مدارات

في المشكلة الطائفية / د. فالح عبد الجبار. الجزء الثاني

الدراسات الغربية حول تسييس الهويات الدينية الجزئية ( الطائفية) في العالم العربي - الإسلامي، تتكاثر في الغرب منذ عقد أو نحوه، بدرجة لافتة، بالمقارنة بفقر أو انعدام مثل هذه الدراسات على الصعيد العربي. هذا التكاثر هو انعكاس لاحتدام وانتشار التسييس الحادّ (وأحياناً العسكرة) للهويات الدينية الجزئية (لطائفية)

Identities-sub communal or setarian

، وما ينجم عنها من مشكلات سياسية، واجتماعية، واقتصادية، وأمنية، بالغة التعقيد، ذات طابع وطني وإقليمي عالمي.

ثانياً: الطائفية المسيّسة اليوم
في مبتدأ هذه الورقة وصفنا علاقة الدولة المركزية الحديثة في المنطقة العربية بالجماعات المذهبية بأنها علاقة اشتباك  توافق، وهذه العلاقة سوية مع عوامل أخرى، إنما تحدد لنا المنابع الكامنة لتسييس الهويات الطائفية، نعني مصادر تحويل هذه الأخيرة من هويات ثقافية صرف إلى هويات سياسية - أيديولوجية، تحلّ محل الأيديولوجيات الحديثة في الفضاء السياسي - الفكري العربي وخارجه أيضاً. لكن تحديد المنابع الكامنة للتسييس لا يفسر هذا التسييس بالمرة، فهذا التسييس ظاهرة حديثة تماماً.
منهجية دراسة الطائفية المسيّسة ينبغي أن تتمحور ولكن لا تقتصر أبدا حول "الدولة كفاعل أساسي لجهة وظائفها وسياساتها وتوجهاتها" بقدر تعلق هذه الوظائف والسياسات بالعلاقة بين الدولة والجماعات المذهبية (بل حتى الإثنية). فهي أولاً دولة مركزية تنزع إلى نقض وتجاوز واحتواء كل القوى الجزئية ، وإلى تعميم الإدارة والقوانين وأجهزة التعليم الحديثة، فضلاً عن الاقتصاد المتمركز، كما تتميّز الدولة الحديثة عن الدولة السلالية السابقة بتوفرها على أجهزة اتصال ومواصلات وتقنيات ضبط وسيطرة ذات فاعلية هائلة. حسبنا الإشارة إلى أن سجلات وإدارة إحدى الدول في مطلع القرن العشرين كانت تنتقل على البغال مع قافلة الأمير الحاكم أينما رحل من بلدة إلى بلدة، أما اليوم فإنها تستقرّ في مباني وزارات ضخمة ومتشعبة. وقبل اليوم، كانت وظائف "الدولة" (من سلطة الإمارة، إلى السلطان أو الشاه، إلى الأمير المحلي) تقتصر على الحماية من الخطر الخارجي، وجباية الضرائب. أما اليوم، فإن الدولة الحديثة تتغلغل في كل مناحي الحياة: الاقتصاد، السياسة، الدفاع، الأمن، الصحة، التعليم، الإعلام، السياسة الدولية، وهلمجراً.
نحن نرى كما اشرنا أن الطائفية كحدود ثقافية للجماعات كانت سابقة لنشوء الدولة الحديثة، أما التسييس فهو ظاهرة جديدة بدأت نذرها الأولى في أواسط سبعينيات القرن المنصرم(1)، واكتسبت زخماً هائلاً بعد صعود الإسلام السياسي والثورة الإيرانية عام 1979، وبلغت مدى هائلا من التسييس والعسكرة بعد الاحتلال الأميركي للعراق، فتغلغلت في الإطار الإقليمي، ثم اندفعت في اتساع في بعض بلدان الربيع العربي، لتعزز بدورها الاتساع الإقليمي للظاهرة. وبينما نركز على دور الدولة الحديثة كعامل أساس، ينبغي من الناحية المنهجية إدراج دور الإسلام السياسي، سواء تجلى هذا في شكل حركة أو دولة، في تحويل علاقة الاشتباك-التوافق إلى حالة اشتباك مستديمة، وعليه فان الإشكال يقوم على هذين الفاعلين بالدرجة الرئيسة، من دون استبعاد حزمة عوامل أخرى.
في ما يلي محاولة لتحديد منابع تغذية التسييس الطائفي المتطورة بصيغ مختلفة تبعا لاختلاف المكان. ونقول "منابع" وليس عوامل، لان هذه المنابع لا تنطوي بذاتها على حتمية تسييس الظاهرة، بل تنطوي على عناصر قابلة للتسييس، أي عناصر كامنة، تملك إمكانية مضمرة، ليس لها طابع الضرورة. "و نحدد هذه الحقول بتسعة حقول أساسية تحتل فيها علاقة الدولة بالجماعات المتباينة دينياً - مذهبياً "مركز ثقل كبيرا"، من دون استبعاد العوامل الأخرى الإقليمية - العالمية. ويمكن تحديد هذه الحقول الفاعلة في تغذية وتحويل الهويات الثقافية للجماعات إلى هويات طائفية مسيّسة، وتجزيئية، ومهلكة، على النحو التالي، تبعا لتطورها المتسلسل في الزمان، مع ملاحظة أنها مشتركات عربية، متفاوتة في الشكل والدرجة. وفي ما يلي خطوط عامة إيضاحية لكل حقل مرتبة بحسب "درجة أهميتها عند الفاعل الاجتماعي"، اعتماداً على مسوحات ميدانية لحالات "التظلم الطائفي"  في عدد من البلدان العربية(2):

1-الحقل الثقافي
تقوم الدولة الحديثة على الفكرة القومية التي تعين الجماعة الجديدة، وتؤسس معناها في "الزمان والمكان"، وفي التاريخ وفي الرقعة الجغرافية، وهي نظام ثقافي (مفاهيم وقيم) جديد، ومغاير، في جوانب عدة لثقافة الدولة السلالية القائمة على الدين - المذهب. الدولة الحديثة هي حامل وخالق لنظام المعاني الجديد، وقد دخل هذا في تصادم جزئي أو كلي مع الثقافة السابقة، في المجتمعات المبرقشة (المتعددة) أو المتجانسة دينياً - مذهبياً.
هذا الحقل هو أحد أقدم المنابع المبكرة لتصادم الدولة المركزية مع المؤسسة الدينية بعامة، ومع التنظيمات الاجتماعية التقليدية (المراجع الدينية، نقباء التجار، الأصناف الحرفية، القبائل، قادة الطرق الصوفية).
فمعنى الجماعة القومية مثلاً، يتأسس لـ "جهة الزمان بميلاد اللغة ومدوّناتها، وهذا يتعارض مع تاريخ الجماعة المقدسة الذي يبدأ مع ظهور الدعوة الدينية (ميلاد المسيح، الهجرة النبوية، فترة الخلافة الراشدة، واقعة كربلاء). كما أن معنى الامتداد التاريخي للحضارة العربية - الإسلامية موضع خلاف عقائدي - فقهي، حيث إن السلالتين الأموية والعباسية اللتين تتدرجان في نسيج هذا التاريخ الحضاري، تؤلفان من الوجهة العقائدية "فترة غصب" (جرى نسف تمثال أبي جعفر المنصور في بغداد لهذا السبب، مثلما أحيط تمثال الشاعر الرصافي بالازبال لأنه كان علمانيا ويتعاطى الخمر). من الناحية السوسيولوجية، الطبقات الوسطى المتعلمة تميل إلى القبول بمفهوم الحضارة العربية الواسع كمفهوم عقلاني، في حين أن طبقة رجال الدين، والشرائح التقليدية تعتبره "تاريخاً محرماً". هذا الانفصام بين قبول الجماعة القومية الممتدة في الزمان، أو قبول الجماعة المقدسة الممتدة في زمان مغاير، كان وما يزال قائماً.
من ناحية أخرى، يتأسس معنى الجماعة، لـ "جهة المكان"، بالرقعة الجغرافية سواء لبلد بعينه أم لجماعة قومية (العرب، الكورد، الفرس، النرك) للوطن العربي أو الوطن الكوردي أو التركي، الخ. هذه الرقعة تسمى الوطن وهو وعاء مكاني يتعارض مع الطابع المحلي للجماعات الدينية، في حالات معينة، أو أن الامتداد المكاني للولاء الديني - المذهبي يتجاوز حدود الوعاء الجغرافي للأوطان. هنا، ومن جديد، انفصام آخر بين تخوم الجماعة القومية المتعينة في المكان، وتخوم الجماعة المقدسة، المفتوحة. هذان الشكلان من الانفصام يتفجران لحظات التأزم، فيبرز شعار الوحدة الإسلامية بمعارضة الوحدة الوطنية وأو القومية، ويبرز رفض القومية والوطنية أسوة بالديمقراطية والاشتراكية، بوصفها "أصنام الجاهلية" (حصل هذا في الوطن العربي كما خارجه: مثال إيران وغيرها).
2-الحقل الديني
هذا الحقل، شأن سابقه (الثقافي)، من أقدم حقول التصادم بين الدولة الحديثة كحامل للشرعية، وناظم للمجتمع، والدين الذي ينطوي، في مفهومه وواقعه على: العقيدة، والمؤسسة الاجتماعية (طبقة المراجع والفقهاء)، والشبكة المادية: الجوامع، والحسينيات، والدين الشعبي (سواء طقوس الذكر الصوفي أو طقوس عاشوراء وسواها)، وأخيراً موقع المدن المقدسة (موئل الحج والزيارات)، يتفاعل بصيغ متنوعة باختلاف الزمان والمكان.عليه، فان الحقل الديني متعدد الأبعاد، يرتبط ويحتك بالدولة الحديثة في أكثر من مستوى. وإن تحول هذا الارتباط والاحتكاك إلى اشتباك مأزوم يتوقف، في جانب كبير منه، على سلوك الدولة، ويتوقف، في جانب معين، على طبيعة وردود فعل القوى الاجتماعية الماثلة في فضاء مؤسسات الدين الرسمي، والدين الشعبي، بتداخلهما وتضادهما أيضاً.
في "العقيدة"، نجد في الأقل شكلين أساسيين من نفي شرعية الحاكم الدنيوي (كلّ الحكومات غصبية - أي لا شرعية - في غيبة الإمام - على الجانب الشيعي؛ أو تقييد شرعية الحاكم الدنيوي بصيانة الشريعة، بالتفسيرات الأصولية أو السلفية لهذه الأخيرة - على الجبهة السنّية). من هنا إمكانية مضمرة، أو سافرة، لنزع شرعية الدولة الحديثة بمجرد التصادم معها، لأي سبب، ثقافي أو اقتصادي أو سياسي ... إلخ. ومن هنا أيضاً ميل حركات الاحتجاج، سواء أكانت عامة (الشرائح والفئات المتضررة بعامة) أم كانت جزئية (طوائف محددة) لرفع شعار تطبيق الشريعة (الإسلام دين ودولة)، أو تكفير الحاكم (الشاه يزيد العصر) بمنطق مذهبي.
وعلى جهة "الفقهاء" (المراجع، ورجال الدين) تتعرض هذه الشريحة الاجتماعية، بحكم الميول المركزية، لفقدان موقعها المركزي في حياة المجتمع: عقود الزواج، والطلاق، والإرث (في حالة تشريع قانون مدني ناظم لهذه العقود - الحقوق)، أو التضييق على مواردها المالية (تقييد جمع الخمس وإيداعه في المصارف). ويشكل التضييق على بناء المساجد (في حالات)، أو احتكار الدولة لتنظيم الأوقاف (كمورد مالي مهم) هنا، تصادماً مع هذه الطبقة، ينعكس، في المنظور الفكري للفقهاء، على أنه اعتداء على الدين، ويفجر العلائق مع الدولة، ويكتسي طابعاً دينيا-علمانيا في مجتمع التجانس، أو طائفياً ممزقاً، في المجتمع المبرقش.
أخيراً، يأتي تدخل الدولة في ميدان "ممارسة الطقوس الدينية الشعبية"، والزيارات إلى المراقد المقدسة (هناك تحريم للطقوس الشيعية العلنية في المناطق الشيعية من السعودية، حيث تجري داخل البيوت)، بحيث "يمس حرية العبادات، كما يمس المكانة الاجتماعية لمنظمي الطقوس، ويقوض اقتصاد المدن المقدسة" التي تعتمد على موارد الزيارات.
ولا تتجلى هذه الأفعال، في البلدان العلمانية، على أنها سياسة حداثية وعقلنة، بل تتجلى في التصورات الرائجة على أنها تمييز مذهبي، أو اعتداء طائفي. أما في الدولة التقليدية التي تعتمد في شرعيتها على مزيج الدين + العرف (السعودية مثلاً)، فإن التصادم المذهبي مباشر وبلا توسطات. وهذه نقطة مهمة، نظراً إلى أن حالة التوجه الحداثي  العقلاني في الموقف من الطقوس الشعبية يكسب إلى جانبه قطاعات حديثة من داخل الطوائف المعنية في الدولة الحديثة، ونفتقد مثل هذا الكسب في الدولة التقليدية.
3 -حقل المواطنة
هذا الحقل قديم - جديد، وهو، بحدود المسوحات الميدانية المتاحة، يكاد يقتصر على بلدين، هما: العراق والبحرين. فالدولة كناظم ومحدد لحقوق المواطنة، وحق الانتماء إلى وعاء إقليم محدد، كان، لحظة تأسيس الدولة الحديثة إشكالياً، لوجود نمطين من الانتماء السابق لهما، وهما: التبعية العثمانية، والتبعية الإيرانية، كوثائق تسجيل معتمدة في مرحلة تقاسم النفوذ (في المشرق العربي على وجه التحديد) بين الدولة العثمانية والدولة الإيرانية.
الدولة الحديثة اعتمدت قوانين منح الجنسية لمعاقبة خصومها السياسيين، من فقهاء أو تجار، أو نشطاء سياسيين، وقامت بعمليات إسقاط جنسية، أو تهجير (طرد قسري + مصادرة الممتلكات)، شكلت اعتداء على الهوية الوطنية للمهجرين، واكتست في الذاكرة الايديولوجية، وأحيانا في الذاكرة الشعبية، طابع اعتداء وتمييز طائفيين، واندرجت لذلك، في ثنايا الخطاب الأيديولوجي للقوى الإسلامية المعارضة، مهشمة نسيج التكامل الوطني. وتبرز اليوم ملامح ميول مماثلة في البحرين ستكون لها نتائج كارثية على الغرار العراقي.
4-الحقل الاقتصادي
الدولة في العالم العربي، على وجه العموم (مع وجود استثناءات محدودة) ورثت عن الحقبة العثمانية طابعها كمالك شامل للقيعان، وتحولت، بعد اكتشاف النفط في معظمها، إلى مالك مباشر للمنابع والموارد. وتوسع دور الدولة كمالك بعد نشوء الاقتصاد الأوامري في عدد من الدول، فتحولت الدولة إلى مالك  منتج. وسواء أكانت الدولة ريعية نفطية أم ريعية - باقتصاد أوامري أم بدونه، فإن احتكارها للموارد الاقتصادية يفضي عند غياب التمثيل الواسع للمناطق إلى اختلال التوازن في توزيع الموارد الاقتصادية بين المناطق، كما بين الجماعات.
هنا يفعل الاحتكار السياسي للنخبة الحاكمة فعله، سواء أكانت أسرة، أم قيادة حزب واحد، ويؤدي إلى توسيع انتفاع قطاعات وفئات ضيقة بالموارد واستشراء حرمانات واسعة، بفعل اختلال توزيع الموارد والمنافع والعقود الحكومية.
في ظل الخطاب السياسي الحداثي، يتجلى هذا التفاوت في توزيع الثروة في الوعي كتفاوت طبقي - اجتماعي، أما في الخطاب الطائفي، فيتجلى كتمييز على أساس الدين، أو المذهب أو المنطقة (الجهة)، مغذياً تسييس الهويات الجزئية. لاحظنا في مثال مستقى من العراق وسوريا أن الخطط التنموية التي اشتملت على إصلاحات لاستنهاض التصنيع والتطور الاقتصادي، واشتمل على بعض التأميمات للقطاع الخاص والأراضي (1964) (حصل التأميم في مصر أيضاً)، اتخذ عدة مظاهر أيديولوجية، منها أن التأميم هو نزعة اشتراكية (عند اليسار رغم انه كان تنمويا صرفا)، وهو اعتداء على رأس المال الخاص الحيوي (عند رجال الأعمال على اختلاف أديانهم ومذاهبهم)، وهو اعتداء على الطائفة (عند رجال الدين والتيار الإسلامي الشيعي أو السنّي)، نظراً إلى أن جل أعضاء غرف التجارة، واتحاد المقاولين والصناعيين، مثلاً، ينحدرون من طائفة مغايرة لانتماء النخبة الحاكمة. ونلحظ هنا دور التمثلات أي مزيج الأوهام والتخيلات والتصورات الايديولوجية تغذي التمثلات الطائفية وتذكيها، وأن شيوعها يتوقف في حدود كبيرة على مدى انتشار التمثلات العقلانية (خطاب التنمية مثلا)، إلا أن التدمير المنظم لقوى اليسار افرغ المجتمع من إمكانية تعدد الخطاب السياسي، وترك المجال لاستقطاب ثنائي: الخطاب الرسمي بازاء الخطاب الطائفي.
5-الحقل الإداري – الأمني
الدولة عموماً هي سوق عمل كبير، ومستهلك أكبر للخدمات والسلع، وهي في البلدان العربية أكبر رب عمل منفرد، حيث تتراوح نسب استخدام قوة العمل فيها بين 20-25 بالمئة من السكان في مناطق شتى، فضلاً عن ذلك فإنها أكبر مستهلك منفرد في المجتمع، نظراً إلى اتساع وظائفها في تقديم السلع العامة (الأمن، التعليم، وأحياناً الصحة ... إلخ).
وللسياسة المتّبعة في ميدان التوظيف، وفي الجهاز الإداري (البيروقراطية)، والأجهزة الأمنية - العسكرية، مؤثرات عميقة في تأجيج الطائفية السياسية وتخفيفها أو إخمادها.
أغلب المسوحات الميدانية تشير إلى وجود "سياسة تمييز وإقصاء"، في نظم الحزب الواحد، أو النظم العسكرية، أو النظم التقليدية. وتلعب شبكات القرابة المتداخلة مع الشبكات الحزبية، الطبقية والجزئية، دورها في عمليات الإقصاء والتمييز.
لعل لبنان هو البلد الوحيد الذي يضمن في حدود، وبطرق تقليدية، حصصاً معينة للجماعات والمناطق في الوصول إلى سوق العمل الحكومي، رغم أن هذه الطرق تعزز سلطة الزعامات الطائفية، لكنها تمنح قدراً من التوازن في توزيع حصص هذه السوق.
ويصل الإقصاء الإداري الأمني حدوداً تتجاوز سياسة التوظيف إلى سياسة تقديم الخدمات العامة، فتجد في بلدان عربية شتى تركّزاً مفرطاً لمثل هذه الخدمات في العاصمة (حيث ربع السكان تقريباً في جلّ البلدان العربية)، مقابل ضعفها أو غيابها في الأطراف، أو حتى ضعفها أو غيابها في مناطق محددة داخل العاصمة.
وما يصحّ على تصور الإقصاء، أو الانغلاق السياسي والاقتصادي، يصحّ هنا أيضاً على الحقل الإداري - الأمني والخدمي. فالتمييز قد يدخل فضاء التصورات على أنه احتكار سياسي، أو حزبي، أو على أنه هيمنة طائفية. والتصورات في فضاء النشاط السياسي أهم بما لا يقاس من الحقائق. فالتصورات والتخيلات، أي التمثلات المباشرة هي المحفز على الفعل والحركة.
6-حقل التعليم والمعلومات
تحتكر الدولة العربية (باستثناء لبنان) نظام التعليم الحديث بالكامل، بما في ذلك مناهج تدريس الدين، ومناهج تدريس التاريخ، وهي تعتمد تصورات نخب الدولة بالطبع، وتنطوي على إهمال للمدارس المذهبية المغايرة، أو في الحالات القصوى، تنطوي على عداء مباشر (فكرة "الفرقة الناجية").
وفضلاً عن هذا التصادم الفكري، ثمة اتساع نظام التعليم الحديث، الذي يجرد الطبقة المقدسة من احتكار التعليم، ويخلق، فضلا عن ذلك، شرائح ذات ثقافة جديدة تؤهلها للصعود الاجتماعي عبر الانتماء إلى الطبقات الوسطى المؤهلة، في حين إن خريجي المدارس الدينية الرسمية وغير الرسمية، يتحولون بالتدريج إلى فئة اجتماعية أقل فأقل بروزاً، وتصل، أحياناً، إلى درجة التهميش (أسطع مثال على الحالة القصوى، هو السعودية وإيران عشية ثورة 1979)، ولكن المعضلة قائمة في سياسة البلدان العربية، بدرجات متفاوتة، وهي تقدم مادة للاحتجاج الاجتماعي - الطائفي، وقوة بشرية منظمة للتعبير عنه.
7-الحقل السياسي
تعدّ مشكلة التمثيل السياسي للجماعات الحديثة أو التقليدية، بمعناها الاجتماعي-الطبقي أم بمعناها الديني-المذهبي، من أعقد المشكلات وأكثرها تفجراً. التمثيل السياسي في الدولة التقليدية (ما قبل الحديثة) يعتمد على شبكات القرابة والمصاهرات (مثال السعودية في القرن العشرين) أو فتح الديوان الأميري (الملكي) للمشايخ والوجهاء والعلماء والتجار، أو اعتماد نظام الملل، الخ،. أما في الدولة الحديثة، فالمؤسسات البرلمانية (مجالس النواب  الأعيان ... إلخ)، هي أداة التمثيل الموائم القائم على الرضا وحكم الأغلبية السياسية.
هذه المؤسسات كانت إلى حد قريب، وما تزال بحدود معينة، غائبة عن معظم البلدان العربية. فابتداء من منتصف القرن العشرين حل نظام الحزب الواحد أو الحكم العسكري محل النظام البرلماني للحقبة الكولونيالية (الجزائر قبل الإصلاح - سوريا، والعراق قبل الغزو، والسودان)
انغلاق منافذ نظام التمثيل السياسي يترجم في اللغة الحديثة بـ الدكتاتورية، وباللغة الدينية والتمثلات الطائفية باعتباره تمييزاً وإقصاءً. لكن النظام الحديث، القائم على مؤسسات برلمانية، لا يكفي بذاته لضمان التمثيل المتوازن، فهو يستدعي جملة شروط أخرى: توازن الدوائر الانتخابية لضمان التمثيل العادل (إنسان واحد = صوت واحد). "اختلال الدوائر" يستجرّ احتجاجاً واعتراضاً عنيفاً، مثال البحرين حيث الدوائر الانتخابية مختلة ديمغرافياً، ما يخلّ بالتمثيل المتوازن، أو مثال لبنان، حيث إن تغيّر الوزن الديمغرافي (السكاني) للطوائف يصطدم بنظام الدوائر الانتخابية شبه المغلق، ما يستدعي تعديل التمثيل، أي تقليص نفوذ وسلطة جماعة على حساب أخرى، ما يفضي إلى التنافس والاحتراب.
كما أن النظام البرلماني السليم يستدعي لنجاحه شروطاً أخرى، أولها حرية التنظيم السياسي السلمي (نركّز على السلمي)، علاوة على أوسع تمثيل ممكن للجماعات في قمة السلطة، حتى ولو لم تكن ذات أغلبية (حكومات ائتلافية)، لمنع "التركيز المفرط" للسلطة، والأهم منع تحول "الأغلبيات الديمغرافية" إلى أغلبيات سياسية قامعة، ومقصية للجماعات الأخرى، حيث تتحول الديمقراطية إلى إثنوقراطية، أي حكم الأغلبية الدينية القومية الدائم، وليس حكم الكل (= ديمقراطية)، خصوصاً حيث يبلغ تسييس الهويات، في الإطار الديمقراطي، درجة قصوى من الانقسام.
نخلص من ذلك إلى أن النظم المغلقة (بلا تمثيل سليم) سواء أكانت تقليدية أم حديثة، تؤجج المشكلة الطائفية، أما النظم الديمقراطية الحديثة فليست كافية بذاتها في حلّ الإشكال، من دون الشروط التكميلية الأخرى المذكورة أعلاه، وبالذات اعتماد الحكومات الائتلافية الموسعة لتجنب حلول "الإثنوقراطية بدل الديمقراطية".
8-الحقل الأيديولوجي
تميز الفضاء الأيديولوجي في العالم العربي بتشكل وانتشار ثلاثة تيارات أيديولوجية أساسية: القومية، واليسارية (الماركسية)، والإسلامية (نترك خارج الاعتبار التيارات الوطنية المحلية  العراقية  السورية  المصرية... إلخ).
بفضل التحول السوسيولوجي من مجتمعات تقليدية زراعية - حرفية إلى مجتمعات حديثة صناعية - خدمية، اتسعت الطبقات الوسطى، وابتكرت أشكالاً متقدمة من الخطاب الأيديولوجي والتنظيم السياسي المحكم (النمط اللينيني)، واستطاعت، بفضل التعليم الحديث، وموقعها في المواضع المفصلية من جهاز الدولة الحديثة، أن تقود، بطرق شتى، عملية التحول الاجتماعي (التصنيع، الإصلاح الزراعي، التعليم الحديث، تحرير المرأة .. إلخ)، وطغت على المشهد السياسي منذ خمسينيات القرن الماضي، في الأقل، وانقسم العالم العربي إلى قطاع دول تقليدية، وقطاع دول حديثة، دخلت في تصادم.
الأزمات المتتالية منذ النصف الثاني من القرن العشرين كشفت عن هشاشة الدولة الحديثة، وطابعها الاحتكاري الذي أدى، بمديات متفاوتة، إلى تدمير المؤسسات والروابط المدنية(النقابات، الجمعيات الأهلية، وأخيرا الأحزاب)، وإحداث فراغ مجتمعي، سرعان ما ملأته القوى الإسلامية الأصولية والسلفية، التي ارتكزت سوسيولوجيا على الفئات المهاجرة القروية الجديدة، ممهداً السبيل إلى صعود الإسلام السياسي، وتعزز هذا الميل بقوة أكبر بعد تدهور مكانة الأيديولوجيات الكبرى (عالمياً)، وتفاقم أزمة المشروع القومي العربي منذ نكسة حزيران/يونيو 1967، وانتهاءً بحربي الخليج، واحتلال العراق. لقد جرت دراسة عملية التحول هذه باعتبارها "ترييفا للمدن" ولم تخط الدراسات العربية خطوة ابعد لمعاينة تبعات هذا "الترييف" المقترن بتحطيم القوى اليسارية في عدد من البلدان العربية، تأثيره على انقلاب الثقافة السياسية وبدايات صعود التسييس الطائفي.
الخطاب الأيديولوجي الإسلامي (الإخوان، السلفيون، ثم القاعدة) المعترض على الجبهة السنّية، والخمينية، كتيار جديد لفظ السلبية السياسية لفكرة الانتظار، على الجبهة الشيعية، احتل رقعة واسعة في الثقافة السياسية، وغذّى حركات الاحتجاج الطائفية، على نحو مباشر أو غير مباشر.
في الماضي كان التحول الحضري  الطبقي للمجتمع يدفع الفئات الهامشية نحو اليسار، وبخاصة الشرائح القروية المهاجرة التي تجد في المدينة أحزاباً ونقابات تحتضن مطالبها وتظلماتها. أما بعد التدمير المنظم للقوى الحديثة ممثلة باليسار، والاحتكار والاحتواء المنظّم من الدولة الحديثة لهذه المؤسسات المجتمعية، فإن احتجاج الشرائح المتضررة توجه إلى الدين والقبيلة، وإلى الجوامع وشيوخ القبائل.
وتحول الخطاب الاحتجاجي من لغة الاقتصاد (التفاوت الطبقي)، والسياسة (غياب الديمقراطية)، إلى خطاب التكفير، والتعصب الطائفي.
ولعل هذا الوضع قابل للتجاوز بفعل عاملين، ما يزالان ضعيفين، هما: انتشار اقتصاد السوق، كفضاء مجتمعي عابر للطوائف، وتوسع الطبقات الوسطى الحديثة، بعد تحررها من قيود الدولة الريعية المستعبدة.
الخطاب العابر للطوائف، بأية صورة كانت، ليس غائباً، لكنه ما يزال ضعيفاً.
9- حقل العلاقات أو الصراعات الإقليمية – الدولية
يتفق دارسو الأوضاع في عموم المنطقة على احتدام استقطاب إقليمي شيعي - سنّي، قطباه إيران الخمينية، والسعودية السلفية، هو، في جانب منه، تعبير عن الصراع الطائفي الجاري في العراق والبحرين بشكل أساسي، مضاف إليه الصراع الدائر في لبنان وسوريا.
فالأيديولوجيا في كلا هذين البلدين تطل على الأمور من موشور مذهبي، والمصالح الجيوبوليتيكية، وهما في حالة تصادم منذ الثورة الإيرانية عام 1979. ولهذين العاملين عواقب داخلية، سواء في المملكة السعودية نفسها، أم في منطقة مجلس التعاون الخليجي. تقوم إيران بدور ثنائي. فهي تتخذ موقفاً راديكالياً من سياسة الولايات المتحدة وإسرائيل في المنطقة، وهي بهذا تتجاوب مع بعض المصالح العربية في هذا المجال. وهي من جهة ثانية، تقوم بدور الراعي لشيعة المنطقة، بنزعة تدخلية واضحة، إلا أنها خلافاً لإيران ما قبل الثورة، لا تعمد إلى دعم الشيعة بعامة، بل دعم القطاع الإسلامي منهم تحديداً، وأحد أبرز أهدافها في المنطقة هو تمكين "الإسلاميين"، وهي بذلك تشكل أداة لتعميق الطائفية. كما أن رد الفعل المعاكس من قطاع من الدول العربية هو رد فعل طائفي بالمثل.
لكن ينبغي أن نضيف، خلافاً للدارسين، أن الاستقطاب الحالي في المنطقة يدور أيضاً على محور إيران بإزاء محور تركيا، رغم أن الاستقطاب هنا يجري في إطار السياسة الناعمة، بقنوات الحوار الدبلوماسي والتنافس الاقتصادي، والضغط السياسي.
هذا التصارع الإقليمي، الخشن أو الناعم، يعمل على إرجاع المنطقة برمتها القهقرى إلى عهد الصراع العثماني - الصفوي. وتحتاج دول المنطقة إلى بناء ما حققته أوروبا في صلح ويستفاليا  (1648) التي أنهت الاحتراب الكاثوليكي - البروتستانتي (استمرت الحرب 80 عاماً) على قاعدة احترام حق كل دولة في إدارة إقليمها كمالك حصري.
وبالطبع، فان تأسيس هذا الحق لم يتم إلا بعد تعهد الدولة والتزامها الكلي باحترام حرية الضمير والعبادة، ورعاية كل الأديان والمذاهب على قاعدة الحرية الفردية.
ــــــــــــــــــــــــــــ
1- المشكلة الطائفية التي أطلت برأسها منذ أواسط السبعينيات تحديداً. لعل أول واقعة تصادم طائفي في القرن العشرين جرت في العراق عام 1974، وتعرف باسم "مرد الراس"، حيث اندلعت تظاهرات ضد البعث قادتها جماعات غير مسيّسة أثناء مراسم زيارة الأربعين. أما الأحداث الكبرى بعدها فترافقت مع الثورة الإيرانية عام 1979، وتظاهرات وإعدام محمد باقر الصدر (العراق عام 1980)، وانتفاضة المنطقة الشرقية (شيعة السعودية) (ترافقت مع واقعة احتلال الحرم المكّي). وبرزت المشكلة الطائفية في سوريا في مطلع ثمانينيات القرن العشرين بالتمرّد المسلح للإخوان المسلمين (حمص، وحماة)، وقمعها بالقوة المسلحة، وتبلور خطاب طائفي حول الصراع السنّي/ العلوي، وأخيراً إنشاء حزب الله في لبنان وجماعات أصولية في البحرين، كمنعطف جديد في هذا التسييس. هذه المظاهر مرت مرور الكرام على البحث العلمي السياسي والسوسيولوجي، وتركّز الاهتمام بشكل أحادي على ظاهرة صعود الإسلام السياسي من دون الالتفات إلى أن الإسلام السياسي طائفي بالتعريف، حيثما يكون الحقل السياسي لنشاطه تعدّدياً لجهة الأديان والمذاهب، مثلما هو ضد حداثي عموماً (انظر مثلاً كتاب النقد الذاتي بعد الهزيمة لصادق جلال العظم، أو إصدارات مركز دراسات الوحدة العربية عن الإسلام السياسي في الوطن العربي، حيث بقيت المشكلة الطائفية في الظل تماماً).
لا يحتاج الدارس إلى كثير من القرائن الميدانية للبرهان، فمثال الاحتدام الطائفي الراهن في العراق، وسوريا، والبحرين، والسعودية، واليمن، ومصر، إلى السودان (في المشرق العربي)، مشفوعاً بمشكلات طائفية موازية، كامنة أو فاعلة، في تركيا، وباكستان، وأفغانستان (والهند أيضاً)، على سبيل المثال لا الحصر، يكفي على ذلك.
2-المقاربة أعلاه هي مقاربة كرونولوجية تتابع تطور المنابع في الزمان. أما في الوقت الحاضر فان هذه المنابع تحولت إلى قضايا راهنة تتدرج أهميتها عند الحركات السياسية في تسلسل مقلوب أحيانا. و اعتمادا على مسح ميداني لآراء القادة و النشطاء الإسلاميين في عدد من البلدان العربية خلال العقد الأخير، يمكن القول إن أهمية هذه القضايا تكتسب التسلسل التالي (المختلف تماما عن التسلسل التاريخي). من الأهم إلى المهم فالأقل أهمية هناك:
ا- الحقل السياسي: الدولة كحقل مغلق للتمثيل والمشاركة السياسية. ب- الحقل الاقتصادي: الدولة كمالك احتكاري للأصول الاقتصادية، ومستهلك للخدمات، وناظم منحاز للنشاط الاقتصادي. ج- الحقل الإداري: الدولة كسوق مغلق للعمل.
د- الحقل الثقافي: الدولة كمحدد منافس لهوية الجماعة. هـ- الحقل الديني: الدولة كهيئة ذات شرعية مغايرة أو معاكسة (العقائد - المرجعيات الدينية - المدارس الدينية - الأوقاف - العتبات المقدسة - الطقوس والعبادات). و- حقل التعليم والمعلومات: الدولة كناظم متحيّز لمناهج التعليم وتداول المعلومات. ز- الحقل الأيديولوجي: الدولة كجهاز أيديولوجي منافس، بإزاء الأيديولوجيات الأخرى السارية وسط الجماعات. ح- حقل المواطنة: الدولة كناظم اعتباطي لحقوق المواطنة. ط- العلاقات (الصراعات) الإقليمية - الدولية ذات الطابع الطائفي.