مدارات

د. فارس كمال نظمي في منتدى "بيتنا الثقافي" .. تحليل سيكولوجي – سياسي للحركة الاحتجاجية

رشيد غويلب
يتسع الاهتمام بالحركة الاحتجاجية المستمرة بدرجات مختلفة، ويثار نقاش واسع وجدل حول التنسيق الجاري في ساحات الاحتجاج بين التيار المدني والتيار الصدري.
ولتسليط الضوء على الجوانب النفسية والاجتماعية الفاعلة في مسار الاحتجاجات، ضيف منتدى بيتنا الثقافي في ساحة الأندلس ببغداد، الخميس الفائت، الباحث الدكتور فارس كمال نظمي للحديث عن التقارب "المدني الصدري" وتحليل سايكو – سياسي للحركة الاحتجاجية.
وشهدت الأمسية حضورا نوعيا واسعا ضم نخبة من المختصين والأكاديميين والمتابعين تقدمهم الرفيق رائد فهمي سكرتير اللجنة المركزية للحزب الشيوعي العراقي وعدد من الرفاق في قيادة الحزب، كما حضر الأمسية عدد من الإخوة في التيار الصدري.
أدار الأمسية الإعلامي عماد جاسم، الذي رحب بالحضور وبالضيف الباحث، وقدم عرضا للسيرة الأكاديمية والإبداعية للدكتور نظمي، وأكد على أهمية إجراء مثل هذا الحوار المفتوح، واثار جملة من الأسئلة المتعلقة بمادة الأمسية.
في البداية عبر نظمي عن سعادته في الحديث امام هذا الجمع الطيب، وأكد انه ليس غريبا على الحزب الشيوعي العراقي إثارة الاهتمام بقضايا مهمة من هذا النوع.
وبدأ بتعريف الاحتجاج بوصفه ظاهرة معقدة على مر التاريخ، بدءاً من الاعتراض الفردي وصولا إلى الثورات الاجتماعية. وان تاريخ البشرية هو تاريخ الصراع الاجتماعي – السياسي. وان قاطرة التاريخ والتقدم تسير بفعل نزعة الاحتجاج.
وقال ان الصراع في العراق لن ينتهي بسرعة، فهو يدور بين سلطة ومجتمع غير متعافيين: سلطة مليئة بتراكم أمراض السياسة، ومجتمع مقيد بالعدمية والاستلاب. ولهذا فان اي خطوة على طريق الاحتجاج هي مهمة.
ثلاث نزعات اساسية
و يفهم الاحتجاج، حسب نظمي، ضمن اطر منها الهوية الوطنية، والذاكرة، والحرمان، والبطالة والوعي الزائف كحاضنة اجتماعية لعرقلة الاحتجاج، حيث يبرر المظلوم للظالم أفعاله.
وأوضح أن هناك ثلاث نزعات حددت سلوك الفرد في العراق الحديث: الأولى هي النزعة العلمانية الاجتماعية وهي تختلف عن العلمانية السياسية، وبموجبها يقيم الفرد علاقته مع الناس على اعتبارات اقتصادية، وعائلية بعيدا عن التقسيمات الطائفية والدينية وهي نزعة مرافقة للعراقيين الى الان. والنزعة الثانية هي النزعة المازوخية: والمقصود بها نزعة الخنوع والاستلاب وتبرير الظلم الاجتماعي والاصطفاف مع الظالم، وتعبر عنها بالعراقي فكرة "احنه مو خوش ناس". أما الثالثة فهي نزعة الاحتجاج والتغيير.
وتابع نظمي قائلاً: لقد تفاعلت هذه النزعات بدرجات مختلفة وشكلت سلوكية الفرد العراقي، وتصدرت النزعتان العلمانية الاجتماعية والاحتجاجية شعور الفرد العراقي طيلة الفترة الممتدة ما بين 1921 - 1963. لقد اتسمت هذه العقود بانتشار النقابات والمنظمات الديمقراطية، وصعود الشعر والثقافة والفن. وأدى انقلاب 8 شباط الأسود عام 1963 إلى إيقاف استمرار نزعة الاحتجاج وكسر شوكتها، وفتح صفحة البؤس والخوف والعجز. ويعد الانقلاب حدا فاصلا بين عصرين. حيث ادى قيام البعثيين والحرس القومي بتصفية الحركة الديمقراطية وايقاف قاطرة التطور الاجتماعي السوي. وارتفعت نزعة الخنوع والاستسلام، مقابل انخفاض نزعة الاحتجاج، وبقيت النزعة العلمانية تراوح بين الاثنين
عراق ما بعد 2003
وأكد نظمي في معرض حديثه، أن النظام الجديد قام على أساس التقسيم الطائفي والإثني، الذي أنتج التطرف والعنف ودولة فاسدة فاشلة وتعميق الوعي الزائف، اي التدين الزائف من خلال العلاقة بأحزاب الإسلام السياسي. واستمرت هذه المرحلة الى عام 2010، حيث تشكل في حزيران من هذا العام فعل نوعي، باندلاع موجة احتجاج هي الأولى منذ عام 1963 ، مع عدم اهمال النضال السري للأحزاب المعارضة، ولكن الحديث يجري عن المشاركات العامة، وهنا انبعثت نزعة الاحتجاج وتراجعت نزعة الخنوع، واشرت هذه الاحتجاجات خمس مسائل جوهرية: ان النظام السياسي مسؤول عما يحدث، وان الوضع القائم مفتقر الى الشرعية، وهناك ضرورة لازالته وان السكوت باهظ الثمن، وتعززت ثقة المحتجين بقدرتهم على التغيير. لقد حدثت نقلة في الوعي السياسي.
تظاهرات 25شباط
وبين: اضافت تظاهرات 25 شباط 2011 ،التي مرت ذكراها السادسة قبل ايام، والتي تأثرت بالربيع العربي، وهذه التظاهرات اكدت بالاضافة الى ما سبق، الفقدان شبه الكامل للثقة بالسلطة، وانها لا تمتلك الحقيقة. وعبرت الشعارات المرفوعة عن رغبة صادقة في التغيير، واعادت إلى الأذهان فكرة الوطن، واستعادة الثقة بالنفس، وتراجع الهويات الفرعية. وشهدت هذه التظاهرات استخدام العنف المكشوف ضد الشبيبة المحتجة.
موجة الاحتجاجات الأخيرة
وقال: في 31 تموز 2015 اشعل المدنيون الحركة الاحتجاجية من جديد، لارتباطهم بالثقافة والوعي، فهم ورثة الحركة المدنية في تاريخ العراق الحديث، وجاءت الاحتجاجات تضامنا مع متظاهري البصرة وغضبا على استشهاد الشاب منتظر الحلفي، وهي مستمرة منذ 77 أسبوعا، وجسدت فكرة ان الأقلية تنقذ الأكثرية، من خلال ادانة الوعي الزائف، وانه ليس بديلا للعلاقة بين الإنسان والسماء، وان الكذبة قد انتهت، وبدأ زمن الإدانة السياسية. لقد عكس الطور الجديد للاحتجاج قيم المثابرة والصبر والأمل والتريث وان التغيير ليس ميكانيكيا، وهناك تباين بين الزمن الاجتماعي والزمن الفيزيائي، وهو ملتف بعوامل التغيير والأمل، مثلما بعوامل الخيبات والإحباط. واتسمت الحركة بالسلمية والنضوج وقدمت نموذجا أخلاقيا مختلفا. وشدد الباحث على الطابع الأفقي لهيكلية الحركة، وان الحركة تسعى الى تحقيق الإصلاح في اطار الدستور، وإنهاء الطائفية والفساد والحرمان، وإعادة توزيع الثروة على أسس عادلة، اي خلق هيمنة ثقافية جديدة كما هي عند المفكر الشيوعي الايطالي غرامشي. وبهذا السعي تم كسر العدمية والعجز، وطرح مشروع ثقافي لاستعادة الوطن والعدالة الاجتماعية، باعتباره بديلا لكل المشاريع التي حكمت العراق منذ شباط 1963 .
مشاركة الصدريين واللحظات الفارقة
بعدها تناول نظمي الصفحة الثانية من الاحتجاجات والتي تميزت بمشاركة التيار الصدري، والتقارب الذي نشأ ميدانيا بين المدنيين والصدريين، وما رافقه من تساؤلات ومخاوف، وهل مشاركة الصدريين تمت لاسباب نفعية، ارتباطا بتجربة التيار الصدري السياسية وممارساته بعد 2003 ، وخصوصا في سنوات الصراع الطائفي التي اتسمت بالتطرف والعنف، وان هذه التساؤلات مشروعة وتحتاج الى إجابات وحوار واضح وصريح قائم على مرتكزات موضوعية. وشدد الباحث على ان التقارب بين المدنيين والتيار الديني ليس جديدا، ولم يشهد تاريخ العراق الحديث صداما بين التيارين المدني والإسلامي، باستثناء حالات فردية. والبعثيون هم من أشاع العنف في العراق. وفي هذا السياق قدم الباحث تحليلا لأهم المحطات في الاحتجاجات بعد مشاركة الصدرين وبدأ من مشاركة السيد الصدر في تظاهرة ساحة التحرير مرورا بدخول البرلمان، وبناية مجلس الوزراء والاعتصام الذي شهدت ايامه حوارات ولقاءات بين المعتصمين من المدنيين والصدريين ساهمت في تبديد الكثير من المخاوف. وكذلك صدور صحيفة الاعتصام الوطني، التي ساهم في كتابتها اسماء مدنية معروفة بضمنهم الباحث نفسه.
وأكد أن العراق بلد يعطي مثالا للتعايش السلمي، ولتعميق هذه الموضوعة ذكر الباحث بعدد من الشخصيات الدينية التي لعبت دورا تنويريا ودافعت عن دولة المواطنة والمؤسسات مثل السيد جعفر ابو التمن، الذي انضم إلى جماعة الأهالي التقدمية، والتي عدها الباحث لحظة فارقة، ونقل الباحث عن ابو التمن قوله "الشيوعية تسعى الى الترفيه، وهذه هي شيوعيتي". واللحظة الفارقة الأخرى هي الدور الذي لعبه الشيخ عبد الكريم الماشطة في تأسيس حركة أنصار السلم اليسارية في عام 1954. ولحظة فارقة اخرى ارتبطت بتشكيل الحكومة العراقية بعد احداث وثبة كانون الثاني 1948 من قبل رجل الدين المعروف محمد الصدر.
ومن جانب آخر اشار إلى ما ورد في الجزء الثالث من ثلاثية حنا بطاطو "العراق" بشأن انحدار ثلث اعضاء اللجنة المركزية للحزب الشيوعي العراق في سنوات 1955 – 1963من عوائل دينية ، لعل ابرزهم سلام عادل، وجمال الحيدري، وعامر عبد الله. وتحديد اللحظات الفارقة هنا يجري على اساس المنظور النفس - الاجتماعي وليس السياسي. ان ما تم ذكره يؤشر انه يمكن ان يكون لأفراد العائلة الواحدة مواقف سياسية مختلفة. وان دوافع الشعور بالظلم عند الناس واحدة بغض النظر عن الايديولوجية والعقيدة الدينية.
وانتقل الباحث بعدها لتناول مفهوم اليسار باعتباره مفهوما يتجاوز الأيديولوجيا والتدين، وبالنسبة له فان اليسار يتلخص في مواجهة تغول رأس المال والبحث عن العدالة. وقدم الباحث تميزا بين التشيع العلوي، الذي اعتبره عراقيا بامتياز واشكال التشيع الأخرى.
سمات التقارب بين التيارين
وقال: إن ما افرزه هذا التقارب يتلخص بكون الاحتجاج فضاء عاما يتجاوز المعتقد الشخصي. وتنامي الوعي السياسي، وانتقال البلاد من هيمنة الفكر الطائفي إلى فكرة الوطن العراقي، وتحويل اطار الصراع من شكله الطائفي الديني الى فضائه الطبقي، ونزع القدسية عن أحزاب الإسلام السياسي، وافتراق المرجعية الدينية في النجف عن هذه الأحزاب، بتأكيدها على "لا حصانة لاحد". ويرى الباحث ان المرجعية لعبت دورا دينيا مرتبطا بتقاليدها.
وفي تناوله لملف الانتخابات كرر موضوعته عن امكانية انبثاق "كتلة تاريخية" تجمع البنى التحتية التي هي عنده تحالف الفقراء والمحرومين، والبنى الفوقية التي هي المنظمات المدنية والحركات الاجتماعية، وممثلي الأقليات في الفضاء الوطني. وتساءل عن إمكانية السعي لتشكيل مثل هذه الكتلة بهدف تحقيق الأهداف التي تمت الإشارة اليها. وفي ختام المحاضرة أكد نظمي انه "بعد اكثر من 50 عاما بدأ الزمن الاجتماعي يسير نحو المستقبل"
بعدها قدم عدد من الحضور مداخلات ركزت على المخاوف والمعوقات في مسار التقارب بين التيارين. وفي معرض رده على مداخلات واسئلة الحاضرين، شدد الدكتور فارس كمال نظمي على ان منهجية محاضرته نفسية - سياسية. وان الكرة في ملعب التيار الصدري وخصوصا زعيمه مقتدى الصدر، والمراجعة هي في مصلحة الصدريين، ولكن عليهم اولا مغادرة التحالف الوطني بشكل نهائي، والتأكيد على المشروع الوطني. والاستنتاج الاخير الذي طرحه الباحث هو ان المستقبل لمشروع اليسار.
في الختام قدم الاستاذ عماد جاسم اشارات مختصرة لما يمكن ان يأخذه المتابع معه من هذه الأمسية شاكرا الضيف والحضور.