مدارات

أيام مفعمة بالحب والأمل ...(2) / فيصل الفؤادي

الخروج من الوطن
غادر الكثير من رفاق الحزب الشيوعي العراقي، الوطن مجبرين نتيجة الهجمة الشرسة التي قام بها النظام الدكتاتوري في العراق على الحزب، والتي اراد منها التنكيل بالشيوعيين وإرغامهم على التخلي عن قضيتهم و الانضمام الى حزب البعث. وأدت هذه المغادرة الى تشتت الرفاق في معظم انحاء العالم، مع بقاء الأكثرية منهم في الدول القريبة من العراق مثل سوريا والأردن والكويت ولبنان واليمن الديمقراطية ، كما ان البعض منهم سافر الى بلغاريا والى غيرها من الدول الإشتراكية.
وفي أشد أوضاع الحزب صعوبة، جراء هذه الهجمة، رفعت قيادة الحزب شعار انهاء الدكتاتورية في العراق، والتوجه الى كردستان وتكوين جبهة مع القوى العراقية الاخرى وبالأساس مع الأحزاب الكردية هناك، لتحقيق هذا الهدف. كما بدأ الحزب بتهيئة المستلزمات المادية والفنية للانتقال، وبالذات الرفاق (الأنصار فيما بعد) من ظروف التحالف مع البعث الى معارضته، ودخولهم الى دورات عسكرية في لبنان والتي كانت بمساعدة الجبهة الديمقراطية لتحرير فلسطين وكذلك في سوريا واليمن الديمقراطية.
ترك اعضاء الحزب المنافي التي لجأوا اليها واستعدوا للسفر الى كردستان العراق، وعبر منافذ عديدة منها سوريا، التي صارت المنفذ الرئيسي لعودتهم الى الوطن، بدءً من القامشلي ومرورا بالحدود التركية. وفي هذه المدينة عمل الحزب على تهيئة بعض البيوت لجمع الأنصار فيها وتهيئتهم نفسيا وبدنيا، إضافة الى تعليم بعضهم كيفية إستخدام السلاح وغيره، خاصة لمن لم يدخل أي دورة عسكرية. اما الرفاق من اعضاء الحزب ومناصريه الذين التحقوا من الداخل، فقد مروا بظروف غاية في الصعوبة، تمثلت في التنقل والاختفاء خوفا من الاعتقال حيث المراقبة من قوى الامن والمخابرات وأزلام النظام الدكتاتوري.
ومع كل هذه الظروف القاسية والمعقدة، بقّي الشــــيوعيون صـلبين، فـتجاوزوا هذه الهجمة بإرادة عالية وبروح من التفاني. اما الرفاق الذين واصلوا النضال في ظروف الاختفاء القسري فقد عاشوا معـاناة حقيقية وأضطر قسم منهم مكرهاً على تجميد نشاطه السياسي حتى تـتـغير الظـروف، والآخرون الذين عاشوا خارج الوطـن، ولـم يلتحـقـوا بالحــركـة الأنصارية لظروفهم الخاصة فقد دعموا الحزب معنويا ومادياً وإعلاميا.
لقد أثبتت حماسة الشيوعيين في الإنتقال الى كردستان عدالة قضيتنا وسمو افكارنا، وقدرتها على إنارة درب العدالة للفقراء والكادحين من العمال والفلاحين، كما عرّفت أبناء شعبنا من جديد من أن الشيوعيين هم من يبقى حتى النهاية في مقدمة المعارك ضد الدكتاتورية والإرهاب.
الدخول الى الوطن
إستكمل الخروج الاجباري للرفيق من الوطن بالعودة الإختيارية اليه، عودة حدثت غالباً بشكل خفي ومن حدود كردستان العراق مع سوريا او ايران او تركيا. عودة رافقتها مشاعر انسانية متناقضة، مفرحة ومؤلمة، ومتاعب جسدية لا حدود لها بعد رحلة قاسية من الغربة الى الوطن... بدون جواز سفر ... وبدون وسائل نقل، حديثة كانت أم بدائية! عودة رافقتها متغييرات كثيرة .. فحالما يقبّل الرفيق الأرض ويمسك الحجر ويشم الأشجار ورائحة الأرض، عليه أن ينسى إسمه الحقيقي ويستخدم إسما مستعاراً أو كنية ما (ابو فلان).
ولكثرة الاسماء المتشابهة يطلق على البعض منهم باسم السرية التي يعمل فيها او الفوج او المنطقة او الشكل وغير ذلك من الاسماء: مثلا سلام دو اي الثاني لان نصيراً بهذا الأسم كان موجوداً قبله، وسامي دريشا يعني سامي الطويل، وابو جاسم الفوج للتعريف بأنه يعمل في الفوج و رياض قرجوغ أي رياض من قاعدة قرجوغ وهكذا .. وكان هذا الإجراء مهما لظروف العمل السري وصيانة لعائلة النصير وذويه.
ويرافق التعود على الإسم المستعار، حاجة التعلم على السير في أراض وعرة وحمل السلاح في مناطق جبلية شديدة الخطورة وفي الظلام الدامس الذي يقي النصير عيون العدو المدجج بكل أنواع الأسلحة حد أسنانه.
وكان على النصير أن يتعلم كيف يبصر في الظلمة، وكيف يتخلى عن ملابسه وفرشة أسنانه وسرير نومه وحذائه الواقي، وكيف ينسى عاداته اليومية في قراءة الصحف والكتب وسماع فيروز وتناول الطعام في أجواء الحب بين الأهل والأحبة.
وكان على النصير أن يذكي جذوة الحماس فيستبدل أغاني الحب بأغاني الثورة والكفاح، وذكريات الحب وقصصه وشجونه بقصص الثوار في ارجاء المعمورة ومآثرهم وبطولاتهم، مواربا باب النسيان على أي حنين لدفء العائلة والزوجة والأبناء والأهل، لمقاعد الدراسة والمكتبة، للمقاهي والمنتزهات، للصحبة وأماسيها وحواراتها، كل ذلك كي لا يبعده شيء عن المهمة التي نذر نفسه لها، إنتصار القضية التي آمن بها، وتبنى فكرة التضحية من أجلها، من أجل الحزب الذي يحمل هذا الفكر النير، الذي يقود الى سعادة الناس وعدالة حياتهم، ومن اجل اطفال ينعمون بحياة جميلة تضمن لهم مستقبلا مشرقاً.
لقد استقبلت كردستان شباب وشابات الحزب وهم في عمر الزهور بين 18 الى 30 سنة، وقضوا فيها أحلى وأجمل سنوات حياتهم، وهم مفعمين بحلم النصر لحزبهم وشعبهم. كانوا من مختلف المهن والمكونات، يحملون مختلف الأحلام والأماني، ويجمعهم هدف الوصول الى الوطن العزيز الذين فارقوه فترة من الزمن.
نعم تغير نمط الحياة لدى هؤلاء الى حياة اصعب واكثر مشقة، في كل شيء، الاكل والإغتسال والنوم. التعامل مع الطبيعة بجميع اشيائها ومنها التعامل مع البغال وباقي الحيوانات وحتى الحشرات والأفاعي والعقارب والطيور. كان عليهم تحمل العطش لفترات طويلة، وكان أرواء الظماً يتم غالبا من مياه الينابيع، التي لم يكن ماؤها صالحا للشرب دوماً، أو من مياه المستنقعات والبرك الأسنة، حيث الطحالب والأعشاب والفطريات التي تغطي سطح البرك.
البعض من الرفاق لم يكن يعرف ظروف حياة الأنصار، فجلب معه ملابس مدنية (بدلات وأربطة عنق ملونة)، وبعضهم جلب هدايا ولعب أطفال. يكتب الروائي زهير الجزائري عن تجربته في الأنصار فيقول:
( من عواصم الدنيا يأتي الى محطة الحدود ملتحقون جدد، بدأوا قبل ايام قليلة بإطلاق شواربهم ولحاهم .. اغرار هيابون، يقلقهم حشد من الاسئلة المخجلة، هل يستطيع انسان مثلي، وبهذا الجسد المترف، مقارعة الجبل؟ كيف تكمن الحياة بدون كراسي ولا مصابيح كهربائية؟ اين يستحم الإنسان في الجبل ؟ كيف تكون الحياة بدون معاشرة النساء؟...الخ. رفاقنا القادمون من الجبل لن يتركونا عزل امام الهواجس والأسئلة. فقد تحلقوا حولنا يشدون حقائبنا وحمالات السلاح على اكتافنا ويعرضون خبراتهم بحب ومباهاة. فالقادم الجديد مدلل بينهم كالوليد الأول، ساذج ومحبوب، يسأل ويستمع بعيون مستديرة كعيون الاطفال، لا يباهي بشيء غير الرقة التي حملها من المدينة، اليه يتقدم اكثر من ناصح خبير. ونذهب الى الجبل الغارق في الغيوم ، كتلة من الغموض والأسئلة. ( [1]
لقد اصبح الرفيق (النصير) حرا في هذه الأرض، حيث ابتعد عن أجهزة القمع وجلاوزة النظام وصار يعمل وفق قناعته والفكر الذي يحمله، فقد وصل من أماكن ودول كثيرة، وترك دراسته وجامعته حيث كانت الحياة الهادئة والمستقرة والتحق بصفوف العمل الأنصاري ورفع السلاح بوجهه النظام الدكتاتوري وبدأ الكفاح المسلح، وعاش سنوات نضالية ممتعة ومتعبة، فقد تعلم منها الكثير، وامتلك علاقات جديدة بما فيها مع الفلاحين في القرى، وتوطدت ثقته بنفسه وبالحزب. وشارك في هذا النضال المشرف مختلف فئات الشعب وقومياته وطوائفه، ومن مثقفين وموظفين وعمال وفلاحين وأكثرهم طلبة في عمر الزهور جاؤا فرحين لخوض غمار هذا النضال.
هكذا انهمك الشيوعيون في تربية وإعداد انفسهم، وهم بعيدون عن الحياة وتفاعلاتها وتطوراتها المتسارعة، وتفجرت الطاقات الكبيرة المغروسة في نفسيتهم وأرواحهم ليضحوا بأغلى سنوات عمرهم في سبيل قضية امنو فيها.
1- زهير الجزائري الثقافة الجديدة 163 ايار اوراق جبلية