مدارات

أيام مفعمة بالحب والأمل ..(17) / فيصل الفؤادي

مخابرات النظام وعملائه
عندما كان الحزب في ظروف شبه علنية من خلال تحالفه مع السلطة في الجبهة الوطنية والقومية التقدمية، سخّر النظام كل امكانياته في سبيل الحصول على معلومات عن أسرار الحزب وتنظيماته ، فوضع الأجهزة التصنتية وراقب التلفونات وحركة قيادة الحزب وبيوتهم وتنقلاتهم. كان النظام يريد ان ينهي الحزب او يحوله لتابع له مدعياً بأنه الحزب القائد للجبهة الوطنية، والقادر على إتخاذ أي سياسة أو قرار لوحده. أي أنه أراد أن يطلق إحدى قدمي العصفور ويربط الأخرى مدعياً بإنه حليف "ديمقراطي".
وقد قام النظام بإرسال عملائه الى مقرات الأنصار، بعد ان ادخلهم في دورات امنية ومخابراتية، تعرفوا خلالها على الأساليب الكفاحية للحزب وعلى شخصية الشيوعي النفسية والثقافية، ووفر لاولئك العملاء مختلف الإمكانيات في سبيل ايصالهم الى الهدف المرجو. وقام النظام بتشكيل الشعبة الخاصة بمتابعة الحزب الشيوعي العراقي، ورفدها بمختصين وذوي الإمكانيات الجيدة في محاربة الشيوعية. كما قام بالضغط على عوائل الشيوعيين لتجنيدهم وإستحصال ما يحتاجه من معلومات عن وضع التنظيم الحزبي وطريقة عمل المنظمات الحزبية.
لقد أرسل النظام عملاء بترحيلات حزبية مزورة، وجند بعضا من فلاحي المنطقة، وأرسل بعض العوائل للسكن قرب مقرات الأنصار، وأرسل بعض النساء لإغواء الأنصار (الشباب منهم والمعزولين عن الحياة) أو أرسل بعض عناصره الى الخارج لتندس في تنظيمات الحزب وتنتقل منها الى مقرات الأنصار في كردستان. راجع كتابنا (من تاريخ الكفاح المسلح لأنصار الحزب الشيوعي العراقي، ففيه الكثير من التفصيل). كانت خبرة النظام كبيرة وقد إستمدها من بعض الدول الغربية والشرقية، ووجهها ضد حزبنا بشكل خاص وضد مختلف الأحزاب الكردستانية في ذات الوقت.
كان التخريب الذي مارسه المدعو (ف.ح) والذي بسببه استشهد العديد من الرفاق، من الإضرار التي أصابت تنظيماتنا في الداخل وحتى حركة الأنصار. ففي عام 1986 تم إعدام الرفيق محمد وردة (أبو جيفارا) من قبل البعث، وحكم على والدته العجوز ذات الثمانية عقود بعشرين سنة سجن، بتهمة نقل السلاح والبريد من كردستان إلى قيادة التنظيم في محافظة ديالى وبغداد. وحكم على أخيه سردار أيضا. وكان الشخص الذي قام بتسليم أبو جيفارا إلى مديرية أمن دهوك العميل المزدوج شهاب، الذي نفذ طلب الجهات الأمنية في اغتيال أعضاء محلية دهوك أبو رؤوف وأبو خالد ونصير أخر، على خلفية تداعيات (ف.ح)، وإلقاء القبض عليه من قبل قوات الحزب في كردستان، وتحديدا في مناطق بهدينان (زيوة). حدثني الرفيق عامل بأن المدعو (ف.ح) قد كلف بالذهاب الى بغداد للعمل في تنظيم الداخل عبر تنظيمات الموصل. وفي دشت الموصل وبالتحديد قرية دوغات، طلب الرفيق عامل من (ف.ح)، التريث بالسفر بسبب وجود معلومات تشير الى وجود إستنفار أمني وعسكري في المنطقة ، لكنه أصّر على النزول، فأوقف في أول سيطرة أمنية، كان العميل المزدوج شهاب لحسن الحظ ضمن مفرزتها، فراقب الصفقة التي تمت بسرعة بين (ف.ح) وضابط الأمن بغية لملمة القضية قبل أن تصل تداعياتها واخبارها الى تنظيمات الحزب، وكيف تم أخلاء سبيل (ف.ح) وترتيب وصوله بسلام إلى مدينة الموصل.
أبلغ شهاب التنظيم في الساعة واليوم بما جرى، لكن (ف.ح) وصل إلى بغداد، ولم تعد هناك فرصة للتحقيق معه، إلا قُبيل انعقاد المؤتمر الرابع للحزب في كردستان، حيث استدعي (ف.ح) ضمن مندوبي المؤتمر من الداخل.
في الأيام الأولى من وصوله، فتح تحقيق معه، لكنه كان ينكر اعتقاله ويتجاهل ما يسمعه ويستهزئ بالخبر، مما دعا قيادة التنظيم الى استدعاء شهاب إلى مناطق العمادية، وإرسال (ف.ح) مع كل من أبي طالب الذي أعدم أيضا لقضية مشابهة، والرفيق أبو برافدا والملازم أزاد في مفرزة إستطلاعية وبالتنسيق مع محلية دهوك. في اللقاء تعرّف شهاب على (ف.ح) فتم إعتقاله وجرد من السلاح.
في اليوم التالي علمت أجهزة الأمن بما جرى، فاعتقلت شهاب وعائلته، وردا للاعتبار طُلِبَ منه تصفية قادة محلية دهوك، وعلى وجه العجالة طلب العميل شهاب إجتماعاً مع قادة المحلية لأمر مهم ، وتمكن من اغتيال الرفاق واختفى.(من كتابات الكاتب النصير صباح كنجي)
ارسل النظام الدكتاتوري العشرات من ازلامه للاندساس بين الأحزاب الوطنية والقومية في كردستان والخارج حيث تتواجد القوى الوطنية العراقية ومن خلال السفارات العراقية في ذلك الوقت. وتم كشف الكثيرين منهم ومحاسبته، كما أفلت عدد منهم ورجع الى مسؤوليته في جهاز المخابرات والأمن بعد أن نفذ مهمته التخريبية. وشمل العمل التخريبي لهؤلاء تخريب العلاقة بين الأحزاب وإشاعة اليأس والإغتيال وبث الدعايات المغرضة والتقليل من شأن حركة الأنصار ومن جدوى النضال ضد النظام ولتغيير القناعات. وسبق وان اشرنا في كتابنا السابق الى اساليب النظام وخططه والمهام المناطة للأجهزة الامنية والحزبية والقيادات، وكان لدى الحكومة معاهد منها (معهد ابن الهيثم وجامعة البكر) وهما مختصان في الدراسات العسكرية العليا والأمنية.
من جانب الأنصار فقد كانوا يتابعون تصرفات بعض الملتحقين وقد نجح الأنصار في فضح هذا المندس او ذاك، في حين نجح احد المندسين ويدعى (ممو) عند إرساله من قبل اجهزة السلطة التي وجهت الى انصارنا وبالذات للتنظيم المحلي ضربة موجعة خسرنا على اثرها مجموعة من الأنصار الذين يعملون في تنظيم محافظة اربيل وهي مجموعة النصير (عباس ورفاقه الخمسة عشر نصيرا).
حيث قبضت أجهزة السلطة على المدعو (ممو) منذ عام 1977، وبعد ان علم التنظيم الحزبي لمنظمة اربيل بوضعه قام بتجميده من التنظيم. لكنه حاول الإلتحاق في عام 1980 بالحركة الأنصارية في نوزنك وحين رفضه الحزب التحق بحزب كردستاني. وبعد فترة راح يتعاون مع رفاقنا ويساعد رفاقنا الأنصار عند دخولهم اربيل ويخفي بعض اعضاء التنظيم المحلي، مما تعززت معه ثقة بعض الرفاق به، فأعيد للتنظيم.
اقترح ممو على مجموعة من الأنصار أن تدخل أربيل حيث سيؤمن هو إنسحابها الى الجبل بواسطة شاحنة تابعة للبلدية وان بإمكانه تدبير هذه الأمور، وإنه سيرتب الهويات والأوامر الأدارية المطلوبة. وعندما تجمع الأنصار في الليل وفي بيت محدد لهم، قدم لهم صاحب البيت مشروب كوكا كولا فيه مادة منومة. وقد جاءت قوة كبيرة من الجيش والجحوش ودارت معركة استشهد البعض من الأنصار واعتقل اخرون وهم نائمين واقتيدوا الى اللجان التحقيقية في كركوك ثم الى المخابرات العامة في بغداد واعدموا جميعهم، فيما هرب ممو من المنطقة.
قام الأنصار بمتابعة الجحوش الذين كانوا مساعدين للنظام ومخابراته، وكان عددهم حوالي نصف مليون، وهم في معظمهم ينتمون الى عشائر كردية موالية للنظام تاريخياً، تدفع السلطة لهم الاموال الطائلة والسلاح المختلف والأجهزة المتطورة، وتعفيهم من الإلتحاق بجبهات الحرب مع إيران.
عاني الأنصار والبيشمه مركه من دور هؤلاء الجحوش من خلال وضع الكمائن او المعارك التي تخاض في المنطقة والقرى والشوارع الرئيسية قرب الأفواج والألوية. وقد استشهد الكثير من انصارنا من جراء موقف الجحوش (يطلق عليهم النظام الدكتاتوري أسم الفرسان).
السجون
في جميع القواطع والأفواج بنيت سجون، بعضها محكم وبعضها سيء البناء، ساعد على هروب البعض من السجناء. جميع السجناء من العملاء ومخابرات السلطة والأمن او من الجحوش، ولا اذكر وجود أي جندي عراقي فيها، لأنهم كانوا يخيّرون بين الإلتحاق بالأنصار أو الرحيل لذويهم.
وكانت هناك لجنة تحقيق من الرفاق الأنصار الذين لديهم شهادات في المحاماة ولديهم خبرة ومعرفة في أساليب النظام الخبيثة. لقد وصل العديد من الملتحقين بتراحيل حزبية مزورة، خاصة بعد عام 1983. وقد دخل السجون عملاء سلطة محترفين، وكانت لهم معرفة جيدة بأسلوب وطريقة عمل التنظيم الحزبي وحتى ثقافة الشيوعيين والأمور السياسية ولهم معرفة بتاريخ الحزب ...الخ. لقد تعامل الأنصار مع بعضهم بطيبة وصلت حد السذاجة وساعدوهم وعطفوا عليهم، في حين كان هؤلاء مرسلين لأيذاء الأنصار وقتلهم عبر دس السموم في الأكل او سحب الأبر من الأسلحة او الإغتيال وغير ذلك من الأساليب التي يستعملها النظام ومخابراته.
المقابروالشهداء
تكاد تكون لنا في كل ارض كردستان خاصة والعراق عامة قبور لشهداء، حيث كانت المواجهة مع السلطات الدكتاتورية محتدمة دوماً. وطيلة سنوات النضال المسلح للحزب في كردستان العراق منذ عام 1963 سقط لنا شهداء كثيرون. كنا ندفن شهداءنا في مقابر خاصة او في مقبرة الاهالي وبموافقتهم. وللأسف فقد قامت السلطة أحيانا بدفن الشهداء الذين إستشهدوا في سوح المعارك ولم نستطع نقلهم الى اماكن امينة (الأراضي المحررة)، وبطريقة وحشية كما حدث للرفاق عائد وحكمت، كما قامت السلطة بالتمثيل بجثث الشهداء ودعوة الناس لإعلامهم ان هؤلاء عصاة ومن الشيوعيين.
بعد سقوط النظام الدكتاتوري بنيت مقبرتان لشـــــهداء الحزب
الشيوعي العراقي في اربيل والسليمانية.
غدا،
عندما يزور وطني وفد ويسألني:
اين هو ضريح الجندي المجهول؟
اقول:
سيدي، في حافة كل جدول،
على عتبة كل مسجد،
امام باب كل بيت،
كل كنيسة،
كل كهف،
على صخرة كل جبل،
على شجرة كل روضة،
في هذا الوطن،
على كل شبر من وجه البسيطة،
تحت كل ياردة من السماء،
لا تخف!
اخشع قليلاً،
ثم ضع اكليل زهورك!
كان الشيوعيون يحترمون مقابر القرى، فهم لا يدخلوها اطلاقا ويحافظون عليها. إضافة الى مشاركتهم في مراسيم دفن الاهالي من القرى ومشاطرتهم احزانهم، من خلال المشاركة في العزاء ومساعدة بعض ذويهم المحتاجين بشيء من الرز والدهن وغيرها. وكانت تجري مراسيم الدفن بإطلاق العيارات النارية وفق التقاليد.
في كردستان، توجد في كل قرية مقبرة خاصة بأهاليها، تسيج بواسطة سياج حجري، ويتعاون على إقامتها ابناء القرية أنفسهم. وعادة ما تكون المقبرة مظللة باشجار البلوط وتوضع عليها اقمشة ملونة وهي ترتبط بالدعاء للميت بالجنة والخلود. لقد فقدنا المئات من الأنصار من كوادر علمية وفنية وعمالية وفلاحية وطلابية وكذلك من كل القوميات والاقليات التي يتكون منها الحزب، هذه الفسيفساء الجميلة (الموزائيك الجميل) هي صورة للعراق بحد ذاته. وللأسف سقط بعضهم بسبب القتال الداخلي مع القوى التي ترفع نفس شعارنا، الديمقراطية للعراق وبناء بلد الحريات والحقوق. لقد دفن بعض من شهدائنا في مقابر القرى، حيث كنا نسجي الشهيد بملابس القتال وبدمائه الزكية وببطولة وشموخ الشيوعي، وطالما حرصنا أن نذكر سجايا هذا المناضل ونحن نودعه الوداع الأخير، مجددين العهد على مواصلة دربه لتحقيق أهدافنا التي مات من أجلها.