مدارات

وداعاً "عمو حدًون" ! / عدنان عاكف

فجأة صاحت زوجتي: ومتى حدث هذا؟ قلت بدون ان التفت نحوها: حدث في مثل هذا اليوم....... ابتعدت عني وهي تردد " إنا لله وانا اليه راجعون".
قبل ان أستوعب ما يدور حولي اقتربت ابنتي لتسأل عما حدث. وقبل ان تسمع الجواب كان ابني يقف بين امه وأخته وأعاد السؤال:
من الذي مات هذه المرة ؟ فقالت زوجتي:
عمو حدّون!! ألا زلت تذكر عمو حدّون؟ .. و"عمو حدّون" هو اسم الدلع الذي اكتسبه د. غانم حمدون حين كنا نقيم في الجزائر.. وكان ابني الأصغر لم يبلغ الثالثة من عمره حين ابتدع هذا الاسم.
نزل علي اسم "عمو حدّون" كالصاعقة .سألت بصوت خافت:
- ومن أين جئت بهذا الخبر ؟
- كيف من أين ؟ من عندك طبعا. وقفت خلف ظهرك ورحت اختلس النظر .
- دليني على كلمة واحدة توحي باني كنت أكتب نعيا .
- كيف ؟ المقالة عن غانم وتكتبها في مناسبة 31 آذار. وأنتم لا تكتبون في هذه المناسبة إلا عن السجون والشهداء.. فليس من المعقول انه مسجون في لندن!
.. تعرفت عليه عن قرب خلال دعوة عشاء عند صديق مشترك.. قبلها كنت التقيته في مقر " طريق الشعب "، وفي الثقافة الجديدة. وفي جميع هذه اللقاءات كنت ضيف صدفة او زائر متطفل.. وعلي ان أعترف اني لم اكن اتخيل ان هذا الرجل هو غانم حمدون الذي أسمع عنه. كان بملابسه الأنيقة وبشرته البيضاء، وابتسامته الطيبة، وصلعته البهية أقرب إلى عميل في المخابرات ، منه إلى مناضل شيوعي...
توطدت علاقتي به في الجزائر. التقينا في شقة أحد الرفاق. بعد أن تعانقنا سألني:
وكيف الحال هناك ؟ فقلت أين: هناك ؟ قال: ألم تكن في جهنم ؟ لقد قرأت الفاتحة على روحك أكثر من مرة...
مد يده في حقيبته المصلاوية التي لا تختلف كثيرا عن حقيبة أي تلميذ في الاعدادية ، وأخرج منها بيان، مع قائمة بأسماء العشرات من المعتقلين في سجون النظام الدكتاتوري، ونبأ عن فقداني.. يبدو انه قد حصل خلط بين اسمي واسم أخي د. حسان، الذي أعتقل في حينه.
في هذا الاجتماع بدأت أتعرف عن قرب على بعض خصال أبي ثابت. أولها التواضع الذي يصل حد النرفزة. كان ( كما أظن ) أكبر الحاضرين سنا، وأكثرنا تجربة وأطولنا باعا في العمل الصحفي وفي المجال الثقافي السياسي، ولكنه كان صاحب اللسان الأقصر، و الصوت الذي لا يكاد يسمع . وقد عرفت في ما بعد أن مبدأه في مثل هذه الفعاليات هو: " السكوت من ذهب ". وبما انه مصلاوي قح ويقدس الذهب ، فقد كان لا يتكلم إلا بأجزاء المثاقيل..
سألني ذات يوم عن ما يشغلني فأخبرته اني انتهيت من ترجمة كتاب عن الطوفان العالمي. فسألني: وما قصة هذا الطوفان . وراح يمطرني بالأسئلة.
في الصباح عاد إلى قسطنطينة، وفي المساء اتصل بي المرحوم د. عبد اللطيف الراوي، وطلب معلومات عن الكتاب ..
وبفضل جهود ومتابعة عمو حدّون صدر الكتاب في دمشق..
قبل ان يغادر الجزائر الى سوريا سألني عن ما يشغلني. قلت اني مشغول بترجمة كتاب عن " الحياة الروحية في بابل " . فقال عز الطلب. فقلت:
- ولكن المشكلة انه مبني على شعر أهل بابل، وهذه مهمة صعبة بالنسبة لشخص مثلي.. فقال: قد تكون كذلك، ولكن فوت بيها وانا معك. فقلت:
- لست أديب كي أترجم الشعر، ولست من اهل التاريخ..قاطعني وقال: أتفق مع كل هذا. ولكن: اذا كنا متفقين على أهمية الكتاب، فمن سوف يقوم بترجمته سواك ؟ لا أحد.. لن أغادر الجزائر إلا والمسودة بيدي.. وصدر الكتاب، وما كان له ان يصدر لولا عمو حدّون. هل أبالغ بدوره؟ فقدت خمسة كتب شبه جاهزة ولم تنشر لأنه ابتعد عني..
ذات يوم طرح علي سؤاله التقليدي من لندن وأنا في حلب: ماذا تفعل الآن ؟ فأجبته: ابتليت بكتاب قديم ممل مزعج باللغة الروسية عن بلاد الرافدين عنوانه: " العبودية في بابل ".. في نفس اليوم يتصل ليخبرني بأنه تحدث مع علي الشوك، فأخبره بان مثل هذه الدراسات تكاد ان تكون معدومة باللغة العربية.. الكتاب من الحجم الكبير – 495 صفحة - ، ما زالت ترجمته تقبع في أحد الأدراج، لكن مقالتين قد نشرت في الثقافة الجديدة.. لم اجد جهة داعمة لنشر مثل هذا الكتاب إلا المفلس غانم حمدون!..
في نهاية صيف عام 2003 التقيته في مقر طريق الشعب، بعد غياب دام نحو 15 سنة... وتكررت اللقاءات.... وقبل أن أسأل قال بنبرة حزينة وهو ينظر الي بعينين رطبتين:
ـ أنت تعرف، ليس لي عائلة ولست مسؤولا عن أطفال في الخارج. وقد جئت لأبقى. ولكن قل لي كيف يمكن لمن ابتلى بمثل ما انا فيه، ان يعيش هنا لوحده ؟
كان ذلك لقاءنا الأخير ..آخر مكالمة بيننا كانت قبل اسبوعين. اتصل بي بمساعدة صديق .. كان صوته متقطعا وذاكرته مشوشة..
انهض يا أبا ثابت والق نظرة عابرة على هؤلاء الذين اجتمعوا ليودعوك وستجد ان عائلتك الحقيقية هي الأكبر!!
ملاحظة: تحدثت عن المواقف الصغيرة التي يفتقر اليها الكثير منا ولا يعيرها في حياته اهتماما ما.