مدارات

أيام مفعمة بالحب والأمل ...( 5 ) / فيصل الفؤادي

النصيرات
عانت النصيرة مثل أخيها النصير من مشاق التجربة، وكانت معاناتها ربما مضاعفة، بحكم تركيبتها الفسيولوجية والبدنية، إضافة الى ما تحتاجه من ملابس ومستلزمات خاصة بالنساء. لكن تلك الصعاب لم تثن عشرات الطبيبات والمهندسات والمعلمات والفلاحات والعاملات والطالبات وغيرهن من المساهمة مساهمة جادة ومتميزة، حضيت بإحترام ليس رفاقهن فحسب بل وباقي المقاتلين والبيشمركة واهالي القرى.
لم يكن حمل السلاح بالنسبة للمرأة المناضلة أمراً جديداً في العالم، ولكنه كان جديدا في العراق وبهذا العدد المتميز. وجاء ذلك مع توجه الحزب الى الكفاح المسلح وخوض النضال في الجبال، وإنسجاماً مع إيمان الشيوعيين بدور المرأة وقدراتها. لقد إمتشقت النصيرة السلاح وتحملت المسير لساعات طوال في جبال شاهقة ووعرة وفي وديان جرداء وغابات موحشة، وتغلبت على قسوة الظروف الطبيعية من الحر والبرد، من العطش وحمل الإثقال كالشواجير والقنابل والمؤن الشخصية والحاجات الضرورية.
كانت المفاهيم مختلفة، بين ما يؤمن به أغلب الشيوعيين وما يراه مقاتلو القوى الأخرى وبعض القروين، ممن حاولو، لاسيما في البداية، استصغار دور النصيرات. لكن قدرتهن على تجاوز الصعوبات الجمة التي واجهتن، ونجاحهن في مساعدة الحزب والرفاق وأبناء المنطقة في الجانب الطبي والإعلامي وتعليم القراءة والكتابة والتوعية بمفاهيم الحياة واحترام الإنسان، وذلك في بعض المدارس التي أفتتحت في المقرات لهذا الغرض وتم فيها تعليم الاطفال اناثا وذكورا القراءة والكتابة في صفوف بسيطة التجهيزات. وكانت خدمة النصيرات للفلاحين الأكراد في الجانب الصحي كبيرة جداً، تمثلت في عمليات التوليد ومعالجة النساء من الأمراض المزمنة و المعدية وغير ذلك من جوانب الحياة الخاصة بالمرأة.
لقد رفعن من معنويات الأنصار والبيشمه مركة بصورة عامة وكذلك جماهير المنطقة وحتى الأحزاب الاخرى. كما دحضن بتجربتهن ومشاركتهن في المعارك التي خاضها الأنصار، الافكار الجامدة التي لا تؤمن بدور المرأة النضالي في الجبل، وصرن بحق محط اعجاب الجميع. والى جانب صعاب البعد عن الاهل والاحبة، خسرت العديد من النصيرات المتزوجات فرصة الإنجاب مضحيات بغريزة الأمومة الغالية، وكانت هذه بحد ذاتها تضحية كبيرة.
لم يكن يبتغن من كل ذلك سوى تحقيق طموحهن في حب الناس وخدمتهم وتحقيق حلم الفقراء من الفلاحين وابناء الشعب العراقي بصورة عامة، دون أن يفكرن بذاتهن أو بأبناء يحملون إسمهن ويتحدثون عن نضالهن وتضحياتهن، هكذا تحملن وعانين بما يفوق التصور، انها القناعة بالفكر الذي يتبناه الإنسان!
(وقد دللت مشاركة المرأة انها ذات اهمية لعموم الحركة ولنشاط الفصائل بين جماهير المنطقة وتنوير الجماهير بدورهن في خوض النضال والحصول على حقوقهن، واثر تواجدهن على الأحزاب والمنظمات الكردستانية الاخرى).
ان صور الحياة واشكالاتها التي مرت على كل واحدة من النصيرات، كان لها طعم خاص ونكهة متميزة، كما كانت تحمل العبر واللوعة واحيانا الفرح الذي يغرس جذورهن عميقاً في النضال من اجل هؤلاء النسوة المظلومات في قرى وارياف كردستان.
يشير النصير خالد صبيح في كتاباته الالكترونية:
" لقد تحدين السطة الدكتاتورية وكذلك التقاليد الاجتماعية السائدة
في بلادنا إضافة الى ما ذكرنا من مصاعب طبيعية، وسجلن تاريخا ناصعا لحزبهن وشعبهن. العلامة المميزة للحركة هي وجود العنصر النسوي فيها. فقد انخرط في الحركة عدد جيد من النصيرات الشيوعيات وبمحض إرادتهن. وهؤلاء النصيرات كن خليطا من بنات المدن العراقية المختلفة وان غلب عليهن العنصر العربي. وكان من بينهن الفنانات والمسرحيات، وهن بعمومهن كن من المتعلمات وكان اغلبهن قد التحق بالأنصار مع أزواجهن وبعض منهن تزوجن هناك من أنصار كانوا معهن في الحركة وشكلوا أسرا وأنجبوا أطفالا صاروا الآن شباب وشابات ناضجين.
أظن أن السبب الرئيسي وراء وجود النصيرات والانصار, هو تشكيل الحزب لقواعد الأنصار وجعلها موقع وسيط بين الخارج والداخل ، الذي اضطر معظم التنظيم الحزبي الالتجاء إليه بعد فشل التحالف مع البعثين.
فقد شكلت كردستان ملاذا للكثير من أعضاء التنظيم الذين لم يكونوا قادرين على البقاء في الداخل، وكان بينهم عدد كبير من الشيوعيات. أما لماذا ابقي بعض منهن في الجبال ولماذا لم يتم إخراجهن للدراسة في الخارج، فهذا أمر غير واضح تماما ألان. لكن بعض المؤشرات قد تجيب على هذا التساؤل. فقد كانت هناك وجهات نظر بين القاعدة الحزبية وبعض القياديين تدعو لتعزيز الكفاح المسلح وتحويله إلى الإسلوب الرئيسي في العمل السياسي، وبين حاملي وجهة النظر هذه , نصيرات آثرن البقاء والعمل على الخروج والدراسة. كما أن هناك بعض التوجهات لدى الحزب لاسيما بعد عام 1982 تدعوا للتوجه إلى الداخل، وكانت النصيرات من بين من يخطط لإعادتهم للعمل الحزبي في الداخل بطبيعة الحال. وفعلا قد تم إعادة بعض النصيرات وقد استشهد من بينهن نصيرتين هن (أم ذكرى وأم لينا) إضافة الى استشهاد النصيرة انسام (موناليزا امين) في كمين للاتراك على الحدود العراقية التركية (قرية زيته العراقية وكلي عادل بيك) ودفنت في القرية التركية القريبة من الكمين".