مدارات

أيام مفعمة بالحب والأمل -8- / فيصل الفؤادي

التحضير للعمليات العسكرية
تعتبر أراضي المناطق التي كنا نعيش بها محرمة حيث لا وجود للسلطة فيها. السيطرة دائما من قبل الأنصار والبيشمه مركة ولهذا اقام الأنصار العلاقة الجيدة مع القرى، وكان الفلاحون عيون الأنصار في معرفة امكانيات العدو وعدد جنوده وحتى وضع قواته، وفي نفس الوقت كان الأنصار والبشيمه مركة يدافعون عن القرية وناسها، لهذا كان الترابط مصيريا بين القرية والقوات المدافعة عنها.
كان المسؤولون الحزبيون والعسكريون لا يميلون الى اعطاء خسائر من الأنصار اثناء العمليات العسكرية من كمائن او اقتحام او السيطرة على ربيئة وغير ذلك من الفعاليات التي يقوم بها الأنصار. ولهذا تطلبت أي عملية التحضير الدقيق لها والسرية التامة. وعادة ما كانت تناقش بإستفاضة في مكتب السرية او مكتب الفوج أي من أشخاص لايزيد عددهم عن 3 الى 4 رفاق. ويتم اختيار الأنصار الذين سيشاركون في العمليات من ذوي الامكانيات العسكرية والجسدية ويبقى عدد المشاركين على ضوء حجم العملية ونوعيتها. في نفس الوقت يتم اختيار مجموعة قبل العملية لإستطلاع الهدف المطلوب، إضافة الى تهيئة السلاح ونوعيته والعتاد والتهيئة النفسية للأنصار. وبعد العملية يختبئ الأنصار في أماكن خاصة في الوديان والمغارات والتي تكون عادة أمينة ، لكي يرتاح النصير الذي اتعبه السهر والمشي والإرهاق..الخ
في العمليات عادة ما يطلق سراح الأسرى الجنود، فمنذ البداية علمونا بأننا لسنا ضد الجيش العراقي. ليس هذا فقط، وإنما لا يسجن الجندي بل يعامل كأسير. وكان هناك عدد غير قليل من العسكريين الأسرى، أذكر منهم الجنديين عدنان وموزان، من أهالي الديوانية، والذين تم أسرهما في ربيئة راوندوز وبقيا معنا حتى طلب احدهما الذهاب الى ايران والأخر رجع الى اهله، وكانت المعاملة طيبة معهم بحيث دهشوا لهذا التعامل.
في كمين كلي رمانة لقوات الأنصار في بهدنان ( دهوك) بقيادة الرفيق توما توماس (ابو جميل) وقعت مجموعة سيارات عسكرية تابعة للجيش، وحين أسر الجنود صاحوا (نحن إبخت فهد وإبخت الحزب، نحن جنود فقراء)، فما كان من الرفيق أبو جميل الا أن أعفى عنهم فذهبوا في طريقهم.
في احد أيام ذلك الصيف، نصب الأنصار سيطرة عسكرية للبحث عن أعوان النظام من مرتزقة أو مخابرات وغيرهم، وأيضا من اجل إثبات الوجود وتحدي النظام بشكل علني. وتم في هذا الكمين أسر مهندسيَّن فرنسيين يعملان في إحدى الشركات الفرنسية العاملة في العراق، ومعهما سائقهما العراقي الآشوري يوسف (أبو يعگوب كما سيلقبه الأنصار بتحبب في مكان أسره فيما بعد). بقي هؤلاء الأسرى فترة من الزمن، وكانو أحرارا في السرية، لان المنطقة بعيدة عن المدن إضافة الى انهم لا يعرفون الطرق. لاحقا جرت مفاوضات بين قيادة الحزب وجهات حكومية فرنسية بواسطة الحزب الشيوعي الفرنسي لإطلاق سراح المهندسيّن، ومقابل ذلك استضافت قناة تلفزيونية ومحطة إذاعية فرنسيتان، الرفيق الراحل الدكتور رحيم عجينة، القيادي في الحزب، ليعرض شيئا عن أوضاع العراق السياسية، ومعاناة الشعب العراقي في ظل حكم الدكتاتورية البعثية.
وفي أواخر الصيف ومع إطلالات الخريف الأولى، حيث تتغير حياة الأنصار ومهماتهم، تقرر إطلاق سراح الأسرى، ونقلوا حسب اتفاق مع الحزب الديمقراطي الكردستاني الإيراني (حدكا) إلى منطقة داخل الأراضي الإيرانية لضمان تسليمهم إلى السلطات العراقية (كانت هناك مخاوف من أن يقوم النظام بتصفيتهم ويتهم بهذا المعارضة لتشويه سمعتها)، ومن ثم إرسالهم إلى فرنسا.
" كان الأنصار يستهدفون بشكل أساس أفراد الأجهزة الأمنية ومنتسبي الحزب الحاكم وبعض أفراد الجيش الشعبي ومنتسبي جهاز الإستخبارات في الجيش. وهؤلاء يتم البحث عنهم غالبا في السيطرات التي ينصبها الأنصار على الطرقات بين المدن. وحين يعثر الأنصار في هذه السيطرات على جنود عائدين بإجازات دورية، يتركونهم لمواصلة طريقهم بعدما يجري التحقق من هوياتهم من خلال الوثائق التي يبرزوها، ومن بعض الأسئلة السريعة التي تطرح عليهم، ومن يتأكد انه ليس من منتسبي الإستخبارات يترك وشانه دون أي إزعاج أو مضايقة.
نشاط وسلوك الأنصار يمكن إيجازه باختصار بأنه لم يتقصد إيذاء أفراد الجيش النظامي، كما أراد أن يوحي من أراد تشويه هذه الحركة، ولم يقم بإيذاء أبرياء بجريرة مذنبين بأي شكل من الأشكال، ولم يقم كذلك بعقوبات جماعية. وتركز جهد الأنصار على حماية المواطنين من شرور الأجهزة القمعية بكل صنوفها، ولهذا فتجربة الأسرى أو الرهائن، جانب مشرف في حياة الأنصار والحركة السياسية العراقية ومنها الحزب الشيوعي العراقي". ( من مقالات النصير خالد صبيح الالكترونية).
طيلة سنوات الكفاح المسلح قام الأنصار بمئات العمليات والمعارك الصغيرة والكبيرة، وقدموا بطولات نادرة، وقد استشهد الكثير من هؤلاء الأنصار في هذه المعارك، كما واشتركت النصيرات في بعض العمليات. فرحة كبيرة كانت تغمر النصير حال سماعه بأنه سيشترك في عملية عسكرية، لأنها كانت تعلي من معنوياته وتشير الى مستوى الثقة التي يتمتع بها لدى رفاقه وقادته، كما كانت تعززت مكانته بين الجماهير، حيث تجد الفرح على وجوه الفلاحين وجماهير القرى التي يزورها الأنصار بعد أي عملية لهم، فيحضون بالحب والاحترام.
( في قلب الليل المظلم عرف البيشمه مركة الدروب الخطرة، مع وجه الليل كأنه يعشقه، اذ عرف كمائن الجيش، وكل ما يتحرك من قوات الدكتاتورية لتوقعه في طوق او كمين، كان البيشمه مركة يتجنب احيانا المعركة التي يريد ان يفرضها عليه العدو حيث إنعدام العدة والعدد والعتاد، ولذلك يفضل الانسحاب الى مناطق يمكن أن تكون المعركة فيها لصالحه، وغالبا ما يقوم البيشمه مركة بتأدية العمليات العسكرية في وقت الغروب تجنبا لمشاركة الطائرات لصالح الجيش في المعركة، وغالبا لا يتحرك الجيش في الليل، لان ذلك يكون لصالح البيشمه مركة في توجيه ضربة عنيفة له، فالبيشمه مركة والليل متوحدان سواء في الهزيع المتوسط من الليل او الاخير. البيشمه مركة رواد الليل يتحركون ببطء او بسرعة لكن بهدوء ويتجولون في اناء الليل ويبحثون في المناطق السهلية عن مأوى يختبأون فيه في النهار ويعاودون الخروج في الليل. وحين يلوح الفجر او نجمة الصباح، يبقى في اختبائه، بسكون جاثم بروعة وجمال العالم الطبيعي .. فقد عرف البيشمه مركة كل الاشياء على الأرض وعرف الصحبة الخالدة معه، ذات ليلة من ليالي جنون الشتاء، راح البيشمه مركة يسير في طريق مظلم فيه الرعب والجلال والفخامة وروحه كانت متقدة حرة المحنة الشديدة، تتسم برفرفة غامضة غريبة تبعث على الانتباه، فوقع في كمين للجيش واستشهد باعثا الألم على دأب مماثل من الكلمات، تتدفق سخية كل يوم تتدفق دون انتظار وترقب ننشد انغام الوجود لمواصلة الكفاح برابطة أواصر الالفة التي تنحدر الدموع معها ، صافية حزينة في وجه الليل، في قلب الليل). (عند قمم الجبال ,حمودي عبد محسن ص 150)
في بداية تشكيل المفارز، كان الأنصار يتسابقون على الإلتحاق بها برغم عدم توفر السلاح الكافي، وكان البعض يغضب إذا ما كان إسمه غير موجود في هذه المفرزه او تلك. وهنا يصف النصير كاميران كيف كان الأنصار يتسابقون الى النزول للعمل في الداخل اي الى المدن والقرى القريبة منها.
" كان بعض الرفاق في المقرات في حيرة من الأمر ... ألا وهو الشروع في النزول في أول مفرزة والى العمق الجغرافي والعسكري والمحفوف بالمخاطر ومجابهة العنجهية والعقلية العسكرية العراقية، والقسم الآخر من الرفاق يحسدوننا على ما نتجرأ القيام به ! ليس لكونهم غير راغبين بالقيام في مثل تلك المهمة! وإنما الواقع المفروض كان بذلك الشكل .. أي قلة السلاح المتوفر لدينا وحتى أعمار الرفاق لكونهم كبار في السن ووضعهم لا يساعدهم في تحمل الظروف العصيبة وتجاوزها، أما القسم الآخر من الأنصار والبيشمركة، وهم يجولون ويتضاربون ويضربون ويفركون بأياديهم وأكفهم ويركضون هنا وهناك ويراجعون المسؤولين، رغبة منهم في المشاركة في المفرزة ومتحمسين للمهام الموكلة اليهم. وهم قادرين بدنيا لتحمل كل الأمور والمستجدات! إلا أن الواقع والاتفاق كان على العدد المحدود من البيشمركة وذلك من أجل تجاوز الإشكالات وتنفيذ الخطة بدقة متناهية ، لكون أي خطأ، حتى ولو كان صغيرا قد يؤدي بحياتنا ومن ثم الندم لا يفيدنا".
قام الأنصار بمئات العمليات المشتركة مع الأحزاب الاخرى في جبهة جود (الجبهة الوطنية الديمقراطية) او جبهة جوقد (الجبهة الوطنية القومية التقدمية). وقدم الشيوعيون مآثر وملاحم بطولية وعمليات جريئة. وقد اشرنا لها في كتابنا (من تاريخ الكفاح المسلح لأنصار الحزب الشيوعي العراقي ). ويمكن التأكيد على أن هذه العمليات تتوزع بين اقتحام ربايا او إقتحام أهداف معينة في الناحية او المدينة ومنها مقرات للنظام وكذلك قصف افواج او كمائن او توزيع نشريات الحزب وأدبياته.وكذلك اقتحام جامعة صلاح الدين والمعالم المعروفة. لقد كلفتنا بعض العمليات الكثير، حيث استشهد عدد غير قليل من الأنصار، بسبب عدم الانضباط او ترك مكان الموقع او التسرع او عدم اللامبالاة وغيرها. وتجلت البطولات الكبيرة أيضا عند هجوم قوات النظام على المقرات، وبإمكانيات عسكرية كبيرة وأسلحة متطورة. والى جانب الأنصار البواسل، كانت تشترك المقاومة الشعبية في بعض العمليات حين يتواجدون في القرى القريبة من مقرات وقواعد الأنصار والبيشمه مركة المستهدفة. وعندما ياتي الطيران الحربي والهليكويتر المقاتلة ينتشر الأنصار بين الصخور والأحراش لعدم وجود الأسلحة الجوية المضادة بالعدد الكافي (سام 2). اما في المقرات فتوجد مضادات جوية تقاوم الطيران والذي يلوذ بالهرب عندما يرى هذه المقاومة.