مدارات

في متابعة ما يحدث عن شعبوية ترامب وتراجعاته

رشيد غويلب
منذ تولي الرئيس ترامب مهام منصبه تنوعت التوصيفات التي يطلقها المتابعون على حكومته" حكومة الاستبداد، الفساد ، التخريب، الفاشية، سلطة الجمهوريين، ودكتاتورية ترامب". ويذهب متابعون من اليسار الأمريكي إلى تسميتها إدارة جمهورية قائمة على المنشطات، وذلك انطلاقا من خطاب ترامب وسلوكه اللذين يعتبران فريدين من نوعهما في تاريخ مؤسسة الرئاسة الأمريكية، نتيجة لنبرة خطاب ترامب الرنانة ومزاجيته العالية. ولكن من الضروري فصل ذلك عن الأنشطة والمقترحات الملموسة التي تعتمدها ادارته.
ما عدا ذلك يجب أن ندرك ان ترامب وجمهورييه في إطار واحد. لأن ما يقترحه ترامب موجود لدى الجمهوريين منذ زمن بعيد.فالحزب الجمهوري لا يمثل نمطا تقليديا لأحزاب اليمين المحافظة التقليدية في أوربا، بل يقف بعيدا على يمين هذه الأحزاب. وفي الحملة الانتخابية اكتسبوا نموا لليمين الشعبوي، على شاكلة مستشار الرئيس ستيف بانون.
إن التيارات الأكثر يمينية في الحزب الجمهوري، ودعوات ترامب العنصرية ضد المهاجرين لا تختلف في الجوهر عن دعوات اليمين الشعبوي الأوربي. لذلك لا ترى بعض أوساط اليسار الأمريكي في ترامب أو ما يسمى بـ"الترامبية" شكلا من الفاشية، فالشوارع في الولايات المتحدة الأمريكية لا تسيطر عليها "قوات عاصفة"، بل يسيطر عليها المحتجون ضد ترامب. و لم يستطع ترامب ملء مواقع الإدارة والسلطات بأنصاره. وهو أمر سيكون على سبيل المثال يسيرا على زعيمة اليمين الشعبوي الفرنسي ماري لوبان في حال فوزها بانتخابات الرئاسة الفرنسية. بالإضافة إلى ذلك يواجه ترامب مقاومة من داخل مؤسسات الدولة. إن الوضع سيئ للغاية، ولكنه لا يمثل الوحش الفاشي، بل نموذج لدولة الجمهوريين المنفلتة.
إن مؤسسات الديمقراطيين تملك قوة لا تقل عن تلك التي يملكها ترامب، ولكنه يملك فضاء كبيرا للمناورة ورثه من توسع صلاحيات مؤسسة الرئاسة الأمريكية في السنوات العشرين الأخيرة. لقد بدأ ذلك في عهد بوش الابن، واستمر في عهد اوباما، بما في ذلك أزرار الأسلحة الأكثر حداثة والتي تظل واحدة من القضايا المحصورة بالرئيس. وبدلا من فكرة انهيار الجمهورية، تعيش البلاد أزمة شرعية النظام السياسي. لقد تدنت ثقة الناخبين بالكونغرس ، والكثير منهم لا يشاركون في التصويت، وعدد غير قليل من الناخبين لا يرون منفعة كبيرة في العمليات الانتخابية بشكلها الذي كرسه النظام السياسي. الديمقراطية الأمريكية تعاني مشاكل هيكلية، تجسدها ثنائية السلطة.فإذا خسر ترامب الانتخابات القادمة، فسيصبح هناك رئيس ديمقراطي وكونغرس جمهوري، أي إن المراوحة تصبح سيدة الموقف.
إن التعارض بين رؤية مستشار الرئيس " الاقتصادي القومي"، والذي يتبنى حمائية اقتصادية عالية، ورفع وتيرة التصدير، وربما إعلان حرب اقتصادية على الصين، ورؤية بقية أعضاء حكومة ترامب الذين يمثلون المصالح المعروفة لرأس المال المعولم ، لا يمثل مشكلة عصية الحل، وسوف لا يؤدي إلى الفوضى. لان الرأسمال يمتلك آليات قادرة على ادارة هذه المشكلة. إن الدولة الرأسمالية والطبقة الرأسمالية تمارس لعبة العصا والجزرة، وتسلط ضغطا على ترامب .
فعلى سبيل المثال عندما يريد ترامب فرض 20 في المائة ضريبة على البضائع المكسيكية، فسيواجه ضغوطا قوية، لان هذه السياسة تنعكس سلبا على الأرباح المتحققة. وهذا أمر غير مقبول، لأنه يتطلب إعادة هيكلة النشاط التجاري. وبعد يوم أو اثنين يتم سحب المقترح، او تعديل صياغته. ولكن عندما يقول ترامب: سوف امنع وصول لاجئين جدد، فهذا يتفق مع منهج المستشار ستيف بانون، وسوف لا يجد الرأسماليون مشكلة في ذلك. وعندما أعلنت الشركات في سليكون فالي احتجاجها، لان العاملين فيها من حملة الكرين كارد مشمولون بقرارات الرئيس ويصعب استبدالهم، ألغت المحاكم قرار الرئيس. وصدر مرسوم جديد يأخذ بنظر الاعتبار سبب الاحتجاج.
بعبارة أخرى: لإزالة تناقض كهذا ، تفرز الدولة الرأسمالية ما هو مقبول وما هو غير مقبول. ومن الممكن ان يتعايش جناح رجال الأعمال الجمهوريين في الكونغرس بواسطة حلول الوسط مع وعود ترامب الشعبوية.
وإذا أراد ترامب ، على سبيل المثال، استثمار أموال كثيرة في البني التحتية وبرنامج لتوفير فرص عمل جديدة، ولا يريد الاقتصاديون الليبراليون التقليديون في الحزب الجمهوري عجزا في الإنفاق، فيصار إلى حل وسط في شراكة مختلطة بين القطاعين العام والخاص، وترك المرونة للقطاع الخاص في الحصول على فرص عمل غير محمية نقابيا وبأجور واطئة.
وإذا ما أقدم ترامب على ما يحد من الربح الرأسمالي، سيحاول ممثلو رأس المال في البورصة الإيقاف الفوري للإجراء. وسيعمدون إلى تشجيع بعض الأنشطة، وإبطاء أخرى. إن لازدهار سوق الأسهم أسبابه. عندما يرى الرأسماليون ان ترامب يسعى إلى فرض حمائيته، والتي ستكون مفيدة فقط لجزء صغير من الصادرات الأمريكية، عندها لن يكون هناك ازدهار لسوق الأسهم، وسيكون الحال معكوسا.
لا تمثل الفاشية في الوقت الحاضر اتجاها رئيسا في المجتمع الأمريكي، وهذا لا يعني أنها غير موجودة. والولايات المتحدة غير محصنة. والخطر قائم في تطور شعبوية استبدادية. ولكن ذلك لا يجسد الفاشية، في أهدافها، ولا في قدرتها على التعامل. وينبغي ان لا يجري التفكير وفق هذه المعايير، فتكتيكات مواجهة اليمين الشعبوي يجب ان تكون مختلفة عن تلك التي تعتمد ضد الفاشية. وتبقى مواجهة أي تحرك للمجموعات الفاشية ضرورية