مدارات

الكهرباء في العراق.. آلام ومنغصات وحكايات لا تنتهي

قسم التحقيقات
"وطنية، مولدة، سحب، خط ذهبي، خط المجلس، جطل و..."، تتناسل مفردات الكهرباء في العراق، يبتكرها العراقيون من آلامهم، ومن محن نهاراتهم ولياليهم، ينحتونها بأزاميل أوجاعهم. يسخرون منها وتسخر منهم، فتصبح وتمسي معهم بصمات ميتة "لعيشة ميتة"، وتغدو حياتهم مع سخريتها كلها "جطل". يعجب أحد المتندرين من ضياع عمره قبل ظهور هذه المفردات الكهربائية العراقية الجديدة فيقول: "اللي شفتو أبل متشوفك عنيه، عمر ضايع يحسبوه ازاي عليه"!؟
ما زلنا نعيش في عصر "الفانوس واللاله والشمعة والمصباح اليدوي. عصر دخان "الفتيله" الأسود. ما زلنا في عصر المدفأة النفطية وادخار براميل النفط والگاز لبرد الشتاء، ما زلنا في عصر "المبرده والحلفه والماطور والواتربم والتحوير"، والسبب هو: "القهرباااااء".
انقطاع التيار الكهربائي يشاكس بين ساعة وضحاها التكنولوجيا أيضا. فمع حلول كل قطع تبدأ أجهزة الـ "يو بي أس" داخل الدوائر الحكومية بإطلاق صفارات الانذار لحث الموظفين على سرعة خزن ما كتبوه على "الوورد" في حاسباتهم الخردة، واذا "متسيف.. أيِّس".
زقزقزقة بات يسمعها الطالب والكاتب والطبيب والمهندس والموظف عشرات المرات في اليوم الواحد، وهي بديل واقعي عن زقزقة البلابل وطيور الحب والفناجس والكناري وفيروز.. "صُدگ فيروز وين صارت"!؟
داخل سيارة الكيا، تطاردنا "لعنة الكهرباء" أيضا. أحد الراكبين قال بنبرة جادة واسترخاء توحي بنوع من الأبهة والفخر: "أولادي جميعهم اعتادوا على المذاكرة في أجواء ساحرة جدا، أضواء خافتة، وكأنهم في حفلة تنكرية، وفي كل ليلة، يتجمعون في غرفة واحدة، رغم وجود غرفتين أخريين، ولكنهم اعتادوا على ذلك".
حدجه أكثر من راكب بنظرة لا تخلو من غضب، بل أن بعض الراكبين الجالسين خلفه مال برأسه وهز كفه ساخرا، بينما ندت من فم أحدهم كلمة: "بطران".. لكن البطران استمر بتباهيه قائلا: " أجواء كهذه تنشط العقل وتساعد على الفهم وتخلق أجواء فريدة للطلبة والتلاميذ".
أحد الراكبين من الصف الخلفي "طگَّت روحه" فقال بصوت مسموع: "ايييه، ناس تاكل دجاج وناس تاكل عجاج"!
"البطران"، من فئة آكلي الدجاج واصل "تبغدده" وقال: "من العصر انظُّف اللالات والفوانيس، ونمليهم نفط، ويتجمعون أولادي المساكين ويدرسون وسط الدخان الأسود والخنگه، والليل كله گحه وسعال وضيق بالتنفس، ومن يگعدون الصبح، العيون حمره، والوجوه امصخمه، وحالهم بالضيم يالتنشد عليه"!
السائق لم يتمالك نفسه فأطلق قهقهة عالية، ثم قال: "خل ياكلووون ما طول عمتنا الكهرباء بخيييير"!
تلاحقنا "لعنة الكهرباء" الى البيت دون شك. وهذه حكاية من ألف حكاية وحكاية..
وصل الى بيته ظهرا. كان مرهقا جدا. ودرجة الحراة تقارب الخمسين مئوية. تمدد على سريره. قبل أن ينام، سأل أمه العجوز: "وطنية أم سحب"؟ فردت أمه باستغراب: "وطنية!؟ سحب طبعا".
وضع رأسه على الوسادة. انقطع التيار الكهربائي ثانية. نهض من سريره متثاقلا باتجاه المولدة. حاول تشغيلها ، لكنها لم تشتغل. اكتشف أن خزانها فارغا، فملأه بالبنزين وحاول تشغيلها ثانية لكنها لم تشتغل أيضا. فتح صنبور الدهن وتركه ينسكب على الأرض. ملأ الخزان بالدهن وسحب حبل التشغيل مرارا.
في آخر محاولة لجر الحبل اشتغلت المولدة لكن الحبل انقطع. عاد الى سريره غاضبا وحاول أن ينام. توقفت المولدة فجأة واشتد الحر. نهض من سريره ضجرا. عاد التيار الكهربائي. سأل أمه العجوز: "وطنية أم سحب"؟ ردت أمه باستغراب:"وطنية!؟ سحب طبعا".
تقدم نحو سريره بخطى بطيئة. قبل ان يصل الى حافة السرير انقطع التيار الكهربائي. هرع نحو المولدة في محاولة يائسة لتشغيلها بعد أكثر من ساعة. عاد التيار الكهربائي. سأل أمه العجوز:"وطنية أم سحب"؟ فردت أمه باستغراب: سحب طبعا"!
"وعلى هالرنه اطحينك ينتل"!
طرگاعة التسعيرة
يرى البعض أن الحكومة تنفخ جيوب الفاسدين وتسرق مال الفقير.. ويضرب مثلا: تسعيرة الكهرباء أنموذجا! هل هو محق؟
البعض الآخر يرد عليه بإسهاب، يقول: "تعد الطاقة الكهربائية وانتاجها وتوزيعها مشكلة تطورت الى أزمة مستمرة واجهت الحكومات المتعاقبة. ومنذ احتلال العراق في 2003 تم صرف مليارات الدولارات على مشاريع ومحطات منها القديمة لتأهيلها وتطويرها، وأخرى جديدة، بعضها لم يكتب لها النجاح، الا لفترات محدودة. وتزداد الازمة سوءا كلما اقترب فصل الصيف وحرارته المعهودة ليصبح الاحتياج للكهرباء كالحاجة الى الماء والطعام وربما تكون اكثر مما يؤدي الى احتجاجات ومطالبات بتحسينها وتقديم الفاسدين المتنعمين بالكهرباء المستمرة على حساب الاغلبية والذين يتنعمون بحمامات حرارية طبيعية! "بعد اشيردون؟، وهم گولوا مو خوش المامور"!
"وعندما استلمت الحكومة الحالية كانت من خطواتها الاولى الاصلاح ليشمل جميع النواحي والذي يصب في الكثير من جوانبه لمكافحة الفساد والفاسدين الذين اثروا بين يوم وليلة على حساب من يعمل لقوت يومه واخرين لتمشية حياتهم بالكاد. وجاءت خطوة الاستثمار في مجال الانتاج والتوزيع للطاقة الكهربائية لتضفي جانبا ايجابيا لهذا الموضوع عبر تجهيز مستمر للطاقة الكهربائية ولمدة 24 ساعة وفق اسعار معينة بينما لا تزال هناك مناطق كما عهدناها في انقطاعات مستمرة. الا ان الأمر تطور الى أمور أخرى فالتسعيرة بدأت تأخذ منحى تصاعديا.. وباقتراب فصل الصيف الحار ستكون التسعيرة الجديدة ان تم تطبيقها أحر من شمس الصيف اللاهبة والتي تدرجت بناء على عدد الامبيرات التي يحصل عليها المواطن من 5 امبيرات مقابل 15 الف دينار و10 امبيرات بـ40 الفا و15 امبيرا بـ85 الف دينار.
وجاءت بعض المطالبات بإلغاء هذه التسعيرة وايقافها من نواب كتل مختلفة. فطالب بعضهم وزارة الكهرباء ولجنة الطاقة الوزارية بإيقاف العمل بالتسعيرة الجديدة لوزارة الكهرباء. ووصفها بأنها جاءت في وقت غير مناسب حيث يعاني المواطن العراقي ظروفا معيشية صعبة، وكذلك فان الكهرباء الوطنية لم تستقر حتى هذه اللحظة ويقوم المواطن بدفع اجور عالية لأصحاب المولدات الاهلية. ان تسعيرة الكهرباء الجديدة سيتضرر بسببها المواطن البسيط خصوصا وان وزارة الكهرباء اعلنت انها ستطبق هذه التسعيرة على مناطق تتوفر فيها الكهرباء على مدار الساعة ولكنها طبقتها على جميع المناطق في الوسط والجنوب رغم تدهور التيار الكهربائي والانقطاع المستمر وابتلاء المواطنين بدفع اجور عالية للمولدات الاهلية. لذلك لا بد من مراعاة الوضع المادي للمواطنين وعدم العمل بتسعيرة الكهرباء الجديدة. فالتسعيرة الجديدة للكهرباء لا تتناسب اطلاقا مع اوضاع النسبة الغالبة من ابناء الشعب العراقي في ظل الاوضاع الاقتصادية التي يمر بها البلد خاصة بعد انخفاض اسعار النفط في السوق العالمية. كما ان متطلبات الحياة كثيرة ومتشعبة وفاتورة الكهرباء جزء منها. فأي اضافات جديدة على قائمة الكهرباء ستؤثر بشكل كبير على المواطن في اموره الحياتية الاخرى، لذا فان على الحكومة النظر الى هذا الامر بنظرة شاملة وعدم تحميل المواطن اكثر من طاقته، خاصة وان الرواتب بعد الضرائب والاستقطاعات اصبحت بالكاد تدير أمور العائلة الاساسية".
خل نحسبهه احساب عرب
التسعيرة الجديدة تدرجت بناء على عدد الامبيرات التي يحصل عليها المواطن من 5 امبير مقابل 15 الف دينار و10 امبير 40 الفا و15 امبير 85 الفا. فهل بامكان شخص راتبه 60 الف دينار يعمل في وزارة الكهرباء ان يدفع لفاتورة كهرباء 85 الف دينار ؟ وماهي المعايير التي التزمت بها هذه اللجنة المشكلة لرسم هذه التسعيرة ومقارنتها مع الوضع الاقتصادي من ناحية والبيئي من ناحية اخرى؟
الاشكال الاخر الذي وقعت فيه الوزارة منحها قطاعي الانتاج والتوزيع لمستثمرين ليقوموا بالجباية وبالتالي ستكون هناك مواجهة شرسة ما بين الاهالي والمستثمر "والله اليستر من تصعد الحماوه بتموز"! وهو ما لا تحمد عقباه خلال الايام المقبلة. فالوزارة اعلنت وبعض المحافظات ونحن مقبلون على صيف بان ليس لديها القدرة على تأمين كهرباء لـ15 ساعة لذا لا يمكن القبول بتسعيرة الكهرباء الجديدة وتحميل المواطن اعباء اخرى. كونها خطوة غير موفقة لا تخدم حال المواطن وامكانياته المادية في ظل الظروف الصعبة التي يعيشها البلد.
«بس يگولون اكو حملة تواقيع بالبرلمان» !
ممثلو الشعب بدأوا بإجراءاتهم القانونية حول هذا الامر بجمع التواقيع اللازمة للتصويت على رفض التسعيرة الجديدة لوزارة الكهرباء والموجهة فقط ضد المواطنين بعد استثناء التجار والصناعيين وغيرهم منها. وطالب بعضهم الحكومة على شاشات الفضائيات بعدم اعتماد هذه التسعيرة وعدم تحميل المواطنين اعباء مالية اضافية لا تتناسب مع دخولهم الشهرية. "هم رحمة"!
مطا.... لبااااااات!
اندلعت المطالبات الشعبية المنددة بالتسعيرة، ناشطون في المحافظات نظموا مسيرات احتجاج، وبعض مجالس المحافظات رفض العمل بها. يقول "ابو احمد"، موظف متقاعد: "التسعيرة الجديدة عبء اخر مضاف إلى أعباء المواطن البسيط صاحب الدخل المحدود والذي بالكاد يكفي ما يتقاضاه لتمشية امور حياته وعائلته الاساسية. لذا أطالب بان يتم ايقاف هذه التسعيرة او تأجيلها لفترة اخرى عندما تتحسن الظروف الاقتصادية والمادية".
وعلى المنوال نفسه دعا جاسم عزيز"، وهو كاسب، الحكومة الى النظر بعين انسانية لشعبها وعدم تحميله امور اخرى قد تسبب مستقبلا امورا اخرى لا يحمد عقباها. واضاف ان "على الجهات الحكومية والمعنية العمل على مقاضاة الفاسدين ومحاكمتهم ومن سرق اموال الكهرباء والتي تقدر بالمليارات بدلا من تحميل الشعب وزر افعالهم".
من جانبه قال رئيس الوزراء حيدر العبادي في مؤتمره الصحفي الاسبوعي في 17 من شهر كانون الثاني الماضي بخصوص التجهيز اليومي بالكهرباء للمواطنين وأضاف:" لا زلنا على هدفنا بتزويد المواطنين بالكهرباء 24 ساعة وطبقنا الامر في مناطق عديدة ونجحت نجاحا كبيرا" مبينا ان "المليارات صرفت والكثيرين لم يستفيدوا في ظل وجود من لا يريد التجهيز 24 ساعة واكثر الاموال ذهبت إلى جيوب الفاسدين والاستمرار في التجهيز ضد الفاسدين"!
گبَّت بالفيس
انتشر خلال الايام الماضية عبر مواقع التواصل الاجتماعي مثل فيسبوك وتويتر، هاشتاك يحمل عنوان حملة رفض خصخصة الكهرباء، ويدعو إلى رفض مشروع خصخصة الكهرباء في المحافظات فيما اوضح مواطنون أنهم بدأوا بالإعداد لتظاهرات لرفض المشروع "المشؤوم" على حد وصفهم.
وأكد البعض ان حملة رفض خصخصة الكهرباء، أصبحت عراقية وطنية لرفض خصخصة الكهرباء، كما أن بنود المشروع وتصريحات المسؤولين في وزارة الكهرباء لا تزال غامضة على الرغم من الظروف الاقتصادية التي يعانيها المواطن.
ودعا الحكومة الاتحادية الى "عدم التوجه إلى خصخصة هذا القطاع"، مشيراً إلى ان "الأمر سابق لأوانه بسبب الظروف السياسية والاقتصادية والأمنية التي يمر بها العراق عموما".
وقال المواطن جعفر الغزي، انه "لاشك بان تسعيرة الكهرباء الحالية في العراق هي ارخص تسعيرة للكهرباء ولا تقارن بأسعار الكهرباء في بقية دول العالم وهذا ما يتحجج به المسؤولون في الدولة العراقية وهدفهم نقل تجربة الدول التي يحملون جنسيتها في مجال التسعيرة فقط". ودعا الغزي، المسؤولين في الحكومة المحلية والاتحادية الى "مقارنة اوضاع التعليم والصحة والزراعة والمواصلات وغيرها من الامور الاخرى في العراق بالبلدان الاخرى"، مبيناً ان "نظرة بسيطة الى الوضع العراقي تجبرك على الغاء هذه الفكرة المشؤومة وهي (خصخصة الكهرباء)".
و... ننتظر!
يقال ان لجنة الطاقة البرلمانية أعلنت رفضها إحالة مشروع جباية اجور الكهرباء الى المستثمرين.
وبينت أن "مشروع جباية اجور الكهرباء، تضمن الكثير من السلبيات ومن بينها ان الدعم الحكومي لقائمة اجور الكهرباء بالنسبة للأهالي ينحصر باستهلاك (١٠٠٠) كيلو واط ، وهو قليل جدا مقارنة بمعدل استهلاك العوائل الصغيرة والمتوسطة الذي يصل الى ما يقارب(٣٠٠٠) كيلو واط"، مردفا "خاصة في المحافظات التي تتميز بمناخ حار ورطب حيث يضطر المواطن إلى استخدام اجهزة التكييف لساعات طويلة الأمر الذي يترتب عليه ارتفاع اجور الجباية، وكان الاجدر بالحكومة ووزارة الكهرباء قبل ان تشرع في منح مشروع الجباية إلى مستثمرين للضغط على المواطن بغية ترشيد استخدام الطاقة الكهربائية او تفعيل جباية الاجور، تقديم الدعم المادي الكافي الذي يمكنه من تحمل هذه الأعباء ، وان لا تعتمد الجباية فقط على المنازل فقط وإنما تفرض على المحال التجارية والصناعية والمعدات الزراعية".
ولفت إلى، أنه "لا يزال مصير عديد العاملين في وزارة الكهرباء مع المستثمر مجهول، وبالأخص موظفي العقود والاجراء اليوميين فضلا عن اليات الوزارة ومعداتها والتي تم صرف المليارات عليها. ولكن غياب التنافس في تأهيل الشبكة الكهربائية وحصرها بيد المستثمر وبكلف مالية تحدد من قبل دوائر التوزيع، يعني احتمالية التواطؤ بالكلفة التخمينية للمشاريع مع المستثمر، الذي قد يقدم على استخدام أو تأجير الاليات الخاصة بدوائر الكهرباء مقابل مبالغ مادية معينة او يجهز باليات من قبله وهذا يعني اندثار الاليات الحالية. لذلك على وزارة الكهرباء أن تتحمل مسؤوليتها في تحسين تجهيز الطاقة من خلال تنفيذ المشاريع بشفافية عالية ومحاربة الفساد قبل التضييق على المواطن ومحاولة منعه من تشغيل ابسط الاجهزة الكهربائية. فهي ملزمة بدعم المواطن ذي الاستهلاك المتوسط والبسيط، لان التسعيرة الحالية يترتب عليها قوائم بمبالغ مرتفعة. ما يعني ضرورة إعادة احتساب كلفة الطاقة الحقيقية لإنتاج الطاقة الكهربائية وإعداد الخطط التي تسهم في تقليل كلف الانتاج وبالتالي يكون سعر التعرفة مدعوما من خلال تنفيذ المشاريع الانتاجية ذات المواصفات العالمية والتشغيل الصحيح للمحطات واستخدام انواع وقود جيدة