- التفاصيل
-
نشر بتاريخ السبت, 29 تشرين1/أكتوير 2016 12:03
إبراهيم المشهداني
يصعب على الباحث الرصين أن يجري توصيفا دقيقا للفوارق الملموسة اقتصاديا واجتماعيا بين المدينة والريف في العراق. وان يرسم أفقا واضحا وقاطعا بين ما سيكون عليه مستقبل العلاقة بينهما، لتداخل مجموعة من العوامل التاريخية والاقتصادية، وشكل توزيع الخيرات المادية، وتطور المنظومات الاجتماعية وتركيبتها العشائرية والدينية والنظم السياسية التي تتابعت على حكم العراق، والتدخلات الخارجية على امتداد التاريخ وتأثيراتها القيمية والثقافية، فضلا عن أنماط الإنتاج السائدة. كل هذه العوامل والتناقضات التي تحملها جعلت من الصعب وصول الباحثين إلى نتائج نهائية ثابتة للعلاقة بين الريف والمدينة، وآفاق تطورها، لكن ذلك لا يقوض من عزيمة الكاتب من سبر أغوارها.
السياق التاريخي للتطور الاجتماعي
مع خصوصية التطور الاجتماعي بين مختلف البلدان، إلا إن هناك صفات عامة مشتركة خلال المراحل التاريخية التي مرت بها الإنسانية، فحسب التطور المادي للتاريخ فان الإنسان في المرحلة المشاعية كان يصارع الطبيعة في ظروف غاية في القسوة بسبب عدم امتلاكه للأدوات التي تحميه من قسوة الطبيعة بحرها وبردها لفترات طويلة من الزمن، غير انه بعد اكتشافه الزراعة وأدواتها بدا يتنقل بالتدريج إلى الانخراط في النشاط الاقتصادي الأول؛ فانقسم في هذا النشاط بين الزراعة والرعي واستمراره بالصيد، وهكذا حصل التقسيم الأول للعمل في نهاية المرحلة المشاعية، حلت بعده مرحلة العبودية مع ظهور الملكية الخاصة بنطاق أوسع وظهور التمايز الطبقي في المجتمع بين العبيد وملاك العبيد وظهور التجارة. إلا إن وتائر التطور وسرعة حركتها وديناميكيتها اختلفت من بلد إلى آخر؛ ففي أوربا كانت الحركة أسرع من غيرها.
أما في العراق فقد ظهرت المدينة في وقت مبكر وظهرت الكتابة، ما سهل عملية التفاهم بين السكان ووضعت القوانين الناظمة للنشاط الإنساني وحدود حركته وحقوقه في العمل والعيش، إلا إن الحروب بين الممالك طمرت الكثير من معالم التطور ولم يوثق منها الشيء الكثير الا في القرون المتأخرة.
الواقع الاجتماعي في عهد الاحتلال العثماني
لقد كان العراق في سنوات الهيمنة العثمانية من أكثر مقاطعات الإمبراطورية العثمانية تخلفا فلا يهم الحكومة المركزية اثر من الاستحواذ على الفائض الاقتصادي من الحبوب والحيوانات، عن طريق الضرائب والإتاوات فلا الحكومة ولا الولاة، كانت لديهم الرغبة في تطوير البلد. وكان العراق بالنسبة لهم سيبيريا تركيا، حسب تعبير الكاتب (ايرلاند) إذ كان منفى للولاة والقادة وكانت وسيلتهم الأساسية استخدام القوة في فض الاحتجاجات على بساطتها، ما أدى إلى تفاقم التناقضات الاجتماعية الاقتصادية، ما مهد الطريق للتغلغل البريطاني، وكانت الحكومة تعتمد على الزعامات المحلية في إدارة الأوضاع الاجتماعية والحفاظ على البنية الأساسية، ونتيجة لذلك انقسم سكان العراق في الفترة الأخيرة من الحكم العثماني؛ فظهرت ثلاث مجاميع:
• العشائر الرحل - البدو.
• العشائر المستوطنة - الفلاحين.
• سكان الحضر - المدن.
وقدر عدد السكان في بداية القرن العشرين بحوالي مليونين، وكانت نسبة القبائل الرحل %17 في عام 1905 فيما كانت النسبة 35 بالمائة في عام 1867 وكانت نسبة العشائر 59 بالمائة في عام 1905 فيما كانت نسبتها %41 في عام 1867 وكانت نسبة الأرياف (البادية) %76 وكانت نسبة السكان في المدن %24 من نفس عام 1905. وكانت القبائل تمثل الوحدة الأساسية في المجتمع؛ اذ كانت تشكل مع المدن، عالمين مختلفين. والقبيلة تمثل وحدة سياسية واجتماعية شبه مستقلة منغلقة على ذاتها، لها شرائعها وأعرافها الخاصة، ولها تقاليدها التي تختلف عن المدينة؛ اذ تحكم نفسها بنفسها في الكثير من التفاصيل الاجتماعية.
الواقع الاجتماعي في العهد الملكي
قاعدة الهرم الاجتماعي التي يمكن تسميتها بقاعدة التكوين للفترة 1929 - 1932 كانت تتكون من المكونات الآتية:
1. قوى الاحتلال الأجنبي والكادر الإداري المرافق له.
2. القوى الاجتماعية المحلية، المتكونة من:
ا- القوى المدينية (الحضرية) وتتمثل بالأشراف والعوائل الارستقراطية القديمة والتجار والملاكين الكبار. وتسكن هذه القوى بداخل المدن.
ب - القوى الريفية، وتتمثل بمجموعة القبائل والعشائر، وخاصة الكبيرة منها. وهذه تتوزع في العادة على المناطق الريفية.
ج - القوى الدينية الإسلامية والمسيحية واليهودية. وهذه القوى تتوزع بين المدينة والريف، بخاصة القوى الإسلامية.
ولا يمكن القول إن هذه المجموعات قد تكونت ضمن الفترة الزمنية التي اشرنا إليها، ولكن جذورها تمتد إلى عهد الاحتلال العثماني، إلا أنها بدأت تتبلور أكثر فأكثر بعد الاحتلال البريطاني (الفترة التي درجت تسميتها اعتباطيا بفترة الاستقلال)؛ إذ ترسخت السلطة الملكية، ورسمت حدود هذه القوى الاجتماعية مع السلطة المركزية، وفي هذه الفترة تقلص دور المؤسسة التقليدية وخاصة الارستقراطية القديمة والدينية يقابلها صعود نفوذ شيوخ العشائر والإقطاعيين، لكن القوى التي تبوأت في المدينة كانت تتمثل بالعرش الملكي والمحيطين به، وتعاظم دور النخبة السياسية المنحدرين من أصول عسكرية. وفي الحقيقة هي من شكل عصب النخبة الحاكمة في المدينة. إما الفئات التي كانت تقع في أسفل السلم الطبقي في الريف؛ فكانت تتكون من عوام الناس، من الطبقات الفقيرة المنتمية إلى العشائر.
وكانت هناك هوة واسعة تفصل المدن عن الريف العشائري، وفي ذات الوقت كان الحضريون وعرب العشائر ينتمون إلى عالمين، يكادان يكونان منفصلين، باستثناء سكان المدن الواقعة في عمق المناطق العشائرية او رجال العشائر الساكنين قرب المدن. وكانت الروابط بين الطرفين اقتصادية بالدرجة الأولى، بالرغم من ان هذه الروابط لم تكن بدرجة عالية، من النشاط والفاعلية، وكانت تواجه تحديات حقيقية، تتمثل في الابتعاد عن المدن وعن طرق المواصلات من خلال نهر دجلة. لذلك نرى أن إنتاجها من المحصول الزراعي كان معرضا للتلف حيث كان القمح يتعفن في مخازنه، التي هي في الواقع مخازن بدائية، لا تحفظها من مياه الأمطار التي تسبب تعفنها، ولهذا كان سكان المدن يعانون من المجاعة. وضعف المواصلات كان يسبب متاعب حقيقية بين المدينة والريف؛ بحيث ان في غالب الأوقات كان التبادل التجاري متوقفا، لذلك يفعل الاعتماد الذاتي في المناطق الريفية وتتشكل أسواقها الخاصة كما كان للمدن ريفها الخاص الذي كانت تحتضنه.
ومن الجدير بالملاحظة، ما كان من تباعد اجتماعي ونفسي بين العرب الحضريين والعرب العشائريين، وهما يختلفان بطرق كثيرة، ففي حين كان العرب الحضريون يخضعون بشكل عام للقوانين الإسلامية والعثمانية، كان عرب الريف ـ أي العرب العشائريين ـ يخضعون للعادات والتقاليد العشائرية القديمة المغلفة بصبغة دينية. وتتوزع الثقافات خصوصا بالنسبة لشريحة المتعلمين بين الثقافات التركية والفارسية تبعا للمذهب والمدن التي تشيع فيها. ومن جهة أخرى فان أبناء المدن أكثر خضوعا للسلطة الحاكمة، في حين كان سكنة الريف أكثر حرية من قمع السلطة المركزية لكنهم يخضعون لسلطة الشيوخ ورؤساء القبائل.
المستوى الاقتصادي والاجتماعي في الريف
لا شك في أن العراق يعاني مثل سائر الدول النامية، من تفاقم مشكلة الفقر. ويعود ذلك بالأساس إلى تراجع القطاع الزراعي بسبب قلة المياه وعدم التوظيف الأمثل لمياه نهري دجلة والفرات، وتعطل القنوات التي توصل المياه إلى الأراضي الزراعية التي تسقى بطريقة الإرواء، وضعف الاستفادة من المياه الجوفية، فضلا عن التخلف في إدخال الوسائل التكنولوجية في الإنتاج والطرق الحديث في السقي (بطريق التنقيط) حسب متطلبات التنمية الزراعية. وكل ذلك كان مرتبطا بضعف برامج التنمية والارتباط العضوي لهذا القطاع الحيوي مع القطاعات الاقتصادية الأخرى وخاصة القطاع الصناعي.
ومن الجدير بالذكر، أن الزراعة، في الأربعينيات والخمسينيات (من القرن العشرين – المحرر)، كانت تشكل 64 بالمائة من مصادر عيش سكان العراق، لكنها وصلت إلى ادنى مستوياتها في منتصف التسعينيات؛ حيث انخفضت النسبة إلى 28.5 بالمائة لكن التعداد السكاني في العراق عام 1997 اظهر أن هذه النسبة قد ازدادت الى 40 بالمائة.
ومن الظواهر المميزة في الريف العراقي ارتفاع نسبة البطالة بين القادرين على العمل والراغبين فيه؛ فتشير الإحصاءات إلى ان نسبة العاملين في هذا القطاع في بداية عقد التسعينيات كانت 16 بالمائة، لكنها انخفضت في نهاية العقد نفسه إلى 10 بالمائة، خاصة بين الشباب. وهذه النسبة كانت العامل الدافع إلى الهجرة من الريف إلى المدينة. يقابل هذه الظاهرة تزايد نسبة النساء العاملات في الزراعة؛ فتشير الإحصاءات إلى ان النسبة في عام 2000 كانت 50 بالمائة من إجمالي العاملين في هذا القطاع، وهي بالتأكيد قابلة للزيادة في حال ثبات نفس العوامل. وكنتيجة للحصار المفروض على العراق في عام 1990 بعد غزو الكويت، توجهت الحكومة إلى زيادة التركيز على الإنتاج الزراعي لمواجهة مخاطر الحصار، وقد حصلت هجرة معاكسة من المدينة الى الريف، لكن هذه الظاهرة كانت مؤقتة بسبب راهنية ظروفها؛ لتعود الهجرة من جديد، لمعاودة حركتها، وذلك لعدة أسباب منها؛ التصحر والتعرية والجفاف وتفاقم الفقر والكثافة السكانية، بالإضافة إلى غياب التنمية الريفية، وكذلك مباهج المدن التي تشكل عنصرا جاذبا للهجرة إلى المدينة.
وحسب تقديرات منظمة الغذاء والزراعة الدولية فان أكثر من 79 بالمائة من الموارد الأرضية في العراق، تعاني التدهور الذي يعد بيئة طاردة للسكان ومحفزة للهجرة الداخلية والخارجية. وفي الجدول أدناه يتضح تأثر النسب والتغيرات السكانية في المدينة والري، بتأثير بالعوامل في ما بيناه أعلاه.
ومن الجدول يمكن أن نستنتج الحقائق الآتية:
1.انخفاض نسبة الإناث إلى الذكور في المدينة، على عكس الحال في الريف لعامي 1990 - 1997. ويعود سبب انخفاض نسبة الذكور إلى الإناث في الريف إلى سوء الأحوال الاقتصادية في الريف، وهجرة الذكور إلى المدن في الداخل او خارج العراق؛ حيث ان ظروف هجرة الذكور أفضل من الإناث في الحالتين. ولا ننسى آثار الحرب العراقية الإيرانية على انخفاض هذه النسب.
2. في عام 2006 انقلب الوضع في المدينة انقلابا كبيرا حيث ازدادت نسبة النساء ازديادا كبيرا قياسا بنسبة الذكور، وذلك بسبب الصراع الدموي الطائفي في المدن بسبب الأجندات الخارجية والتدخلات الإقليمية في العراق، ما أدى الى قتل الآلاف من الأبرياء بالإضافة للهجرة إلى الخارج.
3. الظروف العصيبة التي مرت بها المدينة وخاصة بغداد العاصمة والسبب الأرأس في ذلك، يعود إلى الصراع الطائفي الشديد الذي شهدته المدن وخاصة بين الشباب، ومهن الطب والهندسة والتعليم، فيما ظلت النسبة في الأرياف شبه متساوية وثابتة.
4. ويلاحظ في السنتين 2007 و 2008 ان نسب الذكور والإناث في المدينة والريف كانت متقاربة والى حد كبير.
5. ولا يفوتنا الأخذ بنظر الاعتبار ان الإحصاءات السكانية في العراق في العقدين الأخيرين من النظام البائد وحتى سنوات ما بعد 2003 يشوبها الكثير من الشك، بسبب الأوضاع السياسية والأمنية المتدهورة، والتوقف عن الإحصاءات السكانية منذ عام 1987؛ حيث يتسم الإحصاء بشيء من الموثوقية، ولكنه لا يرتقي إلى الإحصاءات السكانية السابقة له في عامي 1957 و1977.
التنمية الريفية.. المفهوم والأهمية
أولا- المفهوم
يقصد بالتنمية الريفية مجموعة السياسات والبرامج والإجراءات التي تستهدف تغييرا واضحا وملموسا في المجتمعات الريفية المحلية، لغرض رفع مستوى معيشة السكان عن طريق نظام عادل في توزيع الدخل، وتحسين الظروف العامة بما في ذلك ظروف المجتمع الاقتصادية والبيئية والصحة والبنية التحتية والإسكان ونمو العمالة على طريق سد الفجوة الحاصلة في حياة السكان بين المدينة والريف وصولا الى مستوى المدينة.
وقد عرفها البنك الدولي بالآتي: أنها "إستراتيجية تهدف الى تحسين الاقتصاد والحياة الاجتماعية لمجموعة معينة من الناس الفقراء في المناطق الريفية".
ويرتبط بهذه التعريفات لمفهوم التنمية الريفية أربعة محركات مهمة لتحفيز نمو الاقتصاد غير الزراعي في المناطق الريفية، وهي نمو المراكز الصغيرة والمتوسطة، وتحقيق التكامل بين اقتصاديات الريف والمدينة، وخلق فرص جديدة للعمل والخدمات، وتحسين نظام الاتصال والمعلومات عبر نشر التغطية الهاتفية الثابتة والمتنقلة. يضاف إليها زيادة الاستثمار في الطاقة اللامركزية والمتجددة. بمعنى آخر وجود ثلاثة عناصر تتفاعل مع بعضها لتحقيق التنمية الريفية وهي البعد السياسي والبعد الاقتصادي والبعد الاجتماعي.
ثانيا – الأهمية التنموية في الريف
هناك العديد من الأسباب التي تمنح التنمية الريفية هذه الأسباب، ومن ابرزها تدفق الهجرة من الريف إلى المدينة خلال العقود الخمسة الأخيرة. وتتركز في هجرة القوى العاملة وخاصة الرجال وغالبا ما تستثنى النساء من هذه الهجرة، لشيوع الثقافة المتخلفة في الريف، والتي تنظر إلى المرأة على أنها عاجزة عن الاعمال المرهقة في المدينة خصوصا وان مجال العمل هو البناء، لذلك فان الحد من هذه الهجرة يرتبط بالأسباب التالية، والتي منها؛ إن العراق يتوافر على إمكانيات كبيرة داخل الأرض وفوقها، ما تمنح الحكومات العراقية ـ إن توفرت لديها الإرادة القوية ـ فرصا لخلق مستوى من التقدم المتوازن بين الريف والمدينة وداخل الريف بالذات. فإضافة إلى النفط والغاز المصاحب وغير المصاحب المستخرج من الأرض ووصول الإنتاج إلى مستويات عالية يصل بالإجمال إلى أربعة ملايين برميل يوميا من النفط فقط، هناك الكثير من المعادن المطمورة تحت الأرض كالفوسفات والكبريت والحديد والزئبق الأحمر وأنواع المعادن الصخرية الأخرى، وهناك المياه الوفيرة والأراضي الصالحة للزراعة ـ إن أحسنت إدارتها ـ تتمكن من تحقيق جملة من الأهداف كزيادة الإنتاج الزراعي والحيواني وإمكانية التكامل الصناعي ـ الزراعي داخل الريف، زد على ذلك ان العراق يشكل واحدا من بين 61 دولة يكون فيها الدخل منخفضا لذلك فان تحقيق التنمية الاقتصادية وزيادة التوظيف (employment) كأساس في عملية التنمية الريفية يسهم في زيادة المداخيل داخل الريف. ولكن تحقيق هذا الهدف يرتبط بتضافر ثلاثة عناصر أساسية وهي رفع وتائر النمو في الإنتاج من خلال استخدام التكنولوجيا الحديثة، ورفع مستوى الإنتاج في المزارع الصغيرة للفلاحين، والعنصر الآخر زيادة الطلب على الإنتاج الزراعي، فيما يكون العنصر الثالث الاعتماد على تنمية ريفية ذات أنشطة متنوعة خارج مجال الإنتاج الزراعي، وعمل كثيف يحقق الدعم المتبادل بينهما في المجتمع الزراعي بشكل مباشر او غير مباشر.
التكامل الصناعي – الزراعي
ان زيادة حاجات المجتمع، وقبل كل شيء الحاجات الاقتصادية تشكل أساسا لعملية الإنتاج الاجتماعي، تلك العملية التي تشترط ـ بالانسجام مع الخصائص القائمة لعلاقات الإنتاج ومستوى تطور القوى المنتجة ـ انجاز مشاريع التكامل الصناعي - الزراعي التي تعتبر في النهاية أداة لخلق الظروف الموضوعية لعملية التطور الكمي والنوعي لقوى الإنتاج وتحسين علاقات الإنتاج، وبالتالي تعزيز القدرة على تلبية الحاجات الاجتماعية المتنامية. ومن الطبيعي فان الحاجات الاقتصادية تأتي سابقة لعملية الإنتاج وتمهد لبناء أسس تطور مخرجاتها من السلع والخدمات التي ينبغي ان تتسم بكفاءة عالية على إشباع تلك الحاجات. الا انه يبقى القرار إن أولوية العوامل الاقتصادية والاجتماعية في تطوير عملية التكامل الصناعي – الزراعي تتوقف على مجموعة متداخلة مع بعضها، لكي تعطي مفاعيلها في تحقيق هذا التكامل، وبالتالي إشباع الحاجات الاجتماعية؛ ومن بين هذه العوامل:
1. العوامل الطبيعية:
وتشمل الخصائص الموروثة عن الإنسان كالمواهب والإبداعات والنبوغ والمهارات وهي في حركتها وتطورها مهدت الطريق نحو تكامل العمل الصناعي الزراعي، وفي نهاية المطاف تخلق ظاهرة شخصية جديدة يدفع تراكمها الكمي بين سكان الريف إلى تبديل العمل ليكون منسجما مع الخصائص الطبيعية للإنسان، بما تسهم كنتيجة لتفادي ضياع الملايين من ساعات العمل التي ينبغي ان تتضافر عناصر الإنتاج الأخرى لتخلق المنافع الاجتماعية المتوخاة، ومن أهمها تحويل الطابع الاجتماعي في الريف من مجتمع مستهلك الى مجتمع منتج، وبذلك تتحول عملية خلق التكامل الصناعي الزراعي إلى التخلص من موسمية العمل التي تشكل ظاهرة بارزة في المجتمع الزراعي.
2. العوامل الاجتماعية:
ان التكامل الصناعي الزراعي في ظل أسلوب الإنتاج الرأسمالي يخضع لقوانينه التي تؤدي في النتيجة إلى إعاقة قدرتها على تحقيق الأهداف الاجتماعية، بل إن هذا التكامل في ظل هذا الأسلوب يكون ظاهرة عرضية تشكلت في ظل الصراع الاجتماعي، ما لم يكن لإزالة التناقض الجوهري بين قوى الإنتاج وعلاقات الإنتاج وعندئذ سيكون كفيلا بتسهيل عملية التكامل الصناعي الزراعي وتحقيق التقدم الاجتماعي.
3. العوامل الاقتصادية :
ان التطور المتسارع في الصناعة، قاد إلى توسع الفجوة بين مستوى التطور الصناعي عنه في الزراعي وأحيانا إلى القطيعة بينهما، وبالتالي عدم التوازن في تطور هذين المجالين في الإنتاج المادي للخيرات. غير إن الحاجات الاجتماعية للمدينة والريف خلقت الحاجة إلى ضرورة إلغاء هذا التناقض، وإعادة التوازن عبر خلق الظروف الاقتصادية والاجتماعية لأداء وظائفهما بمستوى أعلى من التنسيق.
4. العوامل التنظيمية:
إن مهمة تنظيم الحيازات الصغيرة والكبيرة وإدخال المكائن الزراعية والاستغلال الاقتصادي الأمثل للعمل هو ما يحقق فكرة تكامل الإنتاج الصناعي الزراعي من خلال اتحاد الفلاحين الصغار وإنشاء مشاريع تعاونية زراعية كبيرة؛ ففي مثل هكذا مشاريع زراعية يمكن أن تنظم على نطاق اقتصادي كبير ومربح لمؤسسات التكامل الصناعي ـ الزراعي.
ظاهرة الفقر في المدينة والريف
أظهرت عملية المسح السكاني الذي أجرته وزارة التخطيط في عام 2012 والذي شمل المسح الاجتماعي والسكاني لكافة الأسر الساكنة في العراق، واستخدمت نتائج الحصر والترقيم لسنة 2009، على مستوى الاقضية في العراق البالغة 118 قضاء. وشمل هذا المسح المدينة والريف من خلال استخدام خط الفقر كمقياس للدخل او الاستهلاك بما يفرق بين الفقراء وغير الفقراء باستخدام الطرق الآتية، باستخدام مؤشرات الفقر:
1. الطريقة الأولى، نسبة الفقر. وهذا المؤشر يقيس الأهمية النسبية للفقراء في أي مجتمع، ويعكس نسبة الفقراء إلى مجموع السكان ويقاس بالطريقة الآتية:
نسبة الفقراء - عدد الفقراء تحت خط الفقر، مقسّما على مجموع السكان، مضروبا في 100.
وعلى مستوى الأسر يقاس بالطريقة الآتية: نسبة الأسر الفقيرة - عدد الأسر تحت خط الفقر، مقسما على مجموع عدد الأسر، مضروبا في 100.
2. فجوة الفقر: وهو مؤشر يقيس حجم الفجوة الإجمالية الموجودة بين دخول الفقراء وخط الفقر، ويحسب بالوحدات النقدية من خلال إجمالي المبلغ اللازم لرفع مستويات استهلاك الفقراء إلى مستوى خط الفقر ولأغراض المقارنة، فيتم حساب المؤشر كنسبة مئوية من القيمة الكلية لاستهلاك كافة السكان، عندما يكون مستوى استهلاك كل منهم مساويا لخط الفقر. ويحسب خط الفقر بالطريقة الآتية:
مستوى خط الفقر = كلفة تغطية الحاجات الغذائية الأساسية + كلفة تغطية الحاجات الأساسية غير الغذائية. وقد أظهرت مؤشرات الفقر عبر استخدام العينة المشار إليها في أعلاه إن:
1. ان نسبة الفقر في العراق بلغت 18.9 بالمائة، وان الفقر يتركز في الريف بدرجة اعلي من المدينة (الحضر) حيث بلغت نسبة الفقر فيهما 30.7 بالمائة و 13.5 بالمائة على التوالي. كما بينت المؤشرات ان حجم الأسرة لفئة الفقراء بلغ 9.25 فردا في حين بلغت عند غير الفقراء 6.3 فردا.
2. وأظهرت المؤشرات ان نسبة الأفراد الذين يقعون تحت خط فقر الغذاء المدقع الذين يقل إنفاقهم الشهري عن 50473 دينار 0.9 بالمائة، وقد بلغت هذه النسبة في الريف 2.2 بالمائة، وفي المدينة 0.3 بالمائة.
3. يصنف ما يقرب 6.4 مليون نسمة من مجموع سكان العراق الذين يزيد عددهم عن 34 مليون نسمة ضمن فئة الفقراء، نحو أكثر من نصف العدد الكلي من السكان الفقراء (3.3) مليون شخص يعيشون في المناطق الريفية وحوالي 1.3 مليون نسمة في المدينة.
4. تعتبر فجوة الفقر في العراق البالغة 4.1 المائة منخفضة للغاية، استثناء للظروف الحالية التي يمر بها العراق من الناحية الاقتصادية والأمنية، مقارنة بالدول الأخرى، حيث تزيد فجوة الفقر لسكان الريف البالغة 7.6 بالمائة على ثلاثة أضعاف نسبتها لسكان المدن البالغة 2.5 بالمائة. ولا يعني هذا ان هناك نسبة اعلى من سكان الريف فحسب، بل يعني أيضا أن سكان الريف نسبيا هم أكثر فقرا.
5. تعتبر شدة الفقر، مقاسة بمربع دليل فجوة الفقر البالغة 1.4 بالمائة واطئة للغاية (الانتقال في الإنفاق من شخص تحت خط الفقر الى شخص أكثر فقرا لن يغير مؤشر الفقر، إلا أنه يغير فجوة الفقر تربيع) لهذا السبب تعتبر فجوة الفقر تربيعا ذا أهمية عملية لصناع السياسة، لأنها تجعل الفقر الشديد منظورا.
6. يعتبر خط الفقر الرسمي في العراق البالغ 105500 دينار، والمستند الى إنفاق وحاجات السكان الفعلية، هو الأكثر فائدة لتحليل أسباب ونتاج الفقر في العراق.
7. بلغ معدل البطالة للأفراد البالغين (عمر 15 سنة فأكثر) بين فئة الفقراء 14.5 بالمائة كما أظهرت النتائج أن متوسط دخل الفرد الشهري لفئة الفقراء بلغ 96 ألف دينار، في حين بلغ متوسط دخل الفرد لفئة غير الفقراء 284 ألف دينار.
اللوحة الطبقية في المدينة والريف
تعريف الطبقات يمثل إشكالية كبرى حتى عند ماركس الذي نفى أن يكون صاحب فضل في اكتشاف الطبقات والصراع الطبقي، بل عزاه وبدرجة ما إلى وصف المؤرخين البرجوازيين، ولهذا كان حذرا من وضع تعريف محدد، وذلك بسبب التطور المتسارع والمتحرك للتطورات الاقتصادية والاجتماعية، لكن لينين وضع التعريف الآتي: "الطبقات هي جماعات واسعة من الناس، تمتاز بالمكان الذي تشغله في نظام الإنتاج الاجتماعي محدد تاريخيا بوسائل الإنتاج وبدورها في التنظيم الاجتماعي للعمل وبطرق الحصول على الثروات الاجتماعية ومقدار حصتها من هذه الثروات". وانطلاقا من هذه المفاهيم ننتقل إلى الواقع الراهن في العراق باختصار شديد حيث ان حجم البحث لا يحتمل الشرح التفصيلي. فعندما نتناول الريف ونأتي على مفهوم الفقر والفقراء فانه من اللازم التفريق بينها وبين اللوحة الطبقية علميا فان الفلاحين هي الطبقة الاشمل؛ ففيها الفلاحون المعدمون وفيها الفلاحون الأغنياء او الميسورون، وفيها الملاكون الكبار، غير ان ما أنتج هذا التمايز هو تطور العلاقات الرأسمالية في الريف وفيهم العمال الزراعيون العاملون في بقايا المشاريع الحكومية والقطاع الخاص وكان للقوانين التي أصدرتها حكومة 14 تموز، وطرأت عليها تعديلات لاحقة اثرٌ في إيجاد فئة كبيرة مالكة للأرض، وهي على كل حال صغيرة المساحات، ولذلك أصبحت بفعل ذلك ذات ميول برجوازية صغيرة.
اما في المدينة فيمكن القول انه بعد التغيير في عام 2003 ظهرت ثلاث طبقات رئيسية، وهي الطبقة البرجوازية الكومبرادورية، وهي الفئة العليا من البرجوازية، والطبقة الطفيلية التي نشأت بفعل تأثيرات الاقتصاد الريعي وانتشار الفساد التي تعتبر العامل المحرك لها، ولا دور لها في عملية الإنتاج والطبقة البرجوازية البيروقراطية، وتتشكل من الفئة العليا للبيروقراطية الإدارية وتكتسب مداخليها على المكاسب التي توفرها المواقع الوظيفية والسلطات التي يتمتعون بها، ما اوجد قدرا كبيرا من التلاحم المصلحي مع الطبقة الطفيلية وطبقة الكامبرادور، ومن المفاهيم المتداولة في الأوسط الثقافية الطبقة الوسطى. وهذا التعريف يتقاطع مع التحليل الماركسي للوحة الاجتماعية، بسبب اعتماده على الدخل والإنفاق. ومع ذلك ظل هذا التعريف ملتبسا ومثيرا للجدل. والى جانب هذه الطبقات توجد في المدينة الطبقة العاملة في القطاع الحكومي والقطاع الخاص، والى جانبها الحرفيون والمثقفون والشرائح المهشمة وما يطلق عليها أحيانا الطبقة الرثة.
الاستنتاجات والمقترحات
بالنظر للتفاوت الكبير في الأوضاع الاقتصادية والاجتماعية بين المدينة والريف، دون ان يعني ذلك ان التطور الاجتماعي والاقتصادي في المدينة، قد أخذ المستويات الدولية وحقق كفاية المجتمع المديني، ولبّى الاحتياجات الضرورية لسكان المدن من الخدمات الصحية والتعليمية والطاقة والخدمات البلدية، فهي حتى دون المستوى الأدنى، لكنني ومن خلال هذا العرض التحليلي آمل أن أكون قد أصبت في الاستنتاجات التي توصلت إليها والمذكورة في أدناه:
• وضع الخطط والاستراتيجيات الخاصة بالريف العراقي والاستفادة من الدراسات والبحوث الأكاديمية، بما يهدف إلى توفير الخدمات الأساسية لسكان الريف، والتي تتمثل في توفير المياه الصالحة للشرب والصرف الصحي والخدمات الصحية والتعليمية، وبناء القرى العصرية التي تتوفر فيها هذه الخدمات، في مقاربة واضحة تؤدي إلى الاقتراب من حياة المدينة وفي كافة المجالات.
• وضع التشريعات التي تلزم الاطفال في سن التعليم مرورا في كافة المراحل التعليمية والتقنية للالتحاق بالمدارس الكافية التي يتعين على الدولة توفيرها لاستيعاب الأعداد الكافية وتتوفر فيها كافة المستلزمات التي تحتاجها العملية التعليمية مع توفير البرامج الغذائية للتلاميذ، ومثل هذه البرامج كانت موجودة في مرحلة النظام الملكي، مما توفر المستوى التعليمي والتقني المنشود.
• ايلاء الاهتمام الكبير والجاد بالتنمية الريفية من النواحي الاقتصادية والاجتماعية والبشرية والثقافية من اجل خلق المناخات المناسبة لاستقرار السكان والحد من الهجرة إلى المدينة، وحتى الهجرة إلى الأسوار المغلقة في أوروبا! بل وتحقيق الهجرة المعاكسة من المدينة إلى الريف، خاصة ان هناك في سكان المدن من يرغب بالسكن في ريف متطور، للتخلص من زحمة المدينة وضجيجها.
• تحقيق إستراتيجية ملموسة للتكامل الصناعي ـ الزراعي ووضع المشاريع التي تناسب حاجة الريف والارتقاء بمستواه الاقتصادي والاجتماعي. وهذه الإستراتيجية ستسهم دون شك في خلق الظروف الموضوعية لعملية التطور الكمي والنوعي لقوى الإنتاج وتحسين علاقات الإنتاج وامتصاص البطالة الشائعة في الريف العراقي وخاصة المصانع التي تستوعب النساء والرجال في ان.
• تشجيع الشباب على تأسيس منظمات المجتمع المدني الخاصة بطبيعة أنشطتهم والتي تؤدي دورها المنشود في رفع مستوى الوعي الوطني والتعايش السلمي في المجتمع الريفي وتكريس مبادئ مفاهيم التسامح المجتمعي، للإسهام في تخليص الريف العراقي من النظام العشائري المتعفن القائم على تكريس التخلف الثقافي والفكري وتفاقم التوترات العشائرية واللجوء إلى تقاليد وأعراف أكل عليها الدهر وشرب، وإضعاف القوانين المدنية الهادفة لتحقيق العدالة بين المواطنين كما يجري الان في العديد من المحافظات العراقية.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
مصادر البحث:
1. د . جاسم محمد حافظ، التكامل الصناعي ـ الزراعي، مدخل نظري، مطبعة الفرح، 2003.
2. د.مهدي محسن العلاق ونجلاء على مراد وقصي عبد الفتاح رؤوف، الفقر وعلاقته بالعوامل الاجتماعية والاقتصادية في العراق. تقرير وزع في ندوة خاصة بإستراتيجية القضاء على الفقر، أقيمت على قاعة فندق الرشيد عام 2013، وقد نشر أيضا على الانترنيت.
3. م.م سلام أنور العبيدي، مجلة تكريت للعلوم الإدارية والاقتصادية المجلد 8 - 25/ 20123 جامعة تكريت ـ كلية الإدارة والاقتصاد، المقال منشور على الانترنيت.
4. فرحان قاسم، مقالة منشورة في مجلة الثقافة الجديدة العراقية، العدد 381 آذار 2016.
5. حنا بطاطو/ المجلد الأول – الفصل الأول، مطبعة دار الحياة، تاريخ الإيداع في دار الحياة للنشر والتوزيع 2011.
6. د.عقيل الناصري، في الأوضاع الاجتماعية والاقتصادية مطلع القرن الماضي، مقالة منشورة على الانترنيت.
7. إبراهيم المشهداني.. قراءات في الاقتصاد والسياسة الاقتصادية في العراق. كتاب تحت الطبع.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
مجلة "الثقافة الجديدة"
العدد 384
أيلول 2016