مدارات

أيام مفعمة بالحب والأمل ..(15) / فيصل الفؤادي

الثورة في عيون القيادة
في سؤال لي لأحد الأنصار عن شعورك وأنت كنت في كردستان، قال (حاتم ابو علي)-
ـ (صدقني يا رفيقي كنت أرى الثورة بعيون الرفيق ابو عامل، هذا الإنسان المحترم صاحب المشاعر الرفاقية الطيبة والذي يحترم رفاقه ويحترموه. وكان الرفيق توما توماس احد الرفاق المعلن للثورة وساعتها، وقد شكل المكتب العسكري المركزي لقوات الأنصار الذي كان يقوده ابو عامل. في حين لا تجد عند البعض، وهم قلة من القيادة، شيئاً من تلك الاحاسيس والمشاعر، بل تراه جاء تنفيذاً للأمر كسخرة وليس هو القائد والمناضل الذي يجب أن يتحمل كل شيء، وتراه يختلق الحجج ليترك الساحة، فيما تجد أخرين، صبورين، لا يفكرون بأنفسهم برغم الشيخوخة والمرض. وقد عشنا سنوات في خضم هذا النضال. وكان الأنصار من اعضاء الحزب او الأصدقاء شعلة لهذه الثورة و لو كتبت لهم الظروف، لكانوا قيادة بلا شك في مفاصل الدولة من خبرة علمية وإدارية وقوة ارادة وتضحية وصدق ). لقد عاكستنا الريح ولم تضعنا في المصاف المطلوب لهذا النضال البطولي الشامخ .
بندقية وجبل ،
كيس تبغ
وأخر من الزبيب
ولتأت جيوش العالم .
(الشاعر عبد الله كروان)
لقد استشهد المئات من الأنصار ببطولة وكبرياء، حيث ضحوا بحياتهم من اجل حزبهم ورفعته، عاشوا بظروف صعبة، وهم يمتلكون الحرية في القرار والمواصلة، وهو يضفي على حياته القوة والعزم والإرادة، طائر في الهوى وفرش الأرض في الطبيعة ، وقد مر بزمن ضاغط ومرير لنظام وقوى فاسدة إنتهازية.
قوة النصير بفكره والقضية التي آمن بها وتحمل أعباء سنوات طوال، محروماً من ابسط الأمور الحياتية، تعود النوم على الاغصان وتحت اشجار البلوط والجوز، ورقد في الوادي وتحت الجبل الشامخ، قرب نهير صغير بمياه دافئة وزقزقة العصافير، تحت الغيوم وتحت رذاذ المطر المنعش، وبين الحشائش وهو يغوص في ذكريات ماضية وقادمة.
النصير الثائر والمقاتل الشجاع شخصية يهاب منه العدو وله قيمته امام الجماهير، حيث الجرأة والثبات والشهامة وتحمل المشاق .كما انه قدم نفسه شهيدا خالدا لحزبه ،من خلال تقديمه البطولة، وكان فخرا لنا ولأهله ولحزبه .
يوم في حياة نصير
بعد النهوض صباحا، يأتي الفطور الذي يتكون عادة من شوربة العدس او الجوز والمربى او الدبس والراشي وأحيانا اللبن الرائب مع رغيف من الخبز والشاي الذي هو ثابت في جميع الوجبات. وقد تطور الفطور حيث البداية كانت صعبة جدا، ولم تكن هناك غير شوربة العدس او 5 جوزات.
ثم تبدأ الواجبات اليومية من قطع الخشب الى الطبخ (الخدمة الرفاقية) والحراسات وتحضير الخبز او الخروج في مفارز قريبة (3 الى 6 ساعات) او بعيدة (عدة ايام).
ويتكون الغداء من البرغل أو الرز الاحمر (تمن مخلوط بمعجون الطماطم) وإذا وجدت رأس بصل فأنت على درجة كبيرة من الترف. أحيانا مرق عدس او فاصوليا او حمص او عدس او حميض (نباتات برية). أما اللحم فمرة واحدة في الشهر او في المناسبات الوطنية (عيد الحزب في 31 اذار وعيد المرأة 8 اذار وثورة تموز 1958 وثورة اكتوبر 1917 وأحيانا رأس السنة).
اما العشاء فيتكون من الدبس والراشي او اللبن او شوربة عدس مع رغيف من الخبز إضافة الى الشاي.
كانت مهمة إعداد اللبن من الحليب الجاف بعد تسخينه ووضع الخمرة فيه وتدفئته حتى الصباح، أمراً مهما. اما الدبس والراشي فيتم شرائه من المحلات القريبة من تركيا او ايران او بواسطة المهربين. شوربة العدس وهي سهلة التحضير حيث الماء والعدس ويوضع عليها الدهن مع البصل، وتعمل بكميات جيدة وكل ماعون لثلاثة من الأنصار.
الخبز يحضر بشـــكل إعتيادي اي عجـين من الطــحين والماء والخمرة، ويخبز على الصاج او في التنور، بعد تحضير الخشب او الحطب كوقود. ويتم خبز العدد المطلوب على ضوء عدد الأنصار وأحيانا يخبز عدد اضافي للطوارئ. ومن الطبيعي أن لا تكفي الانصار الذين يعملون يوما كاملا في الخدمة الرفاقية وقطع الخشب والبناء، وجبة كهذه خاصة الشباب منهم، ولهذا سمح للشباب تناول وجبه ثانية (اضافية) او إعطائهم زيادة في الاكل .
اما قطع الخشب خاصة بالنسبة للأنصار المتواجدين في المقرات الخلفية فيكون وفق جدول معد من آمر الفصيل والإداري، ويكون عادة في فصل الخريف والشتاء، حيث يتم تقطيع الخشب بعيداً عن المقر ثم يقطع الى عدة قطع وينقل على الكتف، وأحيانا ينقل بواسطة نصيرين اذا كانت قطعة الخشب كبيرة، وعادة يجمع الرفاق الخشب في الخريف لكي يتم تكسيره الى قطع صغيرة يتناسب مع حجم المدفأة الموجودة في قاعة النوم.
أما في المفارز، فتتكون المفرزة المتحركة من سرية او فصيل او اقل وعلى ضوء المهمات الملقاة على عاتقها. وتقوم بأعمال عديدة إستطلاعية وقتالية وكذلك للتوعية العامة والقيام بندوات سياسية ومعرفية لجماهير القرى بظروف الأنصار ووضع النظام الدكتاتوري واساليبه المعادية لهم ولتطلعات الشعب الكردي.
العمل اليومي في مفارز الأنصار فيه كثير من الإلتزام، حيث تتحرك المفرزة قرب الربايا والأفواج العسكرية او قرب المدن من النواحي والقرى القريبة منها. ولكن الأنصار وصلوا باندفاع كبير وهمة وتجاوزوا كل خطوط العدو (خاصة الطرق الرئيسية المعبدة ذات الخطورة العالية لسهولة تحرك العدو عليها)، أو خوض الأنهار (الروبار) عند المناطق الصعبة والتسلق على اعلى الجبال والسفوح والوديان والصخور خاصة في الليل.
المفرزة التي تتجول في مناطق كردستان من دهوك الى السليمانية وشمال ديالى وشمال كركوك وحتى مناطق قريبة من مراكز المدن المهمة، لها خصوصية في التنقل. ففي بداية عملها يكون التجوال في مناطق آمنة نوع ما. النهوض صباحا الساعة السادسة والخروج من القرى الى الوديان المعروفة سلفا، وهناك يجلس او ينام الأنصار مع تشديد الحراسة من قبلهم ووفق جدول معد من آمر المفرزة.
بعد الحرب العراقية الايرانية وانسحاب العديد من الأفواج والألوية الى الجبهة، توسع العمل وتحرك الأنصار بشكل افضل وفي مناطق واسعة من كردستان، حيث تم الوصول الى النواحي القريبة من المدن الرئيسة. وعندما يكون لديهم هدف معين، كربايا أجهزة القمع او مقرات الحزب الحاكم، يستطلع الأنصار المكان لاكثر من مرة ، ثم يخططون للعملية ويقومون بالتنفيذ.
يجري الأنصار من خلال قيادة المفرزة لقاءات مع ابناء المنطقة لمعرفة تحركات النظام وأزلامه، حيث ان الجيش والجحوش يدخلون بعض القرى في النهار بينما الأنصار والبيشمه مركة يدخلونها في الليل. كما و لأجهزة السلطة عيون كثيرة يدفعون لها مبالغ معينة لمعرفة تحركات الأنصار. وقد أنهكت هذه القضية نوعا ما الفلاحين والأهالي، حيث طالما هددهم النظام مطالباً اياهم عدم استقبال الأنصار أو مساعدتهم. كما شكلت ضيافة الجحوش في النهار والأنصار في الليل عبئاً على الفلاحين خاصة وهم فلاحون فقراء لا يملكون غير قوة عملهم وبعض المزارع البسيطة التي تسد حاجتهم اليومية من الخضروات او الفاكهة ، وبعض الحيوانات كالبقر والماعز.
عملت جميع المفارز تقريبا وفق هذا الترتيب، إلا المفارز التي لديها برنامج خاص بها ومنها التنظيم المحلي او المفرزة الخاصة. واتخذت بعض المفارز مقرات شبه دائمة في مغارات (شكفته) او مكان منعزل في الجبل او الوديان لنقل بعض الجرحى والمرضى اليها مع تطور العمل.
وقد شكلت المفارز العديدة في كردستان العراق التابعة الى ثلاثة قواطع، قوة كبيرة لا يستهان بها ، برغم ان السلاح لم يكن بالمستوى حيث السلاح الخفيف و المتوسط مثل (ب ك س وعفاروف وبعض المدافع 60 و 81 ). لكن هذه القوة لقنت ازلام النظام من جحوش وجيش وامن ومخابرات، دروسا في البطولة والتضحية والفداء.
يستلم النصير الضيف من العائلة التي تستضيفه في القرية الخبز والجبن والشاي والسكر. وعند إنسحابه الى الوديان الأمنة يقوم بتجهيز الشاي في علب معدنية. كانت لقوة شخصية النصير قيمة عند القرويين فهو الذي يدافع عن ابناء المنطقة من شرور نظام صدام الفاشي.
(النصير حالة من الوجود لا يشبهها اي شي أخر. التوحد مع الهدف والحرمان القاسي لأبسط متطلبات الحياة الادمية لسنوات، خلق مواصفات جافة لا يستسيغها في كثير من الاحيان إلا الأنصار انفسهم، ولا يزال البعض منا لا يستوعب متطلبات الحياة الاجتماعية الحالية، مما خلق الكثير من الصعوبات لهم) .
وأدت قوات الأنصار مهماتها وهي فخوره بها، لأنها دكت اعوان السلطة ومأجوريهم، الذين ينتشرون في المنطقة كلها، حيث تم شراء البعض وإغراء البعض ومنهم من هو بالأساس لا يحب ثورة الأنصار والبشمه مركة ...الخ.
يقول أحدهم في فلم جيفارا والكفاح المسلح (عندما يكره الناس الحكومة يسهل سقوطها). لقد عمل البيشمه مركة والأنصار بهذه الروح ومن اجل مساعدة الناس الفقراء في معيشتهم ومن اجل دعمهم للثورة.
غير إن هذه الحكمة لم تكن ماثلة دوما للعيان، حيث كان هناك أكثر من 450000 الف جحش مع النظام الدكتاتوري وضد شعبهم في تقرير مصيره ، وكنا نحن مع التنظيم المحلي ولجميع الأحزاب لايتعدى عددنا 20000 من البيشمه مركة والأنصار .
مهام أخرى
اللاسلكي
كان على الحزب ان يعمل على تعليم الرفاق مهمات العمل الأنصاري ومنها التدريب على جهاز اللاسلكي. وقد علم رفاقنا القدماء والعسكريين ومنهم النصير القديم والجندي الذي تعلم في العسكرية على جهاز اللاسلكي وطريقة التخابر مع اخرين، الرفيق أبو شاخوان الذي أشرف على تخريج دورة لهذه المهمة توزع افرادها على كافة القواطع، وأدوا المهمات بشكل جيد بل ودربوا غيرهم على هذا العمل السري للغاية والمتعب، فعامل اللاسلكي يسهر الليالي دائما ويغير الشفرة بين فترة وأخرى وبموافقة قيادة الحزب او القاطع المعين.
الطبابة وعمل الأطباء
التحق بقوات الأنصار عدد جيد من الأطباء، الذين تم توزيعهم على جميع القواطع والسرايا والأفواج. وفي بداية العمل الأنصاري قام بعض الأطباء في تأسيس طبابة حيث تم بناء غرف خاصة منها "مستشفى" صغيرة يرقد فيه المرضى وتوضع فيها الأدوية وما يحتاجه المريض من علاجات مختلفة. كان الإهتمام بهذا الجانب يكبر مع مرور الزمن. وتم الحصول على انواع الأدوية كالحقن والأمصال المضادة لسموم الأفاعي والعقارب وأدوية الإسهال والإمراض الاخرى الى جانب الضمادات.
وقد عالج الأطباء ليس فقط الأنصار وإنما ابناء القرى والمنطقة من أمراض مزمنة وأمراض معدية. ولعبوا دورا مهما حضي باحترام وتقدير الجماهير والأحزاب المتواجدة في كردستان العراق. ومن هؤلاء الأطباء الرفاق (عادل وأبو كوران وأبو فراس وأبو احسان وفارس وصادق وبشار وسليم وعامر وصلاح وأم هندرين ومريم وساهرة وناظم الجواهري وأبو يسار وأزاد وأبو رافد وأبو تضامن وأبو ظفر وأبو بدر) وكذلك الرفاق المساعدين من معاوني الأطباء وذوي المهن الصححية وغيرهم كالرفاق (ابو العقب وأبو تانيا وليلى وعائدة وجاويد وأبو اثير وفرهاد وأبو وحيدة وأبو بافل وسعد وصارم وأبو وسام وشورش وجوزيف وداود وأم بدر). لقد كانت تضحية الأطباء تضحية كبيرة، مثلما كان دورهم مهما بين الناس في القرى او بين الأنصار في المفارز والمقرات.
ولعب الأطباء دورا مهما في توعية الناس صحيا، ورفع الوعي بالوقاية من الأمراض وتحسين الغذاء. وأجروا العشرات من العمليات الجراحية الصغيرة التي انقذت الأمهات أثناء الوضع أو المصابين بالغنغرينا الى جانب الجرحى. وحالما يسمع الفلاحون بوجود طبيب في المفرزة التي تستضيفها قريتهم حتى يسارعوا للتجمع حولها وطلب المساعدة الطبية.
كان الحزب يرسل الأنصار الذين يصابون بمرض معين او يجرحون جروح بليغة في العمليات العسكرية الى دمشق او طهران لغرض العلاج، فلم تكن المستلزمات المتوفرة لإطبائنا كافية لإجراء العمليات الجراحية المطلوبة. وكانت منظمة طهران لحزبنا نشطة في مجال توفير مستلزمات ذلك. كما تم ارسال الكثير من الأنصار ومنهم الذين اصيبوا بالغازات الكيماوية كالخردل والسياند والذين تجرعوا سم الثاليوم الذي دسه النظام لهم في اللبن والمشروبات الى الخارج للعلاج. أذكر بأن جلاوزة الأمن أجبروا الشاب ميلاد على دس الثاليوم في زجاجة ويسكي وإرسالها الى أبيه بمناسبة أعياد الميلاد، مما أدى الى تسمم الأب وشفي بعد معالجته في الخارج.
وساعدت الأحزاب الكردستانية حزبنا في ذلك لأننا لم نكن نتعامل مباشرة مع الإيرانيين. ولم تكن تزكيات هذه الأحزاب مفيدة دوماً، فقد تم إعتقال عضو اللجنة المركزية الرفيق رحيم عجينة لأكثر من سنة والرفيق رحيم الشيخ لأكثر من اربع سنوات رغم دخولهم إيران بتزكية من الأحزاب الكردستانية، وشمل ذلك عشرات الرفاق الأخرين. لقد وضع الإيرانيون رفاقنا في السجن وتم التحقيق معهم وتعذيبهم وخرجوا بعد فترة وهم في حالة من المرض والإنهاك نتيجة هذا التعذيب منهم (النصير حسين داود (ابو زكي)، كما توفي بعض الرفاق الأنصار في مستشفيات ايران نتيجة المرض ودفنوا في مدافن الرضائية.