مدارات

أيام مفعمة بالحب والأمل ...( 6 ) / فيصل الفؤادي

ــ العلاقة مع الريف الكردستاني
كانت التجربة جديدة وفريدة بالنسبة للأنصار القادمين من خارج الريف الكردستاني، وخاصة المدن العربية، حيث لم يكن هؤلاء الأنصار ليفقهوا شيئا من اللغة الكردية، وكانت بعض التقاليد المجتمعية غير واضحة لهم. وتمثلت فرادة التجربة بنجاح هؤلاء بإقامة علاقة وطيدة وجيدة مع الكثير من المواطنين الذي عاشوا ظروف الحياة الصعبة مع الأنصار وتقاسموا شظف الحياة معهم.
لقد استقبل اهالي القرى النائية الأنصار والبيشمركة بكل ترحاب، وتجابوا مع الثورة والثوار رغم ماكانوا يعانون منه من نقص في أبسط مستلزمات الحياة. وكان ذلك نتيجة للسمعة الحسنة التي تركها الأنصار والبيشمركة الأوائل إبان الستينات والسبعينات من جهة ولبشاعة القمع الذي مارسه النظام الدكتاتوري ضد الفلاحين من جهة مكملة.
شارك الأنصار الفلاحين أحزانهم وأفراحهم ودافعوا عنهم وساعدوا الفقراء منهم مساعدات مادية وعينية وخاصة توفير الطعام كالطحين والرز وغير ذلك، وقد قام الفصيل الذي كنت اعمل فيه بنقل الطحين والدهن الى منطقة برواري لمساعدة الفلاحين الفقراء.
ولم تكن العلاقة إيجابية على الدوام، حيث وجد فلاحون معادون للثورة والبيشمركة والأنصار، لا يستقبلونهم كضيوف، ويسعون لأبعاد الجماهير عنهم. وفي الوقت الذي كان رد الأحزاب القومية الكردية على تصرفات هؤلاء، وأغلبهم من أزلام الدكتاتورية، عنيفاً ، كان رد رفاقنا لينا وسلميا في مسعى لفضح هؤلاء وشرورهم أمام الجماهير. لكن ردنا لم يكن دوما هينا، فقد مارس بعض الأنصار القوة مع هؤلاء العملاء، وكانت القوة ضدهم نافعة، حيث كانوا يبدون بعدها أقصى درجات الإحترام لمفارزنا. وقد ذكر أحد اصدقائي وهو من حزب حليف بأنهم دخلوا لعدة مرات الى البيوت فإدعوا أن لا أكل لهم ليستضيفوا المفرزة، ولكن الأمر كان يتغيير دوما حالما تظهر العصا في أيدي القادمين!
يشير النصير خالد صبيح في كتاباته عن هذه العلاقة:
" تجربة الأنصار الشيوعيين في كردستان العراق، هي وجود أنصار من قوميات مختلفة، وبالتحديد العرب، الذين قدموا من مدن العراق العربية المختلفة. وقد تأرجح الموقف من هؤلاء وبالتالي السلوك ازائهم من موقف لأخر ومن خلفية لأخرى. لكن على العموم غلب الإعجاب بهذه الظاهرة الجديدة والجذابة على نظرة المواطنين وبعض عناصر القوى السياسية الكردية الذين رأوا ولأول مرة في حياتهم العربي يقاتل (حسب فهمهم) إلى جانبهم وليس ضدهم. وقد يكون هذا قد آسهم أو هكذا يفترض في تغيير مفهوم الصراع من قومي، كما تسعى لتكريسه بعض الأحزاب القومية الكردية، إلى اجتماعي وسياسي كما هو في حقيقته. وقد كان أبناء القرى الكردية البسطاء لاسيما في مراحل الحركة الأولى منبهرين بهؤلاء السمر(ره شه كان) القادمين من الجنوب والذين يتكلمون الكردية بركاكة وبلكنة عربية واضحة. وقد حظي الكثير من الأنصار العرب بمحبة واحترام أهل القرى ليس فقط لما قدموه من خدمات صحية وغيرها، فبعضهم كانوا أطباء وإنما لدماثة خلقهم وإظهارهم الاحترام والتقدير لأهالي القرى.( الكثير من أبناء قرى منطقة بهدينان سموا ابناءهم على اسم الشهيد د- عادل/ غسان عاكف حمودي، لما كان يقدمه بتفاني وتواضع من خدمات طبية وصحية لهم.
ومنهم أيضا من برز في المجال العسكري واستطاع أن ينسجم مع خشونة الحياة أكثر من غيره ويظهر بالمظهر الذي يفضله ويحبه الفلاحون، المقاتل الخشن والشجاع والماهر، كما هو حال
الرفيق الشهيد (عمار) في قاطع السليمانية، وهو رامي مدفع ماهر، حيث يروى أن رئيس مفرزة الفرسان (الجحوش أو الجاش) التي قتلته في المعركة، واسمه صالح، قد قام بدفنه بنفسه، بعدما تعرف على شخصيته. وقد نقل عنه انه قال (هذا رجل شجاع ويجب أن يكرّم).
طبعا وقعت بعض الإساءات في التعامل، من خلال التعبير عن موقف للعرب ولوجودهم من قبل مقاتلي بعض الأحزاب الكردية ومن بعض الشيوعيين لتعصبهم القومي ولإنعدام أو لضحالة الوعي لديهم".
نعم، تجاوب الأنصار مع بساطة الحياة وأقاموا علاقات متميزة مع الفلاحين، وشاركوهم في اليسر والعسر، وصار طبيعيا تبادل الدعم بين الطرفين. ثم تطورت العلاقة الى حد المصاهرة، فتزوج بعض الأنصار من بنات القرى، مؤكدين عمق العلاقة . كان الارتباط الروحي بين الفلاحين والأنصار و (البيشمه مركة) قيمة معنوية للقوى العراقية والقومية المتواجدة في كردستان.
كانت عوالم القرية التي ندخلها عند مغيب الشمس جميلاً، حيث الحيوانات عائدة بلا دليل الى حضائرها، وحيث نباح الكلاب وخوار البقر ونقيق الضفادع وخرير مياه الينابيع. كنا نتوزع على البيوت، فيقدمون لنا ماجادت به أياديهم. وكثيرا ما كان الحديث يجري أثناء الطعام عن السلطة وقمعها وإرهابها والعمليات العسكرية ضدها وظروف الحياة التي يعيشونها، إضافة الى سعي الكثيرين الى التعرف على الشيوعية والإشتراكية وحلف وارشو والدول الإشتراكية والمتغييرات الجارية تحت شعار البيروسترويكا. وكانت دهشتهم كبيرة وهم يرون دعم موسكو عسكريا لنظام بغداد الفاشي، رغم معارضة كل الخيرين وفي مقدمتهم الشيوعيين لهذا النظام.
(قرية كوردية تصطف بيوتها الطينية على سفح الجبل، تتزاحم فيه اشجار الصنوبر مع اشجار اللوز والبلوط. قرية يحيط بها الجبل كحارس اسطوري دائم، هذه القرية بدت لكل أفراد المفرزة مثل ايه قرية يصلها الأنصار المتعبون خاصة في مثل حالتنا بعد ان حاصرنا مطر مفاجئ. كنا نتسابق كالاطفال للوصول الى بيوت القرية لنتوزع ضيوفا مألوفين، لنجفف ملابسنا وليقاسمنا الفلاح الطيب كسرة الخبز التي يملكها، وننعم بدفء قدح شاي وحديث طيب – يوسف ابو الفوز تضاريس الايام في دفتر نصير ص 133).
في أغلب الليالي كنا جياعاً حين نأتي البيوت، وفي أغلب الليالي كانوا يقابلونا بمحبة وتعاطف، معبرين عن أملهم بأن نحقق لهم ما يساعدهم على تجاوز الإضطهاد والفقر المدقع. وكانت معاناتهم حافزا لنا لمواصلة الثورة.
من دكاكين هذه القرى الفقيرة، كنا نشتري بعض إحتياجاتنا من سكائر وحلوى وجواريب وغيرها. كانت الجواريب التي عادة ما يحيكها اهالي القرى ويبيعوها، أهم مستلزمات الشتاء القارس.
ننام في الجامع عادة بعد الإنتهاء من العشاء، ويقوم الأنصار بتنظيم الحراسات المشددة وعلى ضوء بعد القرية او المنطقة عن السلطة او قربها. وأحيانا في الليل تغادر المفرزة القرية الى الجبال والوديان بعد ان تأخذ معها ما يسد الرمق خلال النهار، ويتكون على الأغلب من الجبن المخلوط مع بعض الحشائش والمّخزن لفترة طويلة، تعطية نكهة خاصة اقرب الى العفونة، وكان يسمى في القرى ـ الجاجيك ـ لكنا كنا نسميه الإستخبارات لعفونته، إضافة الى الخبز والشاي والسكر. وكان تجمع المفرزة في الجبل نهارا عند الينابيع أو قريبا منها، شرط أن تتواجد في المنطقة أشجار تقي المفرزة من الطيران وصخورا تصلح أن تستخدم كمتاريس عند حدوث هجوم مباغت من العدو.
اصعب شيء كانت قضاء حاجتك (التواليت)، فلم تكن هناك أية مرافق صحية في القرى، وكان الناس يخرجون الى الوديان او المزارع لقضاء حاجتهم، وكان علينا أن نفعل مثلهم. وقد لعبنا دوراً في التوعية الصحية وأقنعنا مخاتير بعض القرى ببناء مرافق صحية، وإن كانت بدائية، لتجنيب القرى ما كان يحيطها من فضلات ومصادر تلوث وعدوى.
وإضافة الى إيواء الأنصار في الليالي، كانت القرى عيونا لهم في النهار، ووسيلة دعاية لتجربتهم في البطولة والتضحية والشيمة والكرم الدائم والنخوة، رغم إن حديث الفلاحين عن ذلك لم يكن يخلو أحيانا من مبالغة. كان الفلاحون يتحدثون عن شخصية مناضلة، كانت تقود مفرزة تابعة للحزب الديمقراطي الكردستاني في منطقة دهوك، شخصية أسطورية أرعبت السلطة، رجل يدعى محمود يزيدي، ينتقل في الجبال بين كارة ومتين وزاخو وقراها، يقتل الجحوش وأزلام السلطة ثم يتوارى عن الأنظار، بشكل سريع وسري للغاية، وأحيانا تكون الروايات عنه مستحيلة إذ لايمكن أن ينفذ بنفسه وفي نفس الوقت عمليات ضد السلطة في مواقع متباعدة مكانياً. ويبدو إن حاجة الناس لبطل شعبي قد أعطت لمحمود اليزيدي الكثير. وعموما فقد أستشهد الرجل حين قتله حارسه الشخصي الذي تمكنت السلطة من شراء ذمته.
تصرفت السلطة بأجهزتها ومخابراتها وعملائها وجحوشها إزاء مواطنيها بوحشيه نادرة، من ظلم وقتل وإيغال في الحقد على الفلاحين الفقراء الذين يدعمون الأنصار والبيشمه مركة. ومارست التهجير القسري للقرى القريبة من مناطق المعارضة، وأحرقت الاف القرى ونقلت سكانها الى مجمعات سكنية تحت حراسات مشددة ومحاطة بأسلاك شائكة، وذلك من اجل السيطرة عليهم وتحركاتهم وتصرفاتهم وعلاقاتهم. كما دفنت بألإسمنت وسمّمت ينابيع القرى التي تسقي مزارع الفلاحين وقطعت الأشجار المثمرة وأحرقت البساتين. وهناك وثائق كثيرة تدين النظام الدكتاتوري وتشير الى ما استخدمه من قمع ضد القرى والقصبات الحدودية، إضافة الى إقامته لحزام امني حول تلك المناطق واستخدام الأسلحة التدميرية والغازات السامة والمحرمة دوليا ضدها!
وكان هدف سياسة النظام هذه حرمان الأنصار من المصدر الرئيسي في ديمومة الحياة وهي جماهير المنطقة وقراها والتي تمولهم بكافة متطلباتهم من الأرزاق الى الدعم المعنوي الى المعلومات حول تحركات الأجهزة الامنية والجيش والجحوش وعملائهم. وهكذا صار لزاماً عليهم قطع مسافات طويلة من اجل الحصول على ما يساعدهم في مهماتهم من الغذاء والماء وما يتوفر من الأرزاق. وتشير إحصائية رسمية بأن عدد المهجرين قد بلغ 750 الف من السكان، نقلوا الى مجمعات سكنية اعدت لهم مسبقا. وشكلت السلطة لجان خاصة لغرض جرد عوائل (الأنصار والبيشمه مركة) بقرار من مكتب تنظيم الشمال لحزب البعث العربي الإشتراكي برقم 3340 في 1/10/1987. هذا القرار الذي دعى الى ترحيل عوائل (المخربين) الى مناطق تواجد ذويها عدا الذكور بين 12 الى 50 عاما فيتم احتجازهم...الخ.
كما قام النظام بتهجير المواطنين من خلال ملء استمارة لكل مواطن في القرى والأرياف والنواحي. واعتقلت العديد من الشخصيات الاجتماعية والمواطنين، وأجرت حصارا على القرى والنواحي من الجوانب الاقتصادية والمعيشية والتعليمية والصحية وعزلها بشكل كامل، بغية أن يضطر المواطنون الى الانتقال لتوفير التعليم والرعاية الصحية لأبنائهم وأسرهم.
(كانوا ينزلون من ذرى الجبال
ويعودون اليها
يغذون السير
يخوضون في الوحل
والراية في المقدمة
جيش عاري الاقدام او بنعال جلدية
ودون سلاح تقريبا
جيش دون نظام ولكن دون فوضى
قادته لا يتقاضون رواتب كبقية المقاتلين
لم يرغم احد منهم علي القتال
الكل سواء رغم الرتب العسكرية
لا فرق في توزيع الطعام والملابس
الجراية ذاتها للجميع
القادة دون مرافقين
كان اشبه بعائلة منه بجيش
موحدا بالحب اكثر من الضبط العسكري
جيش فرح بقيثارات، بعناق وقُبل).
(من قصيدة ساعة الصفر للشاعر النيكاراغوي ارنستو كاردينال .. ترجمة ممتاز كريدي).
- كاردينال هو من ابرز شعراء نيكاراغوا ومن اهم مفكري امريكا اللاتينية وأصبح وزيرا في منتصف الثمانينات من القرن العشرين واضطر للاختفاء من ارهاب وتعسف دكتاتورية عائلة (سوموزا). يصف في قصيدته هذه (ساعة الصفر) بأسلوب ملحمي نضال واستشهاد (اغستو سيزار ساندينو) الذي رفع الكفاح الثوري المسلح في عام 1927 وكان على رأس جيش صغير من الأنصار ولكن اوعزت البحرية الامريكية الى عميلها (اناستاسيو سوموزا غارثيا) وحرسه القومي المدرب بالهجوم عليه، وتم لهم ذلك واعدم اغستو ساندينو ورفاقه الأنصار في شباط 1934، غير ان البذرة الثورية نمت وترعرعت وكانت الثورة الساندينية والتي اطاحت بالنظام الفاشي والعميل (عائلة سوموزا) الثقافة الجديدة عدد 163 ايار 1985 ص 145.
تتكون بيوت القرى النائية في المناطق المحرمة من الطين والجدران من الصخور ويبنى الاساس من الصخور الكبيرة وبينهم يوضع الطين المخلوط بالقش او التبن لكي يكون ترابط الصخور اقوى، اما السقوف فعادة ما تكون من سيقان الحور (السبندار). ويبني الفلاح عادة زريبة بسيطة او ملحق للمطبخ وكذلك يبنى حمام بسيط ومكان (اوجاغ) لتسخين الماء في القدور الكبيرة ويعزل بواسطة البطانيات.
الحياة في القرى وأرياف كردستان بسيطة ببساطة ناسها وطيبتهم غير المحدودة ، وكلما ندخل الى العمق الكردستاني نجد الاهتمام افضل والبيوت احسن بناء وأكبر، وهؤلاء ذوي امكانيات مادية جيدة ويعملون بتسويق الفواكه والخضروات والأمور التجارية الاخرى من بيع الاغنام او المواشي بشكل عام والقضايا التجارية الاخرى.