مدارات

أيام مفعمة بالحب والأمل ..(12) / فيصل الفؤادي

صور أنصارية
إستفادة الأنصار من المزارع
في اثناء الربيع والصيف يتم الإستفادة من الأراضي القريبة من مقرات الأنصار من خلال حرثها وزراعتها وسقيها بالمياه. لهذا جهزت اكثر المقرات في القواطع ارضا قريبة لمصادر المياه، وتم زراعتها بالمنتجات الصيفية المختلفة، لغرض الإستفادة منها طازجة للتغذية كالباذنجان والباميا والخيار والطماطة والشجر والبصل وغيرها. ومن جانب اخر ساعد ذلك في تقليل النفقات وتقليص إستخدام الباقوليات الجافة كالفاصوليا والحمص وغيرها. البذور تأتي من النواحي القريبة حيث يتم تكليف بعض الفلاحين بجلبها. وكان هناك جدول للأنصار لمتابعة هذه المزارع وحراستها.
وقد كٌلف بعض الأنصار الذين لديهم المعرفة او الهواية في الزراعة والحراثة (تقليب التربة) وكيفية السقي. البعض من السرايا او الفصائل قام بتربية الدجاج والإستفادة من البيض او تربية النحل للإستفادة من العسل او تربية الماعز، وبالتالي تحسين الوجبات الغذائية اليومية. كما استفاد الأنصار من الانهار في صيد السمك، فيما وفرت البساتين فاكهة وفيرة للمفارز الجوالة، من الخوخ والرمان والتين والعنب. وكان أصحاب البساتين كرماء في دعوة الأنصار لأكل وقطف فاكهتهم من هذه البساتين، تلك الفاكهة التي كانت تنضج وتتلف دون أن يتمكن أصحابها من تسويقها عندما قامت السلطة بفرض الحصار الإقتصادي على المنطقة. وبعض الفلاحين قام بنقل وبيع منتوجات بساتينه الأنفة الذكر الى البيشمه مركة والأنصار.
نقل السلاح والبريد
تم نقل السلاح من مناطق مختلفة من دول الجوار سوريا عبر تركيا او احيانا مباشرة الى العراق او ايران، الى قواعد الأنصار. ومع الأسلحة المختلفة كان يتم نقل العتاد والأدوية. نقل البريد الى قيادة الحزب من رسائل حزبية او خاصة أو الادبيات او الأموال ورسائل الرفاق لزوجاتهم او بالعكس، كانت تتم بواسطة رفاق متميزين بالصبر والتحمل وموثوق بهم تماماً. لقد تحّمل هؤلاء الأنصار ظروف الشتاء القاسية من البرد والثلوج والجوع إضافة الى كمائن النظام العراقي او التركي. وقد تعلم الأنصار المسالك الجبلية والطرق الوعرة والوديان وأصبحوا ادلاء جيدين في المنطقة، برغم ان بعضهم لم ير الجبل وجاءوا من مناطق العراق المختلفة.
لقد تكيّف الأنصار مع الحياة في المناطق الأمنة وفي الليالي يجمعون الحطب ويشعلون النار وينامون بقربها بحراسة مناوبة بينهم، فهم يعرفون مكان الإستراحة ومكان الخطر ومكان ينبوع الماء والأنهار والقرى. وكانت حدود المناطق الأمنة تقاس بالأمتار، فوضعت حولها أشارات فاصلة.
في مرة كنت أجتمع عند ينبوع ماء مع مجموعة من الأنصار، كان الرعاة والفلاحون يحددون لنا موقعنا، وحين كان الجنود الاتراك (القرقول) يأتون ليسألوني بإعتباري مسؤولاًعن المفرزة، كنت أستعين بهؤلاء الرعاة، لأبعد هؤلاء عنا، حيث أرد عليهم بأنّا في أرض عراقية ولا يحق لهم التواجد بالقرب منا، فيبتعدون!
في أشد الظروف، كان الأنصار ينقلون البريد الخاص مع تساقط الثلوج والفيضانات خاصة في الربيع، والأكثر صعوبة عندما يكون معهم سلاح ثقيل، وفي اكثر من مرة فقدنا بغالا مع ما تحمله من سلاح. لقد وصلتنا انواع من الأسلحة، لم تكن لتملكها بعض الدول الصغيرة، من الصواريخ المضادة والأسلحة المتوسطة والسلاح الخفيف وانواع العتاد، الدوشكا وسلاح نوع 500 مضاد جوي قديم و14.5 وغير ذلك. في عمليات النقل خسرنا عدداً من الأنصار غرقا، وفقدنا السلاح والحيوانات، كما خضنا معارك عديدة مع القوات التركية على الحدود.
تضاريس كردستان ومعالمها الريفية
لا يخفى على أحد مصاعب الحياة الجبلية في كردستان، ومنها الجبال الوعرة من شمال السليمانية وكركوك الى اربيل ودهوك، فالكهوف العديدة والمغارات التي ترتبط بتاريخ بعيد. وعند المسير في بعض وديانها تجد الكثير من المسالك القديمة ذات السطوح المنتظمة التي تدل على عيش اناس هنا من قديم الزمان. وفي هذه المناطق كثيرا ما تجد تاريخ الأزمنة الغابرة في النقوش والرسوم والمعالم التاريخية. ويستخدم بعض الفلاحين هذه الكهوف كمخازن لمؤونتهم في فصل الشتاء، أو كملاجيء تحميهم من القصف المدفعي والجوي الذي يشنه النظام عليهم بين الفينة والأخرى. لقد وجدت قلاعا لتاريخ سحيق لازالت صخورها متبعثرة في بعض الأماكن، حيث يسقفها الفلاحون بأغصان الأشجار وتصبح ظليلات للأستراحة في الصيف القائظ.
من أخطر الحيوانات في تلك المناطق الخنزير البري والذئب الى جانب الافاعي والعقارب. ويتميز الفلاحون بحبهم لكلابهم التي يعتمدون عليها في الرعي خلال النهار وتقوم بحراسة ماشيتهم في الليل. كما تشكل لهم جرس إنذار يشي بالقادم لقريتهم قبل وصوله. وعموما يحب الفلاح ممتلكاته على بساطتها، ويعدها ذات قيمة معنوية ومعيشية حيث يرتبط بها من أجل استمراره بالحياة ومشاكلها الكثيرة. لقد أدى إطلاق بعض الأنصار النار على كلاب بعض القرى، حين وصولهم لزيارتها، الى مشاكل جدية بين مفارزنا وأصحاب الكلاب، مما تطلب فهما أفضل للطبيعة الاجتماعية لسكان تلك المناطق.
ولأن حياة الإنسان ترتبط هناك بينابيع الماء، ولأن هذه الينابيع غالبا ما تكون محاطة بشجرة الحور (الإسبندار) فإن مشاهدة هذه الشجرة من بعيد كان مبعث فرح وطمأنينة للأنصار وهم يجوبون القرى والوديان المختلفة. وغالبا ما إستخدمت شجرة الحور في تسقيف البيوت كونها ذات ساق مستقيمة، حيث توضع على الجدران ثم تصفف الاغصان وأوراق الأشجار ويضاف عليها الطين الممزوج بالتبن.
في عالم كردستان، تعلمنا أسماء الجبال (كارا ومتين وجبال شقلاوة والجبل الأبيض وجبل بخير (والذي يعني بدون خير لأنه بدون ماء) إضافة الى أسماء العديد من المرتفعات والوديان السحيقة والمنحدرات القاسية والشديدة الوعورة. كما تعرف الأنصارعلى انهار وسواقي وبرك مختلفة الاحجام، إضطروا أن يتعاملوا معها اثناء الليل خاصة عند العبور الاجباري والذي تتخلله الاغصان والحفر والعوائق الاخرى.
كم صعبة هي الدروب اليك ، منتصبة
عمودية خضراء، قشرتك بيضا ، قشرتك بيضاء
تبلغين غيمة سوداء وتنشدين السماء فارعة
مظفورة في الأرض التي أحبتك واحببتيها
حين توجد المياه، اغصانك طويلة تعانق فسحة الفضاء
قد تكونين وحيدة ، تحتفضين بصمتك
قرب ينبوع ماء
كنا ننظر في الغروب الى الشمس وهي تختفي خلف الجبل تاركة احمرارها الجميل واللون البرتقالي الآخاذ الذي يعطيك منظرا لأحد الاسرار في هذا الكون.
كان الليل صديق الأنصار.. رغم ما فيه من أحلام مؤجلة .. ورغم كونه خال من البشر وموحش .... مغرق بالأغصان المتشابكة والوديان السحيقة والمعابر الخطرة بين الجبال .. فهو صديق يخبأ المقاتلين عن أعين الطغاة .. وسريعاً ما ألفه الأنصار .. وصار شموخ الجبل جزءً من قوتهم .. وضياء النجوم المتلألئة مصابيح تنير في الظلمة وتساعد على المسير.
وفي النهار ينسحب الأنصار من القرى الى الوديان وأعالي الجبال قريبا من الينابيع، منتشرين تحت الأشجار، يحرسون بعضهم بعضا كي لا تتم مباغتهم من قبل العدو .. لا يوقدون ناراً يتدفأون عليها أو يطهون عليها طعامهم، إذ فقدوا شهداء لهم، حين أوقد بعضهم ناراً إهتدى أزلام الدكتاتورية من خلال دخانها على إماكن تواجدهم.
كانت الزوابع الثلجية والأمطار الغزيرة والانهار سريعة الجريان بين الصخور، أكبر العوائق التي تؤخر مسير الأنصار لاسيما في الربيع. ولطالما شاهدت جداول صغيرة وهي تتحول فجأة لأنهار هادرة تجرف معها الصخور والأشجار والحيوانات، وتقطع الطرقات وتعيق الحركة.
تتوقف الحياة في القرى بسبب فصل الشتاء القارص. فمن المعروف ان القرويين يجمعون الأخشاب والحطب وعلف الحيوانات وكذلك الأرزاق من الطحين والرز والسكر والشاي والإحتياجات الاخرى قبل الشتاء وخوفا من الظروف القاسية التي يمرون بها في هذا الفصل. لقد كانت مصاعب الطرق التي تحّملها النصير والنصيرة في الشتاء قاسية خاصة عند سقوط الثلوج، حيث تصبح الدروب غير سالكة. أذكر أنا خضنا تجربة قاسية عند سقوط الثلوج وكان الاهالي يتندرون علينا، معتبرين المسير في الشتاء وفي يوم سقوط الثلوج مخاطرة لا يقدم عليها الا الشيوعيون. لقد خسرنا عدداً من الأنصار عند سقوط الثلوج حيث البرد وصعوبة الوصول الى المكان المطلوب وكان من أول هؤلاء الرفيق ظافر السلامي (أبو مسار). لم تكن ملابسنا واقية من الثلوج ولا الجواريب، فيما كانت أحذيتنا المسماة سمسون مصنوعة من مطاط رديء.
في الربيع لاتزيد درجة الحرارة عن 25 م، وتكون الحياة أجمل وأبهى بالأشجار الكثيفة والحشائش التي تمتد على مد البصر، بالأزهار الجميلة ولاسيما النرجس المنتشرة على سفوح الجبال والوديان، زاهية الألوان، عبقة بالجمال. تتفتح أيضا أزهار اشجار اللوز وأشجار الفاكهة المثمرة المختلفة، وتصدح العصافير والطيور بأشكال التغاريد الجميلة. ويأتي الفلاحون والأنصار ليحتفلوا بالرقص والغناء، فتعزف المزامير وتقرع الطبول وتؤدى الدبكات الكردية التي تتحرك فيها الاقدام والكتوف والأيادى بتنسيق جميل لراقصين يشكلون نصف دائرة. أبهى الأعياد كان عيد نوروز اليوم القومي للشعب الكردي، يوم النصر على الظلم والطاغوت.
كانت بساتين كردستان زاهية بالخوخ والكمثرى والتفاح والآجاص والعنب والتين، إضافة الى الخضروات من الخيار والطماطم والخس والرقي والبطيخ والقرع والباذنجان. وكانت تلك البساتين مصدراً لغذاء الأنصار خاصة في الصيف. عندما ندخل بستان ما يدعونا صاحبها لنأكل مانريد، لكنه لا يسمح لنا بأن نقطف ونحمل معنا شيئاً. كانت البساتين منظمة ومرتبة زراعيا بشكل جيد، فالمياه متوفرة من العيون الكثيرة والجداول الصغيرة. كما كنا نستفيد من الفطر الذي ينمو اثناء المطر واحيانا في الخريف.
في كردستان يزرع التبغ. أفضل أنواع التبوغ ، كان يزرع في جبل كارة وقراها، فجودة التبغ تعتمد على نكهته التي تستمد من طبيعة الأرض والمياه وطريقة زراعته. كما كانت التبوغ التي تزرع في السليمانية ذات جودة عالية. شجرة التبغ لها أوراق كبيرة اكبر من ورق الخس، تقطف وتجفف لفترة محددة ثم توضع في باقات مرتبة على شكل طبقات ومربوطة مع بعضها وتنقل الى مناطق اخرى.
تنقل الأوراق المقطوفة من المزرعة إلى مكان تجفيفها وتنشر على الأرض إلى ان تصفر الورقة، ومن ثم تنقل الى غرفة خاصة أو مغارة، ترش بالماء وتغطي بأشياء ثقيلة (الحجر) لمدة يوم واحد إلى ان تلين الورقة ومن ثم تجمع على شكل طبقات كل واحدة على حدة، ومن ثم توضع كلها بشكل دائري وتبقى لفترة طويلة في هذه المرحلة لتزداد نكهة التبغ وبعدها تبدأ عملية نقله الى المدن و بيعه.
كما استعان الأنصار بجهود البغال وهو الحيوان المناسب للجبل والتنقل ومنها نقل الأرزاق والحمولات والأسلحة وغير ذلك ، وفي كافة القواطع بنى الأنصار (زريبة للحيوانات) واطلق على البغال والخيول اسماء مختلفة بما فيها اسماء مسؤولي النظام السابق ولاعبي كرة القدم المشهورين. وتعلم الأنصار كيفية تحميل البغل وربط الحمل بشكل جيد، إضافة الى الاهتمام به، وقد اعطى بعض الأنصار وقتا في العناية بهذه الحيوانات.