مدارات

أيام مفعمة بالحب والأمل ...(3) / فيصل الفؤادي

لمحات من حياة الأنصار
عبر مسالك وعرة في الجبال، وبحذر شديد كان الرفاق من مدن العراق المختلفة، يلتحقون بحركة الأنصار لينهوا ما كانوا يعيشوه من قلق كبير ودائم ووضع نفسي متعب، محققين أملهم بلقاء الرفاق والحزب والتخلص من الامن ومخابرات النظام وجلاوزته.. تتجاذبهم مشاعر الخوف والأمل وهم يتنقلون من مدينة الى اخرى، ومن ناحية الى أخرى وأخيرا من قرية الى اخرى. وقد لعبت مجموعة من الرفاق الذين شكلوا مفارز متجولة مع الأحزاب الكردستانية ومنها الحزب الإشتراكي في كويسنجق دورا مهما في وصول هؤلاء الرفاق الى قواعد الأنصار. ولم تمر كل محاولات التنقل بسلام وامان، فقد تم القبض على بعض الرفاق الذين التحقوا بالأنصار ودفع الكثير منهم حياته ثمنا لتلك المحاولة.
سيراً على الأقدام لأيام عدة، يصل الرفاق من الخارج، وخاصة عبر القامشلي ثم تركيا وقراها. وقد تمتد الرحلة لأكثر من ذلك اذا كان هناك بين القادمين رفاق مرضى او كبار في السن. وقد أمتد طول الرحلة لأسابيع لاحقاً، بسبب تعقد الظروف الأمنية في تركيا. وكانت المسيرة شاقة، تمر عبر انهار وجبال ووديان ومسالك حجرية وعرة وغابات مقفرة. ولتخفيف المعاناة، أنشأ الرفاق محطة في وسط الطريق، تمثلت في كهف مهجور، وضعوا فيه بعض الأرزاق من طحين ومعجون ودهن وصاج لعمل الخبز وغير ذلك من المواد الضرورية، وقد سمّي الكهف بمحطة حجي كامل، ثم تولاها الرفيق الراحل أبو حربي فسميت بمحطة أبو حربي.
مجموعة من الرفاق الذين خبروا الطريق الرابط بين الحدود السورية والقرى العراقية، والذي يمر عبر مسالك طويلة وصعبة، تبنوا وبمساعدة أدلاء من أبناء المنطقة، مهمة نقل الرفاق من الخارج، في وجبات متتالية. وكانت المهمة رغم صعوبتها وخطورتها الشديدة، مثار إعجاب للجميع، وحافزاً يرفع المعنويات ويشد من العزائم لمواجهة الصعاب. عن هؤلاء يكتب الروائي الجزائري فيقول:
(ساعة الدليل هي صفحة السماء المتقلبة .. سحابة رصاصية ثقيلة تضيق عليه الزمن، فيستحدث الخطى الى اقرب مغارة، ويطارد الضوء حتى محطته الاخيرة، وساعته على الأرض هي المسافة بين عين ماء وأخرى .. فقد تعلم الدليل من غدر الطبيعة ان يحيل كل ما هو قادم الى ارادة الخالق، لن ترى دماثة الدليل والابتسامة إلا عند عين الماء).
وعلى طول الحدود العراقية الفاصلة بين كردستان وسوريا وتركيا وإيران، كان للرفاق محطات بريد وتنقل، لتسهيل مهمة نقل الرفاق والسلاح والبريد عبر قواطع العمليات وفي المقرات المختلفة شمال دهوك واربيل والسليمانية.
كان الدخول الى الوطن بالنسبة للرفاق، لحظة فاصلة بين زمنين، فكان منهم من يقبل الأرض ومنهم من يبكي ومنهم من يجلس متآملاً، وراح العديد منهم يسجل في دفاتره هذه الذكرى وما تصاحبها من خلجات الألم والأمل!
(وصلنا اعلى القمم فتفتحت حولنا السهول والمسافات، التفت اليً اقرب الادلاء وقال: أوهه عراق (هذا هو العراق)! قالها بلا مبالاة وهو يشير بإصبعه الى واد عميق أجرد. ومضى في طريقه. فبالنسبة لمن عبر هذه الجبال مرارا ما عادت الحدود بين الدول تعني بمقدار ما تعني الحدود بين الجبال! شيء ما خفق في الروح ونحن نطابق كلمة العراق التي قالها الدليل في هذا الوادي الجرد .اردنا ان نستحضر ثقل المنفى ونحن نضع الخطوة الاولى على أرض الوطن دونما جوازات سفر. خطر لنا ان نقبل حفنة من التراب ) .
لم يكن معظم الأدلاء وفي أغلب الأحايين، ليقولوا الحقيقة عن طول السفر والزمن الذي يتطلب لقطع مسافاته، وذلك إشفاقاً على هؤلاء الفتية الذين يعيشون تجربة السير في هذه الطبيعة الوعرة لأول مرة في حياتهم، وهكذا عندما يقولون ساعة او ساعتين، فإن ذلك لا يعني 60 او 120 دقيقة بل قد يعني نهارا كاملاً!
كان الدليل، في الغالب، شخصاً يذكي جذوة المعنويات ويتجنب إحباط الرفاق، يعرف مكان المخاطر والمناطق الأمنة والينابيع والكهوف (الشكفتات) مسالك المسير ومطباته ومخارجه.
أول من يلتقيه الأنصار في رحلتهم، هم ابناء القرى المنتشرة على طول الطريق، وعلى ضوء الإستقبال الحافل لهؤلاء تبدأ قصة التفاعل الشخصي والنفسي مع الجماهير التي لولا دعمها ما كان للثورة أن تتواصل وتتطور.
ومن البدايات المهمة أيضاً، إرتداء النصير لملابس جديدة تختلف اختلافا كليا عن ملابسه التي إعتاد ارتدائها. إن عليه الأن أن يلبس البدلة الكردية التي تتناسب مع الجبل، حيث يكون السروال عريضاً بما يلائم الصعود والنزول والمشي، وحيث كوفيه الرأس أو ما تسمى بالكردية بالجمداني، ومن ثم حزام الوسط (ويسمى بالكردية البشتين)، الذي يضغط على عضلات البطن والظهر فييسرعملية تسلق الجبال. والبشتين هو قطعة قماش، عرضها حوالي متر وطولها بين 6 الى 10 امتار.