريده بلادنا، وبناء اقتصاد وطني ذي بنية ديناميكية قادرة على التكييف مع المتغيرات الناشئة على ارض الواقع العراقي وكذلك مع متطلبات التحولات الاقتصادية والسياسية العالمية وما تطرحه من استحقاقات. ولابد من التأكيد هنا على ضرورة الوعي بأن المرحلة القادمة ليست بحاجة الى إعادة الاعمار وتحريك عجلة الاقتصاد الوطني فحسب برغم أهمية ذلك، بل والى التجديد والتحديث التقني والى الديمقراطية والعدالة الاجتماعية. ولن يتحقق ذلك إلا في ظل عراق ديمقراطي فيدرالي متحرر من أي عسف أو دكتاتورية أو هيمنة، تحت أية يافطة كانت. وبالتالي ينطرح سؤال: هل القوى المتنفذة الحالية قادرة على تحقيق ذلك؟ ومن هنا التاكيد على ان المعركة حول الاصلاحات الاقتصادية ليست معركة فنية كما يريد "الخبراء" عندنا حصرنا فيها بل هي في الواقع معركة بدائل مجتمعية متناقضة ومتصارعة لانها تعبيرات حقيقية عن الرؤى المطروحة ليس للراهن بل وللمستقبل ايضا. ويظل السؤال الاستراتيجي التالي قائما: أي اصلاح نريد؟

سؤال برسم الاجابة !