مدارات

صوت غانم حمدون / فخري كريم

رحل غانم حمدون، محمولاً على محبة جيلٍ عاش متعة زمن جميلٍ واعد، وجيل أنهكته مرارة واقعٍ رثٍ يزدري القيم والمبادئ التي جُبِل عليها . أمس الاول تسلل من غفوته المضنكة الى الراحة الابدية، حيث لا مكان فيه للقلق من لصوص المقابر الذين يزدرون الحياة وهم يفتشون عن لُقى الموتى بعد أن أمعنوا في تجريدهم من القدرة على الاحتفاء بمباهج الحياة ورحمتها . وإذ يتظلل غانم حمدون بالراحة الابدية، مخلفاً كل ما يجسد صورة الانسان حيث ينبغي أن يكون عليه، خلافاً لأشباه البشر "عِث الحياة"، يظل العراق حيث عاش حمدون ومجايلوه مجد أزمنته الجميلة، أسير أشباه البشر هؤلاء الذين يواصلون تلويث بيئة حياتنا، ويتفننون في محاولة تجريدنا مما تبقى لنا من أمل مرتجى .. أيمكن أن أشيعه، دون ان أستعيد لمحبيه، ومن بريد تمثُّل قيمه ونزوعه الانساني ما كان عليه غانم حمدون في الحياة حتى اللحظة الاخيرة.
وهل لي ان أقول فيه وأنا أسير لحظة وداعه غير ما كتبت، محاولة تقيم مثلٍ جديرٍ بأن يحتذى :
تجاوز عمر «بشيره الشيوعي»، بسنوات، وسبقه إلى الحياة، بسنواتٍ أيضاً، دون أن يتقصد متابعة ما يجري من حوله، لبلورة المشروع الذي اصبح هاجسه، وحلم حياته. في السنوات المبكرة التي شبّ فيها صبياً، ساهمت جماعة «الصحيفة» الماركسية في التمهيد الفكري، مثلما مهد الحراك العمالي والنقابي والوطني العام لإعلان التأسيس الرسمي للحزب الشيوعي العراقي في ٣١ آذار ١٩٣٤.
ولادة غانم حمدون في منتصف عشرينيات القرن الماضي، رافقت التمهيد لذلك الحراك الذي أضفى عبر ثمانين سنة نضالية، طابع الديمومة والنشاط المتعدد الجوانب على الحركة الوطنية، واشاع مناخاً من المناعة عليها، بما أُحيطت به من نهضة في الوعي الجماهيري، والجسارة في التصدي للمهام الكبرى، التي تضع في الأولويات السياسية التحرر من ربقة الاستعمار، والعمل من اجل اطلاق الحريات، والمطالبة بالعدالة الاجتماعية.
لا يختلف اثنان في تقييم نبل هذا الإنسان المطبوع على التواضع والخلق الرفيع، والاستعداد لبذل ما يستطيع لاعلاء قيم الحرية والمساواة، وتكريس المبادئ التي تجعل من الانسان، بغض النظر عن اي توصيف ديني او مذهبي او عرقي، مركز الاهتمام الذي تدور حوله، وتخضع له محاور الحياة وخيراتها.
عرفته في مطلع شبابي، من بعيد. لم تكن ملامحه الجدية تغري بالاقتراب منه. وربما أوهم بما يبدو عليه من صرامة، بالتعالي.
وظل لسنوات على مسافة، لم أتجاوزها حتى بعد أن تداخلت المهام، وصار ممكناً البحث عمّا وراء الصرامة في الملامح، والاقتصاد في متابعة الحديث، من تعبيرٍ عن الخصال الحقيقية التي لا تجسدها المظاهر الخارجية للإنسان.
بين عنفوان الشباب واندفاعاته، وحسابات الكبار وتردّداتهم، صار التوجس خيطاً رفيعاً، يثير من التساؤلات ما يحول دون التقارب وبناء المشتركات الإنسانية، وظل الهاجس والتوجس بيننا، يخف ويتورم تبعاً للمناسبات التي تجمعنا في ظل ظروف العمل الصعب والمأزوم والمتشابك، والملاحقات التي كانت تزداد وتتصاعد.
من بعيد، أو وهو قريب، لم تتغير صورته، ولا اختلفت سجاياه، ولم أحاول ان أُخضعه لدواع لا علاقة لها بما يشكله هو من كينونة إنسانية، وما يراه من تقييمات للناس والأشياء التي تشكل دائرة حياته الضيقة، شغوفاً بالموسيقى الكلاسيكية، وإغناء حقيبته الفكرية والثقافية والفنية. لم تثرني إشارات اصدقاء بـ»حنبليته» أو ما يسمى بلغة المثقفين والسياسيين، بـ»دوكمائيته»، واعتبرت تلك من الصفات التي تضبط إيقاع إنسان، وظل هو يتردد بين التحرر من أسر النمطية المتشددة، والانسياق وراء مخاوف وقلقٍ لا يخفيهما، حتى انه يجاهر بما يستطيع أو لا يستطيع تحمله في مجابهة صروف الحياة والعمل وأعبائها ونتائجها.
لم أتصور أنني سأكون ضحية تشدده الفكري، وحنبليته في الدفاع عن عالمه القيمي، الفكري والسياسي، وقراره في ان يتخلى عن عشرة عمر، ونضالٍ مشترك، متوهماً انني، تسببت في خسارة الحزب، اصواتاً كان ممكناً ان يفوز بإضافتها الى رصيد أصواته بمقعد نيابي إضافي!
في قرارة نفسي، شعرت باعتزاز داخلي دون ان أُفصح عنه، ها نحن نعيش وسط خرابٍ يُطبق علينا من كل طرفٍ، فيفسد أجواءنا، ويحيل حياة العراقيين الى جحيم ومعاناة لا تنقطع، ويبقى وهج الماضي المزدان بالقيم والمبادئ، يضيء، وتتفتح تحت أنواره قامات، لن تجد طعم حياتها الا في الذود عن خياراتها. وأي خيارات اسمى من تجاوز الذات وما يراه الآخرون ضرورة، والإمساك بالمُثُل بالنواجذ، واعتبارها الخط الفاصل بين ان تكون أو لا تكون، بشراً سوياً، تزهو متعالياً على الصغائر التي تذروها الرياح، ولا تبقي منها غير الفضلات التي لا تصلح علفاً..؟!
غانم حمدون، صوتٌ من ذلك الزمن الذي كان الواحد فيه، ممّن رأى ان إنسانيته لا تتكامل، إلا اذا اندمج في الكينونة الجمعية، وكرامته لن تصان، إلا اذا صارت جزءاً من كرامة المجتمع، وحريته لن تتفتح الا اذا جسدت إرادة الآخرين.
مثل الآلاف، ومئات الآلاف من العراقيين، الذين منح الآلاف منهم حياتهم بزهو دفاعاً عن وطن أرادوا ان يكون حرّاً، وعن شعب ارادوا له ان يكون سعيدا، ظل غانم حمدون يطوي الحلم الاول ذاك في ضميره، يستعصي على المكاره وضغوطات الحياة، مشدوداً الى مستقبل، يُدرك انه ليس على تلك المسافة التي يمكنه ان يبشر بانها ها هنا في متناول العين وقبضة اليـد!
طوال سنوات المنفى، كان يسألني بين فترة وأخرى، وهو يشاركني سكني المتواضع في دمشق «هل الرسالة في مكان أمين»؟
كنت أطمئنه دائماً وانا ابتسم، وربما كنت أخرجها ليطلع عليها سليمةً، لم تتخدش فلا تُقرأ. ولم تكن الرسالة، غير وصيته في تسليم حزبه رصيده الذي ادخره من كَدّه طوال سنوات العمر، ولم تكن قليلة في حساباتنا يوم ذاك، وحتى الآن.
احياناً كنت أمازحه بالقول «مصلاوي .. اصرف»، وجوابه المبتسم: هذه الأموال تنفع الحزب، وانا مكتفٍ !
لكن مصلاويته المحببة، وميله الى التقشف الشخصي، لم تكن تمنعه من تقديم مساعدات سخية لأصدقائه ورفاقه، وقروضٍ لا تُرد!
غانم حمدون قرر قبل فترة قصيرة ان يبيع بيته في العراق، ويحول قيمته الى الحزب.
ليس هذا فحسب، بل اختار ان ينتقل الى دار المسنين، دون ان يخطر في باله ان يستعين بما لديه من مالٍ على عيشٍ باذخٍ، يبتهج فيه ويرفل بسعادة انسان لا يرى العالم من حوله الا وهو مركز دورانه وسر وجوده!
غانم حمدون، سلاماً ايها الصديق، دُم على وفائك المضيء، فانت أفضل مني!
ـــــــــــــــــــــــ
«المدى» - 25 شباط 2017