مدارات

طرق الأبواب في نيويورك، تجربة انتخابية جديرة بالدراسة

اعداد رشيد غويلب
من غير المعتاد أحيانا، أن تطرق، ومن دون موعد مسبق، أبواب أناس لا تعرفهم، لتبدأ الحديث معهم في أحوال البلاد السياسية والإقتصادية والبدائل التي تراها ممكنة. وتصبح المهمة اصعب عندما تقوم بذلك في بلد آخر. ولكن التجربة اثبتت ان عملا كهذا ممكن وممتع ايضا، رغم حواجز اللغة وما يصاحبها من تردد. هذه كانت نتيجة مشاركة رفاق يمثلون مختلف منظمات حزب اليسار الالماني في ورشة عمل نظمتها في تشرين الأول الفائت مؤسسة روزا لوكسمبورغ الالمانية في نيويورك بالتعاون مع حزب "العائلة اليساري الأمريكي"، وفي ختام الورشة شارك الرفاق الألمان رفاقهم الامريكان في عمليات طرق الأبواب، في اطار نشاطهم الانتخابي والتعبوي.
وحزب العائلة اليساري غير معروف نسبيا خارج الولايات المتحدة الأمريكية. فعندما تتحدث عن الاحزاب في الولايات المتحدة يقفز الى الذهن الحزبان المهيمنان على الحياة السياسية والدستورية الديمقراطي والجمهوري، في حين ان الولايات المتحدة تعج بالعديد من الاحزاب السياسية الاخرى، والتي يطلق عليها الأحزاب الثالثة، حزب الخضر الذي يخوض السباقات الإنتخابية والحزب الشيوعي الأمريكي وغيرها الكثير. لقد اتخذ حزب العائلة العاملة مسارا آخر: تأسس الحزب في نيويورك عام 1998 من قبل ناشطين نقابيين، ومبادرات تنتمي إلى الحركة الاجتماعية للنضال ضد سياسة الليبرالية الجديدة في عهد الرئيس كلينتون.
فهم سياسي مختلف
وفي هذه الإثناء أصبح للحزب فروع في 11 مدينة، وتبلغ عضويته 60 الفا . وكان الحزب القوة الرئيسة في الحملة الانتخابية للمرشح اليساري بيرني ساندرز. ويدعم الحزب كذلك مرشحو الحزب الديمقراطي التقدميون للكونغرس ومجلس الشيوخ. ويعتمد الحزب في نشاطه الانتخابي بشكل رئيس حملة طرق الابواب.
وكذلك حملة " النضال من اجل 15"، الداعية الى حد ادنى للاجور مقداره 15 دولارا في الساعة، وكذلك مشاركته في الحملة المضادة للعنصرية وعنف الشرطة "حياة السود مهمة". ويجمع الحزب في نضاله بين القضايا الاجتماعية والدفاع عن الاقليات، بدلا من جعلهما متعارضين.
والملفت لنظر زائري مقر الحزب الرئيس في حي بروكلين في مدنية نيويورك هو الحركة الدائبة للداخلين الى المقر والخارجين منه، والاجواء في داخل المقر هي غير الأجواء المتعارف عليها في مقرات الأحزاب الأخرى، فالمقر عبارة عن ورشة عمل وحركة دائبة، هنا يجري إعداد المتطوعين في حملة طرق الابواب، وهناك يعمل فريق تصميم الفيديو القادم في الموقع الإلكتروني، وبين الاثنين هناك من يقدم للضيوف الألمان عرضا لكفية تنفيذ الحملة.
وبالنسبة لرئيس حزب العائلة العاملة دان كانتور، فان عملية كسب الأصوات، لا تنحصر في تسويق بضاعة سياسية: " ان الحديث مع الناس في ابواب منازلهم عن قضايا تعنيهم، ليس شكلا ناجحا لتنشيطهم فحسب، انما هو تعبير عن فهم سياسي جديد، فعندما لا نملك مراكز الإعلام الكبرى، ولا الأموال الطائلة، فليس امامنا سوى حمل افكارنا مباشرة اليهم". وهذا ينطبق على الوضع الذي يتناقص فيه عدد الذين تنتهك مصالحهم باستمرار، في المشاركة في الانتخابات.
وبسرعة يجري شرح عملية كسب الأصوات. والهدف هو كسر الحصار على السياسة اليسارية، ولغرض تجاوز الفرص غير المتكافئة لناخبي الفئات الفقيرة، يذهب النشطاء مباشرة إلى سكان الأحياء المعنية. وبمساعدة دليل لكيفية اجراء الحوارات، يتحدث النشطاء مع السكان عن مشاكلهم ومصالحهم وخيارتهم السياسية. يكشفون عن هويتهم السياسية، ويسألون السكان عن تجاربهم، ويسعون نحو الحصول على التزام منهم بانتخاب مرشحيهم، وانهم مستعدون للحديث مع جيرانهم.
ان الاساسي في حملة طرق الابواب هو التحديد المسبق للذين يمكن تعبئتهم، ويجري تحديد الرسائل التي يمكن ايصالها إليهم. وبعد انتهاء الانتخابات يتم الحفاظ على الصلة بهم اما بواسطة التلفون او بمتابعة زيارتهم. ولهذا فان الهدف ليس الحديث مع اكبر عدد ممكن من الناخبين، بل المطلوب هو الوصول إلى الناس الذين يمكن ان يكونوا متعاطفين، لغرض حثهم على المشاركة في التصويت. وبهذه الطريقة يتم استبدال حملة الانتخابات الاعلامية عبر الأثير، بحملة طرق الابواب التي تتم على الأرض، في الوقت نفسه يتم إيصال فهم فاعل بالمشاركة. ان مفهوم كسب الأصوات ذو تقاليد قديمة في الولايات المتحدة الأمريكية، ومنذ عقود تقوم النقابات والحركات الاجتماعية باستخدامه. والجديد هو استخدام معارف العلوم الاجتماعية بانتظام لتحديد المجموعات المستهدفة، وتبويب المعطيات. و في انتخابات 2008 التي انتصر فيها اوباما، لعب هذا الأسلوب دورا حاسما في تعبئة السود واللاتينيين، وكذلك في تحقيق النجاح المفاجئ لحملة بيرني ساندرز في عام 2016 ، حيث تم الوصول إلى انصار ساندرز برمشة عين.
ووفقا للدراسات، فان الحديث المباشر أمام الأبواب يكون أكثر فعالية من توزيع النشرات والمقالات الصحفية وحتى الإعلانات التلفزيونية. ويستخدم الجمهوريون والديمقراطيون هذا الأسلوب، مستفيدين من الحصول السهل على البيانات الخاصة بالناخبين، مقارنة بالبلدان المتطورة الأخرى التي تكون فيها قوانين حماية المعلومات الشخصية أكثر تعقيدا. لقد بدأت الأحزاب الكبيرة في البلدان الأوربية باستنساخ التجربة الأمريكية. ويناقش الحزب الديمقراطي الاجتماعي الألماني فكرة اعتماد حملة طرق الأبواب باعتبارها" وسيلة أساسية في حياة الحزب الديمقراطي الاجتماعي في القرن الـ 21 ".
ويشير رئيس حزب العائلة العاملة إلى إن استخدام حملات طرق الأبواب أكثر انتشارا في الثقافة السياسية الأمريكية مقارنة بالبلدان الأخرى، حيث ينظر إليها باعتبارها تحرشا. ويضيف "بقدر إعجاب الضيوف القادمين من بلدان أخرى بهذا الأسلوب التعبوي، إلا إن هناك على الدوام بينهم من يعتقد بعدم فعالية هذا الأسلوب في بلده". ولكن التجارب حتى الآن تقول "إن هذا الأسلوب فاعل من نيكاراغوا إلى شتوتغارت الألمانية". ولكن نجاح الحملة يعتمد على عدد الأبواب التي يتم طرقها، وطبيعة الأسئلة المطروحة، وعدد المشاركين في الحملة ودرجة إبداعهم في تنفيذها. إن القيام بالحملات مدفوعة الأجر التي يمارسها الجمهوريون والديمقراطيون، وكذلك حزب العائلة العاملة في ذروة الحملة الانتخابية تعاني مشاكل عديدة. فالمتطوعين المقتنعين بالمشروع السياسي للحملة، او بشخصية المرشح يكونون عادة أكثر دقة وأكثر إنتاجية.
تبادل الخبر
وهذا بالضبط ما يجعل هذا الأسلوب التعبوي بالنسبة لأحزاب اليسار مغريا، فالنشطاء الذين ينطلقون من قلب المعاناة السياسية والاقتصادية، والذين يواجهون مصاعب الحياة اليومية مباشرة، يكونون عادة أكثر ملموسية وأكثر مصداقية. والتجربة الأحدث التي أكدت نجاح هذا الأسلوب هي حملة طرق الأبواب التي نظمها حزب اليسار الألماني خلال الأسابيع الماضية، لإشراك سكان الإحياء الفقيرة في صياغة برنامجه الانتخابي للانتخابات البرلمانية العامة في الخريف المقبل، فبالكاد كان هناك من يرفض الحوار، فيما عبرت الأكثرية عن سعادتها لوجود حزب يهتم بهم وبمشاكلهم.
وواضح إن عملية كسب الأصوات تكلف وقتا وجهدا، ويحتاج الحزب إلى جمهرة من النشطاء للوصول إلى نتائج ملموسة. والحملة ليست حلا سحريا، فإذا كان البرنامج الانتخابي، او المرشح غير مقنع فلن تأتي الحملة ثمارها. ويحتاج المرء إلى تحول في الثقافة السياسية في الحزب ليرى إن الفعل السياسي يتجاوز شركات الإعلام والحوارات التلفزيونية ، وأساليب التعبئة النمطية. وفي لحظة ما يجب على المرء إن يجرب الجديد ليعطي حيوية وزخما للخبرة المتراكمة.
وبعد فوز ترامب نظم حزب العائلة العاملة تجمعات أسبوعية كبيرة تحت شعار "منزل المقاومة"، تهدف إلى: " لنصبح اكبر وأفضل وأكثر ذكاء".